دوستويفسكي الكاتب الذي توقع قيام الدول الاستبدادية!
كانت الأعمال الأدبية للروائي الروسي الكبير فيودر دوستويفسكي تتناول شخصيات بررت الجريمة في سبيل معتقداتها الأيديولوجية، وهذا الأمر حدا الفيلسوف الإنكليزي جون غراي إلى القول إن أعماله وأفكاره تمس الواقع وأحداثه منذ ذلك الحين، بدءًا من قيام الدول الاستبدادية في القرن العشرين وانتهاءً بما يسمى الحرب على الإرهاب.
لمّا بيّن دوستويفسكي في مؤلفاته مدى قوة الأفكار في تأثيرها على البشر وقدرتها على تغيير حياتهم، فإنه كان يعرف ما يقول حقّ المعرفة. ولد دوستويفسكي في موسكو عام 1821، ولمّا بلغ العشرينيات من عمره انضمّ إلى حلقة ثقافية راديكالية ناشطة في مدينة سان بطرسبورغ، كان أفرادها مفتونين بالنظريات الاشتراكية الطوباوية الفرنسية. وضمّت الحلقة آنذاك مخبرًا سريًا وشى إلى السلطات بجميع النقاشات التي خاضها أعضاؤها، فاعتقل دوستويفسكي وزملاؤُه وأودعوا السجن في تاريخ 22 نيسان عام 1842، وخضعوا لاحقًا إلى تحقيقات مطوّلة دامت أشهر عديدة، لينتهي بهم المطاف مدانين بتهمة التخطيط لنشر دعايات هدّامة في البلاد، فحُكم عليهم بالإعدام رميًا بالرصاص.
خُففت الأحكام الصادرة بحق المعتقلين إلى عقوبة النفي والأشغال الشاقة، بيد أن المسؤولين أبوا إلا أن يُرسّخوا سلطة القيصر في إصدار أحكام الإعدام والعفو عنها، فأخضعوا المعتقلين إلى تجربة إعدام وهمي بما يكتنفها من عذاب مرير، وحرصوا على تنفيذ مسرحية الإعدام بعناية وتخطيط، فسيق دوستويفسكي وسائر أعضاء الحلقة الثقافية إلى إحدى ساحات العروض العسكرية في تاريخ 22 كانون الأول عام 1849، حيث نُصبت سقالة الإعدام مغطاةً بقماش الكريب الأسود، وتُليت على المدانين جرائمهم وحكم الإعدام الصادر بحقهم، ثم طالبهم أحد القساوسة الأرثوذكس بالتوبة.
وشُدّ وثاق ثلاثة من المجموعة إلى الأوتاد على المنصة تمهيدًا لتنفيذ عملية الإعدام، وفي اللحظة الأخيرة قُرعت الطبول وأخفض فريق الرماية بنادقه، وهكذا ألغيت عقوبة الإعدام بحق دوستويفسكي وزملائه، وقُيّدُوا بالأصفاد وأرسلوا إلى المنفى السيبيري. وكانت عقوبة دوستويفسكي أربعة أعوام من الأشغال الشاقة في المنفى، تلتها الخدمة الإلزامية في الجيش الروسي. وفي عام 1859 أعفى القيصر الجديد دوستويفسكي من عقوبة النفي في سيبيريا ليعود في العام التالي إلى عالم الأدب في سان بطرسبورغ.
أحدثت هذه التجربة تحولات عميقة في نفس دوستويفسكي؛ بيد أنه لم يتخلَّ عن رأيه القائل بضرورة إحداث تغييرات جذرية في المجتمع الروسي، وظل مؤمنًا بأن القنانة منظومة لاأخلاقية، وما انفكّ حتى آخر عمره يبغض الطبقة الأرستقراطية المنحطة في البلاد، لكنّ الموت الوشيك الذي ظنّ أنه ملاقيه أعطاه منظورًا جديدًا حول الزمن والتاريخ، وقد أشار إلى هذا الأمر بعد انقضائه بسنوات عديدة قائلًا: “لم أحظَ طوال حياتي بسعادة مماثلة لما شعرت به ذلك اليوم”.
