طيفُ سورية: السكنُ في العالم
يقولُ درويشُ في “ذاكرةٌ للنسيان“: هنالك ما هو أقسى من هذا الغياب: ألَّا تكون معبرًا عن النص، وألَّا تكون معبرًا عن الهزيمة، أن تكون خارج المسرح و لا تحضر عليه إلّا بوصفك موضوعًا يقوم الآخرون بالتعبير عنه كما يريدون.
طبعا إنَّ ما يهمنا هنا هو مفهوم “الغياب” و “الحضور” اللذان كانا يصاحبان الفلسفة منذ أفلاطون بتساؤلِه حول ماهية الصورة: هل هي موجودة أم غير موجودة. ثُمَّ في محاولته لتعريف السفسطائي: هذا الكائن الزئبقي الذي يتموقع بين الوجود و اللاوجود بين الحضور و الغياب.
نجد كذلك هذا الزوج المفهومي حاضرًا في كتاب “أصل العمل الفني” لمارتن هايدغر في قراءته للأثر الفني بين الخفاء والانكشاف، بين الانفتاح الانغلاق. السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا مباشرة هو: ما الموقع الذي أحتله بين هذين الطرفين “الحضور والغياب”؟ وكيف يمكن للذات أن تقيم* داخل العالم؟ وهل تتحقق هويتي من خلال المكان الذي أنتمي إليه؟
في تصدير كتاب الأنطلوجيا هرمينوطيقا الواقعانية (1923) يخبرنا مارتن هايدغر بأن علينا أن ندفع بأسئلتنا إلى الأمام والأقصى، فيقول : ادفعوا بالأسئلة إلى الأمام، إنّ الأسئلة ليست شيئًا يمرُّ عبر رؤوسنا ولا نعلم من أين أتت، وليست تلك المشاكل التي تصمُّ آذاننا اليوم والتي تأسرنا لأننا سمعناها أو قرأناها والتي تُلقي بكمٍّ في غياب الحيرة، تنبثق الأسئلة من مواجهة الأشياء، التي هي موضوع السؤال، وليست الأشياء موجودة هنا إلّا إذا كانت هناك أعين تراها.
قد تكون تجاربنا الشخصية واليومية مناسبةً لطرح الأسئلة والتفكير الفلسفي من خلال وضع هذه التجارب موضع سؤال، حيث في النهاية هي جزء من تشكُّل هويتنا وهي منجم الذكريات الخاصة بنا. فكلما تساءلت عن الإقامة في العالم وعن مشكل الهوية إلّا وعادت بي الذاكرة إلى صديقتي السورية، فكلما تمشينا سويًا على الأرضية المبلطة في المدينة العتيقة بتونس تخبرني أنها تشبه السوق في دمشق، رائحة العطر والبخور، الآثار على الجدران والدكاكين التي تعبِّقُ برائحة الجلد كلها تمثل سيمفونية تتألَّف داخل الذاكرة فتنتج لنا ذاكرة فرحة تارة وأخرى مبعثرة وحزينة تارة أخرى، تنتقل الذكريات من زاوية سيدي محرز إلى مقام ابن عربي من جامع الزيتونة إلى الجامع الأموي ومن الكنيسة بالشارع الحبيب بورقيبة إلى كنيسة الروس و من جبل بوقرنين إلى جبل قاسيون، من الزهراء تونس إلى الزهراء الشام. كلها أماكن قد لا تمثل للبعض منا سوى مجرد أسماء لا نعرفها إلّا على خريطة العالم ولكنها تمثِّل للبعض الآخر أزمة هوية و حالة بحث متواصل عن الأصل و الجذور. لنجرِّ نحو سؤالٍ وجوديّ؛ ما الذي يَبقى من هذه الأماكن؟
يقول ريكور في كتاب الذاكرة، التاريخ، النسيان: تواجه أي مدينة في الفضاء الواحد عصورًا مختلفة وتقدِّم لنا تاريخًا مترسخًا للأذواق والأشكال الثقافية، المدينة تقدم نفسها لنا كي نراها ونقرأها في آنٍ واحد.
قد يعجبك: الجنون الهوياتي قراءة في هشاشة الهوية
قد تكمن الإجابة في قول ريكور “لقد كنت هناك” حيث يحدثنا ريكور هنا عن اختلاط الزمان بالمكان واختلاط التاريخ بالجغرافيا، فالعبارة هنا مشوّشة وقدّ تضعنا في ارتباك؛ حيث بالفعل الماضي يشير إلى الزمن في حين يدل ظرف المكان هناك على الفضاء.*
طبعًا إن المشكل هنا هو الإقامة والسكن في العالم، هذا المشكل الذي نجده حاضرًا في فلسفة هايدغر في مفهوم “الدازين”، الكائن هناك من هنا يتساءل هايدغر عن كينونة الكائن.
طبعًا كلما تحدثنا عن كينونة تداهمنا أسئلة الهوية، أفاجئها بسؤالي “من أنتِ؟ زهرة دمشقية من ريف الغوطة أم ياسمينة نبتت على حافة شواطئ بنزرت؟” وتخبرني أنّها “نصف حياة” كما في قصيدة جبران، نصف تونسية ونصف سورية هوية مركبة وفي بعض الأحيان أشعر أنّي بلا هوية لأنّي بلا وطن فأنا تونسية هناك وسورية هنا، أنا لاجئة أينما حللت.
