جون مينارد كينز والنظرية الكينزية
علم الاقتصاد أحد أهم العلوم التي تم غرز جذورها في الحضارة اليونانيّة القديمة، ولم يتفق الكثير من المُفكّرين والعلماء على تحديد الزمن الذي ظهر فيه علم الاقتصاد بمفهومه المعروف علميًّا وأكاديميًّا، ولكن تُشير أغلب الآراء إلى أنّ الفضل في تأسيس القواعد الأولى لهذا العلم يعود للعالم “آدم سميث”، ولا نستطيع أن نشير إلى علم الاقتصاد دون الإشارة إلى دور واحد من أهم علماء الاقتصاد في القرن العشرين وهو “جون مينارد كينز- John Maynard Keynes “.
الميلاد والنشأة
ولد الاقتصادي الإنجليزي “جون مينارد كينز” في الخامس من يونيو عام 1883م بمدينة “كامبريدج” ويعد هذا من ترتيب الأقدار، إذ توفي في نفس العام “كارل ماركس”!! وُلد “كينز ” لأب اقتصادي وعالم منطق ورئيس لإدارة جامعة كامبريدج “جون نيفيل كينز”، أما والدته “فلورانس آدا براون” كانت كاتبة ورائدة في مجال الإصلاحات الاجتماعية، لدرجة أنها قد شغلت في فترة من فترات حياتها منصب عمدة مدينة كامبريدج، وظهر نبوغ وذكاء “كينز” منذ الصغر؛ فقد كان طفلًا ذا مهارات سياسية، لدرجة أن قيل عنه، أنه في دراسته الإعدادية كان لديه زميل يحمل كتبه المدرسية وهو يسير وراءه في مقابل أن يقوم “كينز” بمساعدته في حل المسائل المعقدة في الواجبات المنزلية!
الدراسة والتطور
التحق “كينز” بمدرسة “القديس فيْث” في سن السابعة وأثبت براعته في الرياضيات أثناء ذلك، وبعدها بعام التحق بكلية “إيتون” التي حصل على منحة للدراسة بها وهو في الرابعة عشرَ من عمره، و عانى كثيرًا أثناء الدراسة بها وأصيب بالكآبة نتاج ذلك، وعلى الرغم من ذلك كان طالبًا متألقًا ونال العديد من الجوائز فأثبت أنه موهوب بحق في مجال الرياضيات، التي كان يحرز فيها دومًا المراكز الأولى، وفي عام 1902 التحق بكلية “كينغ ” بجامعة “كامبريدج” و كان تلميـذًا للاقتصادي المشهور “ألفرد مارشال” الذي أثر كثيرًا في “كينز” وهو الذي عُرف بحبه وانغماسه في علم الرياضيات، وعلى الرغم من حصوله على درجة الشرف الأولى في مادة “الرياضيات” إلا أنه تخلى عنها بسهولة بمجرد أن انتهى من دراستها!
تأسيسه لحياته العملية
وجد “كينز” في أثناء دراسته “بكامبريدج” مجتمعًا جديدًا يسمى “رسل كامبريدج” إذ سعى كل من “ليتون ستراتشي” و “ليونارد وولف” إلى تقديمه لهذا المجتمع الذي بني على هدف البحث عن الحقيقة، وكوَّن داخل هذا المجتمع صداقات هامة أثرت في مسيرته، مثل صداقته مع “برتراند راسل” و “جي إي مور G. E. Moore” و كذلك “ألفريد نورث Alfred North Whitehead” وقد تأثر بالأخير وظهر ذلك في كتابه Principia Ethica وفي عام 1907م حصل عبر فوزه بمسابقة حكومية على عمل تابع للوزارة في دولة “الهند” وكانت تلك الفترة مصدر إلهامه في تأليف كتابه Indian Currency and Finance” ” ” عملة الهند وماليتها”، وبفضل ذلك الكتاب عُين عضوًا بالهيئة الملكية لعملة الهند وماليتها.