أدرك دوستويفسكي مذّاك فصاعدًا أن الحياة البشرية ليست انتقالًا من ماضٍ رجعيّ إلى مستقبل أفضل، مثلما كان يظّن عندما تشاطر الرأي مع المثقفين الراديكاليين؛ فكل إنسان يقف على حافة الموت والخلود في كل لحظة من حياته! فكان هذا التجلي الفكري سببًا في تراجع ثقة دوستويفسكي بالأيديولوجية التقدمية التي كان يؤمن بها خلال مرحلة الشباب.
وكان دوستويفسكي يزدري تحديدًا الأفكار التي ألفاها في سان بطرسبورغ، حين عاد إليها بعد سنين المنفى التي قضاها في سيبيريا؛ إذ رأى الجيل الجديد من المثقفين الشباب منقادًا بالنّظريات والفلسفات الأوربية بمختلف مشاربها، فتمخضّ عن ذلك مزيج روسيّ غريب من الفلسفات الماديّة الفرنسية والإنسانية الألمانية والنفعية الإنكليزية، وهو ما عرف بمصطلح العدمية.
ويرى كثيرون أن العدميّ شخصٌ لا يؤمن بأي شيء، بيد أن العدميين الروس خلال ستينيات القرن التاسع عشر كانوا مغايرين تمامًا؛ إذ كانوا شديديّ الإيمان بالعلم الذي أرادوه وسيلةً للتخلص من الأفكار والأعراف الدينية التي قادت البشرية خلال الماضي، ساعين بذلك إلى تشكيل عالم جديد أفضل من السابق، وهو رأي يعتنقه كثيرون في أيّامنا الحالية.
وتجلّت الاتهامات التي ساقها دوستويفسكي للعدميّة في روايته العظيمة، الشياطين، التي نُشرت عام 1872، وكانت محط انتقاد كبير لاعتمادها الخطاب الوعظي في فصولها، ولا ريب أن دوستويفسكي كان عامدًا بذلك إلى تبيان مساوئ الأفكار السائدة بين أوساط جيله. وتتسم القصة التي يرويها دوستويفسكي بالكوميديا السوداء؛ فهي مؤلمة في تصويرها المضحك للمثقفين ذوي العقول الرفيعة، وهم يتلاعبون بالمفاهيم الثورية دون أدنى دراية بماهيّة الممارسة العملية للثورة.
وتحاكي حبكة الرواية أحداثًا حقيقية تكشفت معالمها حينما كان دوستويفسكي عاكفًا على تأليف الكتاب، فقد ألقي القبض آنذاك على سيرجي نيتشايف، وهو مدرس لاهوت سابق أدين بتهمة بالتواطؤ لقتل أحد الطلّاب. وكان نيتشايف قد ألف كتابًا بعنوان “تأهيل الثوري”، يحاجج فيه بأن جميع الوسائل متاحة للاستخدام في سبيل تعزيز قضية الثورة والمضي بها قدمًا، ولو تطلب الأمر أحيانًا الإقدام على الابتزاز والقتل، ولمّا شكك الطالب بسياسات نيتشايف، أقدم هذا الأخير على قتله.
ويشير دوستويفسكي إلى أن هجر الأخلاق والتخلي عنها لصالح فكرة الحرية، سيولد ضربًا من الطغيان أكثر قسوة وتطرفًا مما كان حاصلًا في السابق، وقد ورد هذا الأمر في اعتراف إحدى الشخصيات في رواية الشياطين: “لقد وقعت في شرك أفكاري وآرائي؛ فالخاتمة التي بلغتها تتناقض كليًا مع الفكرة الأصلية التي انطلقت منها؛ فبعدما كنت أنشد الحرية المطلقة، انتهى بي المطاف بطغيان مطلق!”.
ولعلّ الاعتراف السابق أبلغ توصيف لما حصل في روسيا بعد خمسين عامًا من قيام الثورة البلشفية! وقد رأينا أن لينين كان معجبًا باستعداد نيتشايف لاقتراف أي جريمة في سبيل الثورة، بيد أنه انتقده على كثرة ركونه إلى أعمال التخريب والإرهاب الفردية. وما حدث في روسيا عقب الثورة البلشفية كان متفقًا مع النظرة الاستشرافية لدوستويفسكي، فاتّباع الأساليب اللاإنسانية لبلوغ شكل جديد من الحرية أفضى إلى نموذج قمعي، كان أقسى وأشد تأثيرًا من الوحشية والاستبداد خلال الحكم القيصريّ.
