حين يصبح الحياد تواطؤًا: في نقد الموضوعية خلال الحرب على غزة

قد يظنّ البعض بعد أن تقع أعينهم على هذا العنوان أنّ المقال سيتناول الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة من منظورٍ تحيّزي، غير أنّ ما أودّ طرحه هنا ليس موقفًا ذاتيًّا بقدر ما هو محاولة لتحليل وتفكيك مفهوم الموضوعية نفسه، اعتمادًا على مراجع فكرية وأمثلة تُظهر كيف أُسيء استخدام هذا المفهوم لتجميل مواقف أو تبرير سياسات تُناقض جوهر الموضوعية، لاسيما في ما يتعلّق بالآراء المرتبطة بالحرب الأخيرة على قطاع غزة.

الموضوعية – طبقًا لما ورد في دائرة المعارف البريطانية – هي الصفة أو الخاصيّة التي تجعل حكمًا أو تقريرًا أو دراسةً ما تعتمد على الحقائق في المقام الأول، لا على الانطباعات أو الميول الشخصية، وتتطلّب أن تكون مستقلة عن تصوّرات أو معتقدات الملاحظ أو الكاتب. وهي، بطبيعة الحال، نقيض الذاتية التي تقوم على المنظور الشخصي والانفعال الفردي.

لكن هذا التعريف – على وجاهته – يجعل من المصطلح بريقًا مثاليًا يخطف الأذهان كلّما جرى الحديث عن “الطرح الموضوعي”، حتى باتت الموضوعية تُقدَّم كقناعٍ للحقيقة، لا كطريقٍ إليها. فالطرح الموضوعي في جوهره يعني السعي إلى الحقيقة المتجرّدة من العاطفة، الخالية من الانحياز الأيديولوجي، غير أنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل كلّ طرحٍ واقعي أو قائمٍ على حقائق يمكن اعتباره “الحقيقة الكاملة”؟
الإجابة، بالطبع، لا.

في هذا السياق، يقدّم المفكر المصري عبد الوهاب المسيري في موسوعته الضخمة «اليهود واليهودية والصهيونية» (1999م) نموذجًا بالغ الأهمية لتفكيك هذا الوهم. فقد خصّص المجلد الأول بعنوان الإطار النظري للموسوعة لتفسير المصطلحات المحورية التي تتكرر في دراسته، ومن بينها مفهوم الموضوعية.
يرى المسيري أنّ جمع البيانات الدقيقة والحقيقية لا يعني بالضرورة الوصول إلى الحقيقة الكاملة، لأن الحقائق قد تكون خرساء إذا لم تُدرَك ضمن سياقٍ تحليلي شامل.

ويضرب مثالًا لذلك بباحثٍ يقوم بجمع بيانات “موضوعية” عن هجرة الجماعات اليهودية: أسماؤهم، البلدان التي غادروها، الوجهات التي قصدُوها، النِّسَب، والتواريخ. هذه معلومات صحيحة وموثقة، لكنها – برأي المسيري – لا تقول شيئًا ما لم تُفهم ضمن الإطار التاريخي والسياسي الذي حكم تلك الهجرات. فهذه الحركة ليست مجرد انتقال جماعات من بلدٍ إلى آخر، بل هي جزء من منظومة أنجلو-سكسونية استعمارية كبرى؛ وتجاهل هذا البُعد يحوّل “الحقائق الموضوعية” إلى حقائق مبعثرة بلا دلالة.

إعلان

من هذا المنظور، يمكن القول إن الموضوعية في زمن الحرب ليست حالة حياد بقدر ما هي اختبار أخلاقي للوعي. فالصحافة الغربية التي تدّعي الموضوعية في تغطية الحرب على غزة تُمارس انتقائية شديدة في عرض الصور والمصطلحات، إذ يُستعمل لفظ الدفاع عن النفس حين يتعلّق الأمر بإسرائيل، بينما تُختزل مقاومة شعبٍ محاصرٍ منذ ما يقرب من عقدين في مصطلحات كالهجوم  والعنف أو التخريب والإرهاب. هذه ليست مجرد زلّات لغوية، بل هي اختيارات لغوية ذات حمولة أيديولوجية، تُوجّه المتلقي وتعيد تشكيل وعيه بما يخدم سردية بعينها.