هل كان كينز طفرة؟
بالرغم من أن “كينز” ولد في عصر ساد فيه الاعتقاد أن السلام والرخاء هما السبيل الوحيد لتقدم العالم، لكنه فوجئ بانهيار هذه المفاهيم، فبعدما كانت “أنجلترا” إمبراطورية عظمى تحولت إلى دولة تستجدي بحلفائها، وشاهد أيضًا الانهيار الاقتصادي الذي مرت به “أنجلترا” بعد ازدهار دام طويلًا للملكة، إلا أن “كينز” ومعاصريه كانوا أيضًا نِتاج تفكك العصر الفيكتوري، ورأوا في أنفسهم صانعي عصر تنويري جديد، و من هنا اُعتبر “كينز” ومعاصريه أنفسهم طفرة لمجتمعهم المعاصر، فقال عنه “بيرتراند راسل” الفيلسوف وعالم المنطق والمؤرخ: “عقل “كينز” كان الأذكى والألمع بين كل من عرفتهم، فعندما كنت أجادله، كنت أشعر أنني أرى حياتي أمام عيني، و لم أكن أشعر فيها قط أنني أحمق إلا أمامه”.
فلسفة جون مينارد كينز الخاصة
آمن “كينز” بهيمنة النخبة الأرستقراطية الفكرية، وكان وطنيًا فكريًا، رغم أن وطنيته خلتْ من أي تطرف، و آمن بفضائل حقبة السلام النسبي الذي ساد أوروبا والعالم بعد هيمنة إمبراطورية بريطانيا العظمى على العالم، ولم يقتنع بسواها في إمكانية تولي إدارة شؤون العالم، و كان بشكل شخصي مقتصدًا ومعتدلًا، على الرغم من أنه أصبح فاحش الثراء، وبحكم أنه كان اقتصاديًا شغل فكره العيب الثقافي بادخار الأموال عوضًا عن استثماراها.
حياة جون مينارد كينز الشخصية
على الرغم من أن “كينز” عُرف بمِثليّته الجنسية إلا أنه لم يكن متطرفًا في الحب مثلما كان في الاقتصاد والسياسية ولم يمنعه هذا من تأسيس أسرة والزواج من راقصة الباليه الروسية “ليديا لوبوكوفا” في أغسطس عام 1925م وكان زواجًا مثاليًا وفر “لكينز” الاستقرار العاطفي والعقلي، الذي ساعده على استكمال جهوده الفكرية في عالم الاقتصاد، الجدير بالذكر أيضًا أن “كينز” كان على علاقة صداقة وثيقة مع “فيرجينيا وولف” الكاتبة الإنجليزية، و التي تعتبر من أيقونات الأدب الإنجليزي الحديث، وكتبت عنه كثيرًا، فقد كانت تراه بمنظور الصديق والعبقري أيضًا.
الحرب والوزارة
أثناء الحرب العالمية الأولى استدعي “كينز” ليتم تعيينه وزيرًا للخزانة –للمالية- البريطانية، و كان ذلك منصبًا عصيبًا في هذا التوقيت نظرًا للأحداث المشتعلة جراء الحرب التي تخوضها بلاده، لكنه رغم ذلك بذل قصارى جهده، وأصبح مسؤولًا عن العلاقات المادية مع حلفاء بريطانيا أيضًا، فتوفير عملات أجنبية لتمويل الحرب شيء ليس بهين على الإطلاق، و من أمثلة ذلك أنه اقترح على الفرنسيين أنهم إذا أرادوا موازنة ميزان مدفوعاتهم مع بريطانيا فعليهم أن يبيعوا بعض اللوحات الفنية التي يملكونها وحدث ذلك بالفعل في صفقة بلغت قرابة المئة ألف دولار، وحتى بعد انتهاء الحرب اشترك “كينز” في مفاوضات السلام في مؤتمر فرساي Treaty of Versailles عام 1919م كممثل عن وزارة الخزانة -المالية- وعارض التجنيد الحكومي الإجباري للشباب البريطانيين على الجبهات مع فرنسا رغم انتهاء الحرب، فقد استشعر رغبة الحلفاء في الانتقام و تنبأ بحرب عالمية أخرى، وفي النهاية كل هذا دفع كينز للاستقالة.
