من أوراق التاريخ نبذة عن كتاب “سياسة روسيا بعد ستالين”

نُبذة عن كتاب “سياسة روسيا بعد ستالين” للدكتور مصطفى الحفناوي، والصّادر عام 1954. هذا الحديث والدرس السياسيّ عن الديكتاتوريّة… ومابين السطور، أسطر الستالينيّة.

عجبًا أن قامت الدّنيا وقعدَت حينما أذاعت وكالات الأنباء وموجات الأثير نَبأ موت ستالين! بيدَ أنَّ روسيا نثرت على تابوته الزهر والريّحان، وشيّعته بحماسٍ لم يُشيّع بمثله إيفان، أو بطرس الأكبر، أو نقولا الأوّل. فهل كان ذلك أسفًا على موت عاهلٍ جبّار، أم فرحًا بالخلاص من عهدٍ بغيض؟ نحن لا نجادل في عبقريّة الشيطان الرّاحل، فقد حكم مائتيّ مليون من البَشر بيدٍ مِن حَديد، قُرابَة الثلاثين عامًا، كان جالسًا طِوالها فوق فوّهة البركان الذي لم تنسفه حِممُه، بل استطاع هو أن يخمد البركان، ولم تنقطع الأعاصير التي تكفي لاقتلاع أقوى الحكومات بأسًا، بما انطوت عليه من دسائسَ وفتنٍ تعبت في تدبيرها عقول فذّة، ومع ذلك كان الرجل راسخًا كالطود، وكان يقطع رقاب أعدائه ومنافسيه، وكأنّها رقاب عصافير تقع بسذاجةٍ وغفلة في شبكة الصيّاد.

أيّ رجلٍ هذا الذي خرج من أقلّ الطبقات شأنًا في المجتمع؟ فهو ابن “إسكاف” من جورجيّا، ليجلس على عرش قيصر، وهو لم ينلْ من الثقافة المدرسيّة إلا النزر اليسير؟ وكيف تهيّأت له الأسباب ليقود المائتيّ مليون، ويدفعهم إلى ميادين العمل تارة وإلى ساحات الموت تارةً أخرى، ولو أنّهم قطيع من الإبل، فما كان الأمر يسيرًا.

هتف الروس فى موكب جنازته “مات ستالين، فلتحيا الستالينيّة”، وغطّى هتافهم نعشه المكشوف، فهل صدقوا أم كانوا من المنافقين؟ وعلى أيّ الحالين، ماذا عساها أن تكون تلك الستالينيّة؟ أهو إنجيلٌ وضعه ستالين، وهل هناك فرق بين الستالينية واللينينية؟ وهذه الأخيرة ماركسيّة التي أخرجها لينين على طريقته.

نحن لا نتحدّث عن حياة ستالين أو نظريّاته، ولكنّ المعنى الذي نفهمه من هتاف شعبه، هو أنّ روسيا أرادت أن تقول للعالم الخارجيّ، أنّ الأمور سوف تسير في طريقها العادي، بعد موت ستالين، فيا أعداء روسيا لا تُمنّوا أنفسكم بانقلابٍ في الاتحاد السوفيتي.
لم يكن ستالين، بغضّ النظر عن ذكائه ومواهبه الأخرى، إلّا أنشودة خلقتها الدّعاية البارعة، وقد أسعفتها الحوادث والظروف التي مرَّ بها، وليس حتمًا أن يُهيّأ ذلك لكلّ حاكم أو زعيم. وتبعًا لذلك، فليس من الضروريّ أن ينال حظّ ستالين رجلًا آخرًا يخلّفه، حتى وإن أُوتي الخليفة ما لم يُؤته السلف من الكفاية وعظيم الصفات.

إعلان

وحياةُ الأمم فى تطوّر مستمر، لأنّها تخضع لقوّة عليا تسيطرعليها وتُوجُّهُها، وإنّها لَقوّةُ من بيده ملكوت السموات والأرض، وعبثًا قال الحمقى وقِصار النظر أنّ الشعب الروسيّ والاتحاد السوفيتي لا يَخضعان لناموس هذا الكون. وحقيقةً، نجح ستالين في استئصال روح الجدل، والقضاء على حريّة التفكير، حتى أضحت الطاعة العمياء في روسيا من طبائع الأشياء، ولكنّ روسيا كغيرها؛ تخضعُ لسُنّة الله فى خلقه، فليست بمنأى عن التطوّر. وكذلك من خطل الرأي أن نُبالغ ونهوّل في الكلام عن دورٍ يلعبه رجل أيًّا كان في حياة شعبٍ بأسره، فالرجل يفنى وكُلُّ فانٍ لابدَّ أن تمحوه الأيّام من السجلِّ محوًا، وهذا هو التفسير المنطقيُّ لقولهم: إنّ موت ستالين لا يترتب عليه انقلابٌ في الاتحاد السوفيتي.