وهنا تتبدّى المفارقة: فكلّما زادت وسائل الإعلام من ادّعاء الموضوعية، تعمّق الانحياز غير المعلن. فالكاميرا التي تختار أن تلتقط مشهدًا دون آخر، والمحرر الذي يضع عنوانًا معينًا أو يحذف جملة، كلاهما يمارس فعلًا تفسيريًا لا يقلّ ذاتيةً عن الكاتب المنحاز.
تلك هي الموضوعية الاختزالية التي حذّر منها المسيري؛ فهي لا تبحث عن الحقيقة الكلية، بل عن مظهر من مظاهرها يُقدَّم على أنه الجوهر، بينما يُستبعد ما سواه باعتباره “غير ذي صلة”.

وفي الحرب الأخيرة على غزة، برز هذا الخلل بوضوح في الخطاب الغربي والعربي على حد سواء.
فالإعلام الغربي انشغل برواية إسرائيل حول بداية الحرب، مركّزًا على هجوم المسلحين على مهرجان غنائي يُجسّد الحداثة والمدنية الغربية، باعتبارها رمزًا ثقافيًا مهمًا في وعي الجمهور الغربي مستعطفًا أياه، بينما تجاهل السياق البنيوي الذي أنتج العنف: الاحتلال نفسه. وكأن الصراع يحدث بين طرفين متكافئين في القوة والقدرة، منفصلين عن تاريخهما المشترك، وعلاقاتهما المتشابكة، وعن ما أنتج هذا العداء، متناسين كذلك أن بداية المأساة لم تكن بهجوم السابع من أكتوبر، بل نتيجة تراكمات تاريخية وسياسات مستمرة من “دولة” مسلحة حتى أصغر مراهق فيها بأحدث نظم التسليح مقابل شعب غالبيته أعزل محاصر يحاول نيل حقوقه المسلوبة وكرامته المهدرة.
أمّا بعض وسائل الإعلام العربية، فقد وقعت بدورها في فخّ «الموضوعية الشكلية»، إذ تبنّت خطابًا باردًا يساوي بين الجلاد والضحية تحت شعار «الحياد المهني». غير أنّ ما يحكم هذا الخطاب في جوهره ليس التزامًا بالموضوعية، بل قد يكون مدفوعًا بتوجيهٌ سياسيٌّ ما يفرض زوايا محددة للرؤية والتناول. وهكذا يتحوّل العمل الإعلامي من نقلٍ للحقيقة إلى أداةٍ لتمييعها، فيغدو الصمت والانتقائية تجرد، والمهنية غطاءً للتواطؤ المحسوب.

ولم يكتفِ البعض بذلك، بل ذهب إلى عقد مقارنات بين أعداد القتلى وحجم الدمار، متحدثًا عن النتائج “الموضوعية” ليحسم من خلالها من هو المنتصر ومن هو المنهزم، وكأنّها معركةٌ متكافئة من البداية، تخضع لذات المعايير التي تحكم الحروب النظامية التقليدية، لا لواقعٍ مختلٍّ تُقاس فيه المأساة بميزانٍ تميل كفّتُه إلى جانب القوة الباطشة.
إنّ هذا التواطؤ الخطابي هو صورة من عدة صور أطلق عليها الدكتور عبد الوهاب المسيري مصطلح «الصهيونية الوظيفية»؛ أي تلك الأفعال والمواقف التي تخدم المشروع الصهيوني دون أن ترتبط به ارتباطًا عضويًا مباشرًا.
فالمذيع العربي الذي يستضيف زعيم المعارضة الإسرائيلية ويحاوره لا بوصفه جزءًا من آلة الإبادة الجماعية، بل باعتباره “أحد معارضيها”، يمارس في الحقيقة شكلاً من أشكال هذه الصهيونية الوظيفية. فهو يقدّمه للجمهور العربي في ثوبٍ إنسانيٍّ زائف، رغم أنّ خلافه مع خصومه في الحكومة ليس في مبدأ القتل ذاته، بل في توقيته أو أسلوبه أو علانيته. وهكذا، يتحوّل هذا الإعلامي من محاور إلى أداةٍ ترويجيةٍ تخدم الرواية الصهيونية تحت ستار المهنية والموضوعية.