النظرية الكينزية
بشكل مبسط تقوم النظرية “الكينزية” التي أسسها “كينز” وأصبحت حجة ومرجع للدول في علم الاقتصاد، على أن تدخل الحكومة واجب المساعدة في التغلب على انخفاض الطلب الكلي، وذلك من أجل الحد من البطالة وزيادة النمو، ويقوم ذلك على عدة أساسيات منها أن الركود يحدث إذا ما تجاوز الادخار الاستثمار، وأن الانخفاض في معدل الاستثمارات سوف يؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة، وبالتالي انخفاض معدلات الادخار، وينتج عن ذلك زيادة الاستثمارات مرة أخرى ليعود الاقتصاد الكلي إلى التوازن من جديد فترتفع معدلات التوظيف، ورغم أن “كينز” مبتكر النظرية إلا أنه من غير المحتمل تحقق هذه الفرضية بسبب عدة عوامل؛ منها السيولة، غريزة الخوف، جمود الأجور ومفارقة الادخار.
انتقادات النظرية الكينزية
رغم ذلك تعرضت نظرية “كينز” إلى انتقادات عديدة منها أنها تدعم ضخ الأموال، وإنفاق الحكومة على المشروعات مما يحقق فوائد مكتسبة من المستحيل خفضها بعد الركود، كما يرى بعض الاقتصاديين أن الناس ينظرون إلى انخفاض الضرائب (المصاحب للإنفاق الحكومي) باعتباره شيئا مؤقتًا، وبالتالي يتوقفون عن الإنفاق بل والأكثر أنهم (على العكس) يدخرون تحسبًا لارتفاع الضرائب مرة أخرى، مما يعني أن السياسة التوسعية غير فعالة، و رغم ذلك بسبب ما شاهده العالم أثناء فترة الكساد العالمي خلال الفترة 2008 ما بين إلى 2013 عودة الاهتمام بالنظرية الكينزية ثانية، وذلك بسبب وجود أوجه تشابه كبير مع فترة الكساد خلال الثلاثينيات، وتمثل ذلك في انخفاض حاد في الناتج الإجمالي المحلي، واستمرار الركود لفترة طويلة وبقاء عائدات السندات منخفضة رغم زيادة الاقتراض الحكومي، مما يشير إلى أن الاقتراض لم يتسبب في المزاحمة الاقتصادية، كما افترض بعض علماء الاقتصاد.
هل يستطيع مقال واحد سرد سيرة جون مينارد كينز ؟!
عُرف “كينز” بقدرته على صياغة العبارات القوية، فهو كما قالت عنه زوجته “أكثر من مجرد اقتصادي”، لذا فسيرته الذاتية تحتاج إلى مجلد كامل من السرد والتطرق إلى أعماله العظيمة، بجوار أيضاً تدوين و حفظ عباراته الرنانة القوية، توفي “جون مينارد كينز” في 21 من أبريل سنة 1946 إثر نوبة قلبية، وبقيت مؤلفاته الاقتصادية بمثابة صك عبور من الأزمات الاقتصادية للدول، و بقيت أيضًا كلماته محفورة بحروف ذهبية في كُتب التاريخ. فلا يسعني إلا أن أختتم المقال بكلماته إلى “لغاردينر مينز” في رسالته إليه عام 1939:
أريد أن أؤكد على التفرقة ما بين نظريتي العامة، والتي يُنظر إليها كنظرية أكثر أو أقل عمومًا، وتطبيقاتها والتي من الممكن أن تُنفذ في ظروف مختلفة وفقًا لعدة افتراضات واقعية.. أرى النظرية قابلة للتطبيق أيضًا بشكل جيد في الاقتصاد المرن عن الجامد أو في موقف وسط.
المصادر:كتاب : جون مينارد كينز: مقدمة قصيرة جدًّا روبرت سكيدلسكي مذكرات فيرجينا وولف كينز في الموسوعة العربية موقع ألف باء أقتصاد موسوعة المعرفة