وهذا الذي نراه، لا يُصدّق بالنسبة لستالين دون غيره من الطغاة، ففي هذا الزمان، قفز إلى مسرح الحياة السياسيّة، في أممٍ كثيرة، ستالنة غير شيوعيِّين، وحكموا على أساس مناهضة الشيوعيّة لشعوبٍ عريقةٍ في الحضارة، وأقربُهم إلى الذاكرة «أدولف هتلر»، ثم اختفوا وكأنّ أنظمتهم الدكتاتوريّة كانت كالسراب، أفلا يدلُّ ذلك على أنّ سلطان هؤلاء لم يكن يرتكز على الرضى من الشعوب بالتضحية في حريّتها؟ أو ما إذا كان يرتكز على قوائم أخرى كالدّعاية الموفّقة والجاسوسيّة الضخمة، التي تطارد الناس، حتّى إذا خلدوا إلى مخادعهم؟

يخالفنا فى الرأي بعض الذين أرخوا لستالين، وزعموا أنّ روسيا، في المدّة من سنة 1920 إلى سنة 1930، لم تكن قد شيّدت دور دعايتها الضخمة، ولم تكن قد راجت أجهزة الإذاعة اللّاسلكيّة بعد، وكذلك كان نصيب الصحافة ضئيلًا؛ بسبب انتشار الأميّة في بلاد الاتحاد السوفيتي، فكان خمسة وسبعون في المائة من الروس لا يقرأون ولا يكتبون. وحتّى تحكم على مجتمعٍ سياسيّ حُكمًا صائبًا، فيجب أن تنظر إليه من مختلف الزوايا، وأن تقف على التيّارات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تتجاذبه، وتتفاعل معه فتكيّف حياته. وعلى هذه التيارات تتوقف، في كثير من الأحيان، قوّة الهيئة الحاكمة، فلكي نعرف مصير الستالينيّة بعد موت مؤسِّسِها يجب أن نقف على كلّ ما سبق.
ويقال أنّ ستالين كان مجموعة من المتناقضات، فبيّنما كان يحاول بِيدٍ فولاذيّةٍ أن يسيطر على أجسادِ الروس ومشاعرهم، كان يسحقُ باليد الأخرى، أيُّ معنى يخلّده في قلوب رعاياه، ولذلك ما كان للشعب أن يتعلّق بهِ بعد موته طويلًا.

وإنّنا لا ننسى ما أُشيع قبل موت ستالين عن مؤامراتٍ تجري خلف جدرانِ الكرملين، فقيل عن «بريّا» أنّهُ أراد التخلّص من «مالنكوف» و«مولوتوف »، وروى آخرون أنّ بريّا تآمر فى الوقت نفسه مع مالنكوف ضد مولوتوف، وأذاع مصدرٌ آخر عن «بولجانين» أنّه يعمل للقضاء على العصابة بأكملها. ولا يُمكن أن تكون هذه الشائعات كلّها محضّ اختلاق.

هذه الاعتبارات يجب أن تكون موضع الفحص الدقيق، للحكم على مدى الاستقرار السياسيّ في الاتحاد السوفيتيّ بعد موت ستالين. ولا شكّ أنّ روسيا فى سنة 1954 تختلف عن روسيا في سنة 1924، اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. فماذا يصنع «مالنكوف»؟ ذلك الرجل الذي لم يسمع العالم باسمه قبل موت ستالين، لأنّه كان يبني نفسه من وراء الكواليس. إنَّ الدور الذي يلعبه مالنكوف لا يتوقّف على شخصه بقدر ما هو متوقّفٌ على الظروف والمصادفات والدسائس التي تُحاك في الخفاء، لتدخل في حيّز التنفيذ حينما يبدأ تمثيل مسرحيّته.
وعلى الذين يراقبون سير الفلك الروسيّ، أن يُحيطوا إحاطةً عامّة بمختلف أركانِ المسرح الروسيّ، ويلقوا عليها نظرةً فاحصةً، وبعدئِذ يشاهدون في يقظة وانتباه، كيف يؤدِّي بطلُ الرواية دوره، ويلبس رِداءَ سلفه ستالين.

تدقيق: فاطمة الملاح

إعلان

اترك تعليقا