أخبرها على لسان ريكور “أنّ مكاني هو حيث يوجد جسدي”. وأنّنا كلُنا لاجئون حتى وإن كنا داخل أوطاننا، لقد تحول الفرد العربي اليوم إلى غريب لا يجد موقعًا يحطُّ فيه أقدامَه، كلنا نعاني غُربة روحية ونشعر أننا محدودين، فنحن دائمًا في بحثٍ متواصلٍ أم عن الهوية الضائعة، و أما عن سبل الدخول في الحداثة نحن لسنا القدامى و لسنا المحدثين، جيل المرور بين الحضور و الغياب. نحن دائمًا في بحثٍ متواصلٍ عن “القيمة” ليس في بعدها المادي و لكن في بعدها الروحي العميق.
أين نقيم اليوم نحن جيل الربيع العربي داخل العالم؟ وأي إنسانية علينا أتباعها؟
زمنيًا يمكن القول أننا لا نملك الحاضر فالعقل العربي اليوم في تأرجح بين الذكريات، الماضي المنصرم و بين ما لم يحدث بعد لكن الخطير في الأمر أن في كلتا الطرفين ثمة بُعدٍ سلبي فالذين يعيشون في الماضي هم يعانون من مفهوم التقدُّم فتاريخ عندهم لا يتخذ مسارًا مستقيمًا وإنما هو يسير في شكل دائري يعود على نفسه في كل مرة وأما من يعيشون في المستقبل فثمة خطر يدهمهم فالمستقبل ينقسم إلى جزئين إما الأمل وإما الرجاء، والمزعج في الأمر هو أنه هنالك من هم مستعدون لتفجير أجسادهم البشرية من أجل حياة أخروية .
يخبرنا ريكور أنّ السكن و الهندسة يلتقيان في بعض النقاط، فكل سكن يحتاج إلى عملية بناء ويحتاج إلى هندسة داخلية. وهنا أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو تصور غاستون بشلار للبيت فعلى حد رأيه كل بيت يحتاج إلى سقف أو عليّة وقبو، والإنسان دائمًا في جدلية صاعدة نازلة بين القبو وبين العلية؛ جدلية مغادرة الذات و العودة لها.*
ما يعانيه اللاجئ أو المشرد أو المرحَّل عن وطنه أو المنفي أنه لا ينتمي إلى بيته الأصلي، أنه ترك جزء من روحه و هويته هناك مع أخر خطواته مغادرًا طريق البيت. يقول ريكور في هذا الصدد؛ إن الإقامة و التنقُّل يشكلان نوعًا من النشاط الأولي الذي يجعل من المكان شيئًا معينًا يجب البحث عنه، من المخيف ألّا يجد المرء أي أثر له”.
من خلال هذا القول يتحتم علينا أن نطرح السؤال التالي لماذا نخشى مغادرة مقرّ سكننا؟
إن كل مغادر يشعر أنه ترك شيئًا ما خلفه، بقايا من بصماته على الطاولة ولطخلة من الدم على أحد الجدران وقليل من الجلد العلق على حافة السرير، كل مغادر يترك ما يشعره بالحياة هو يترك “أثر” وكل “أثر” هو محاولة لنزع الاعتراف، عملية يعلن من خلالها الفرد على وجوده الصارخ ويحاول من خلالها أن يفضح العالم وينكشف له، تاركًا الأثر يبحث عن البقاء. والبقاء في الأسطورة الإغريقية القديمة يرتبط بنهرين فالأول” نهر « Léthé » حسب الميثيلوجيا اليونانية نهر في العالم السفلي من شرب منه فقد ذاكرته يقابله نهر يدعى « Mnémosyne » من شرب منه عادت إليه ذاكرته و صار عليمًا بكل شيء”. و أما في كتاب سيرة الاعتراف لبول ريكور فهو يعرِّف البقاء على النحو التالي :”ما الذي يعنيه البقاء؟ بالنسبة إليّ شيءٌ يدوم”.
إن الشيء الذي يدوم و يستمر في الوجود هو الشيء الذي يفر من النسيان؛ لأن النسيان هو عملية محو للآثار فعلى حد قوله: نحن نرى أن النسيان يرافق كل طور من تأملنا في الذاكرة، فقد نبهنا ابتداء على النسيان بمناسبة إمحاء لأثار فبهذه الصورة النهائية هو(إمحاء) لا مناص منه.
و يعود السؤال من جديد ليضعنا في إحراج إزاء مسألة المغادرة :لماذا يخشى المغادر النسيان؟
و تكون الإجابة كالتالي: من المخيف ألّا يجد المرء أثرًا له، عندها سنكون نحن أنفسنا في حالة خراب، وحالة الاستغراب المقلقة المرتبطة بالشعور بعدم وجودنا في مكاننا المناسب حتى في عقر دارنا يؤرقنا و سيكون ذلك حكم الفراغ”.”الأماكن تتذكر الأحداث”.
و لكن درويش يذكِّرنا في كل مرة معلنًا في احتجاج مطلق “على قدر حلمك تتسع الأرض” ذلك في ما يتعلق بالمكان بالفضاء و أما للزمن فيقول: أيها الماضي لا تغيّرنا كلما أبعدنا عنك، أيها المستقبل لا تسألنا من أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضا لا نعرف، أيها الحاضر تحمِّلنا قليلًا. صديقتي، لا تخشي النسيان فأنتِ مؤرشفة في الذاكرة وفي الكتابة وربما وطن ضائع قد يعود، ربما يزهد الياسمين مكان القذائف.