وفي السياق ذاته، تساءل أحد الكتاب -وهو دبلوماسي سابق- على أحدى مواقع التواصل الإجتماعي عن موقف مقاومة الانتداب البريطاني على مصر هل كان سلميًا أم مسلحًا، وكأنّه يطرح ضمنيًا سؤالًا من نوع: «كيف تحررت مصر سلميًا، بينما يُشكك في كل فلسطيني لا يؤيد المقاومة المسلحة ويُتهم بالخيانة؟» وكأنه يريد أن يضيف “بعد كل ما آلت إليه المقاومة المسلحة ضد الاحتلال من قتل ودمار” ، وبعيدًا عن التاريخ النضالي المصري ضد الانتداب بداية من الثورة العرابية وانتهاءً بالجلاء على يد الضباط الأحرار مرورًا بما قام به سعد زغلول وغيره من قادة النضال السلمي وغير السلمي، فإن هذا السؤال يتجاهل الفروق الجوهرية بين انتداب مؤقت على دولة ذات سيادة جزئية، وبين احتلال يقوم على سياسات ضم الأراضي، والتهجير القسري، والفصل العنصري، والإبادة المنظمة، والتغيير الديموغرافي، ومحو الهوية الفلسطينية.
وتبرز هنا إحدى صور الموضوعية الشكلية، التي تُحبك الغطاء الرسمي للحقائق، لكنها في الواقع تنتزع الأحداث من سياقها التاريخي والجيوسياسي، وتفرض عليها مقارنات غير متكافئة، بهدف إنتاج حقيقة ناقصة ومجزأة. كما أنها تناقش نتائج تبدو جديدة، بينما هي في الواقع ظواهر مستمرة؛ والاختلاف الوحيد يكمن في سرعة وقوعها أو كثافة حدوثها الحالية مقارنة بما كان يحدث تدريجيًا في السابق.

إنّ التحليل الموضوعي الحقيقي لا يقتصر على الوقوف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، ولا على وضع مقارنات تاريخية وعددية، أو جمع بيانات مجردة. بل هو الوقوف إلى جانب الحقيقة حيثما كانت. فحين تُعلن المأساة بالصوت والصورة، وحين يُدفن الأطفال تحت الركام، تتحوّل محاولة “تحييد المشاعر” إلى تنصّلٍ أخلاقي لا إلى تجرد علمي، فتفقد الموضوعية معناها وتصبح مجرد ستار لللامبالاة.
وكما قال مارتن لوثر كينغ:

أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يلتزمون الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة.

ختامًا، يمكن القول إن الحرب الإسرائيلية على غزة لم تكشف فقط عجز النظام الدولي عن حماية الأبرياء، بل كشفت كذلك عجز المفهوم الغربي للموضوعية عن تجاوز حدوده الضيقة. فقد أظهرت أن “الحقائق” ليست دائمًا كل ما يُعرض في الشاشات، وأن الإنصاف لا يولد من الحياد المزيّف، بل من الوعي بأن الحقيقة ليست رقمًا في تقرير، بل قيمة إنسانية شاملة لا تكتمل إلا حين نرى الإنسان بكامله، في معاناته ومظلوميته، وسط بيئته وتاريخه الممتد، وليس في لحظة زمنية محددة يُفصَل فيها سلوكه عن حقلُه الاجتماعي والمعرفي والتاريخي.

إعلان

اترك تعليقا