تحمل رواية الشياطين في ثناياها عبرة تتعدى حدود روسيا! ولا بدّ هنا من التنويه إلى أن الترجمات الإنكليزية الأولى لهذه الرواية كانت بعنوان “الممسوسون”، وهو تفسير خاطئ لكلمة روسية يشير معناها الأدقُّ إلى الشياطين، غير أنّ العنوان السابق يحتمل أن يكون أقرب لنوايا دوستويفسكي؛ فهو وإن كان شديد القسوة في تصوير الثوار وتوصيفهم، فإنه لم ينعتهم بالشياطين! وإنما استخدم هذه الكلمة للإشارة إلى الأفكار التي مسّت عقولهم واستعبدتهم!
كان دوستويفسكي يرى الإلحادَ عيبًا كائنًا في صلب العدمية الروسية، وليس المرء مضطرًا إلى مشاطرته هذا الرأي حتى يرى أن كتابته عن القوى الشيطانية للأفكار ليست إلّا تركيزًا على اضطراب إنساني أصيل. ولا تستدعي هذه الخلاصة من المرء الموافقة على آراء دوستويفسكي السياسية، التي كانت نسخة مبهمة من القومية المشوبة برهاب الأجانب.
ما حدّده دوستويفسكي في رواية الشياطين – وعانى منه أحيانًا في بعض مراحل حياته- هو نزوع الإنسان نحو الاعتقاد بأن الأفكار أكثر واقعية وأهمية من البشر أنفسهم، وسنكون مخطئين إذا ظننّا أننا لم نقع في شرك هذا التفكير الواهم؛ فالحروب التي خاضها العالم الغربي في الشرق الأوسط كانت محط هجوم وشجب خلال العقود الماضية، وكانت بنظر كثيرين مجرد محاولات للاستيلاء على الموارد الطبيعية في تلك المنطقة، ولكنني أرى هذا السرد ناقصًا؛ فهناك نموذج من التصور الأخلاقي الخيالي لا يقل أهمية عمّا سبق في تفسير التدخلات الغربية المكرّرة وفشلها المكرر.
تخيّل العالَم الغربي أن أفكار “الحرية” و”حقوق الإنسان” و”الحرية” لها قوتها المميزة، التي تقدر على تغيير حياة الأفراد الذين يتأثرون بها، فأطلقنا مشاريع تغيير الأنظمة ساعين إلى تحقيق تلك الأفكار عبر إسقاط الطغاة، بيد أن تصديرها بهذه الطريقة كان ذا تأثير بالغ في تفكيك الدولة، مثلما حصل في ليبيا وسوريا والعراق، فاندلعت الحروب الأهلية وعمّت الفوضى وظهرت نماذج جديدة من الاستبداد.
وهكذا قادتنا تلك التدخلات إلى الموقف الحالي الذي ألفينا أنفسنا في خضمّه، فالسياسة الغربية الحالية منقادة بالخوف من القوى والأفكار التي انبثقت من رحم الفوضى الناجمة عن التدخل الغربي، وما يدعو للأسف أن هذه المخاوف واقعية؛ إذ ثمة هواجس حقيقية بشأن ارتداد تلك الصراعات وتفشيها في بلادنا عقب عودة المواطنين الغربيين الذين حاربوا في تلك البلاد.
وتعترينا رغبة في القول إن المجتمعات الغربية محصّنة من القوى الخطيرة لتك الأفكار، لكننا واهمون إذ ظننا بعدم وجود “شياطينَ” لدينا؛ فقد مسّتنا مفاهيم الحرية الجليلة، ودفعتنا إلى تغيير أنظمة الحكم في بلدان نعجز عن فهم أوضاعها، وحوّلنا تلك الأفكار المجردة- على غرار الثوار الواهمين في رواية دوستويفسكي- إلى أصنام معبودة، وضحّينا بأنفسنا والآخرين في سبيل تحقيقها وتنفيذها.
المصدر:
https://www.bbc.com/news/magazine-30129713