ترامب والدولة العميقة بعد قمة هلسنكي
– الدولة العميقة.. حكومة الظل. الدولة الموازية. دولة داخل دولة، الخ.. مصطلح شائع غير اختصاصي يستخدم للتعبير عما لا يمكن أن يقع في بؤرة الدراسة العلمية المنهجية، بسبب سرية الوثائق الخاصة من جهة، وطبيعة الجهاز الإداري “البيروقراطية” وصيرورة عمله ومغبة إفشاء هذه المعلومات وتداولها خارج السيطرة.
– يرجع أول استخدام لهذا المصطلح إلى تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات والضباط في تركيا، أخذوا على عاتقهم حماية الإرث العلماني لدولة مصطفى أتاتورك، والبعض يقول أنها موجودة منذ الإمبراطورية العثمانية. وتكرر المفهوم بتعاريف مشابهة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد ملاحظة العلاقات بين شبكات السلطة السياسية في واشنطن، والسلطة الإقتصادية والمالية في وول ستريت، وذلك بعد إنشاء الوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية، لكن غالبًا ما كانت السينما تظهر ذلك كنوع من “نظرية المؤامرة“.
– بعد “الربيع العربي” ظهرت الدولة العميقة بمفهوم آخر أكثر توصيفًا لوقائع ملموسة بعد ملاحظة ورصد نشاط “الجهاز الإداري” الذي يحافظ على المناخ العام للعلاقات المتشابكة ضمن الدولة من أي تغيير من قبل، أي كان بما فيهم المواطن نفسه. وخاصة بعد “الثورة” في بلد بحجم مصر، أما الدراسات التي كانت تتناول هذا الجانب من عمل الدول قبل ذلك فكانت تركز على انعكاسات مفهوم السيادة الذي نشأ عن مفهوم الدول القومية بعد معاهدة وستفاليا ١٦٤٨، لأن المعاهدة تلك كانت لترسيم الحدود بين الإمبراطوريات لتخفيف الصراعات والحروب، فارتكزت على مفهوم السيادة، والذي يعني أن الدولة/السلطة مخوّلة بوضع القانون من جهة، ومقاومة تغييره بما تشاء، مما يعني السماح لها “بحالة الاستثناء” والذي قد يكون تدخلًا من خارج القانون.
– الدراسات “المتداولة للعامة” التي تناولت المفهوم بعد “الربيع العربي” قامت بنقلة نوعية في تحديد أطر المفهوم خارج أطر “نظرية المؤامرة”، ويبدو أن هذا كان ضروريًا لشرح آلية عمل الدول لمثيري حركات الشغب ومتزعمي الاحتجاجات السلميةِ الطابع والتي عُرفت منذ “ثورة” يوغسلافيا بالثورات الملونة. لذا كان من الضروري إقامة دراسات موجهة بإتجاه الحكومات الواجب إسقاطها، ومحاولة فضح الدولة العميقة في الدولة الجاري استهدافها. وباستعراض سريع للمتداول على الإنترنت “المتاح من الدراسات للعامة” ستجد مثلًا عناوين الدولة العميقة في مصر من إعداد مركز الجزيرة القطرية، والدولة العميقة في سوريا من إعداد أورينت نت، وهكذا.
– إن الإستخدام القديم الطاغي للمفهوم المتداول باللغة العربية قبل “ثورة” تونس هو المعنى التركي الذي انتشر بعد كشفه من رئيس الوزراء التركي السابق بولنت أجاويد عام ١٩٧٤، والذي انتهى بمحاولة اغتياله عام ١٩٧٧. وليتحدث لاحقًا عنه رجب طيب أردوغان عام ٢٠٠٧. وبالطبع، بعد اندلاع الربيع العربي فإن أردوغان فتّت أو استبدل هذه الدولة الخفية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عليه، وهذا ما لنا أن نستنتجه، فلقد غيّر والتف على ذكر المفهوم لوصف مناوئيه الذي صنفهم تحت اسم “فتح الله كولن” ولقبهم بالكيان الموازي، وحتى الآن لا أحد يعرف بدقة من هو مدبر الإنقلاب.
– إن الدراسة التي تتضمن مسألة العمل الثوري من دون تناول طرق معالجته مسألة الدولة العميقة “تفتيت أو استبدال” باتت شيء من الماضي، ولذا فإن تداول العامة للمفاهيم الثورية القديمة المرتكزة على مفرزات الثورة الفرنسية والشيوعية، تجعلهم يغفلون عن جانب مهم من المعادلة القائمة داخل الدول الحالية.
_ في ١٩ تموز ٢٠١٥، سربت مجلة “فورين بوليسي” تصريحًا لرئيس حزب الوطن التركي دوغ بيرنشيك، وهو سياسي اشتراكي معروف في تركيا، وينوب عنه اللواء إسماعيل هاكي بيكين، وهو قائد سابق للمخابرات العسكرية التركية، وعلى صلة بما يسمى “الدولة العميقة” في تركيا. التصريح كان يتحدث عن ضرورة التصالح مع “نظام الأسد” وعن زيارته لدمشق مع نائبه المذكور ومقابلته عدد كبير من الضباط والقياديين السوريين. وتم نفي الخبر لاحقًا من الخارجية التركية!
– اليوم نشر الدكتور عماد فوزي الشعيبي مقالًا “لفايننشال تايمز” وعلق عليه، “تعليقه الخاص بين أقواس( )”:
انقلب ترامب على إجماع واشنطن؛ (وبتقديري هو يمارس لعبة التفكير من خارج الصندوق ويمارس قطعًا ابستمولوجيًا مع فلسفة السياسة الأمريكية) وبدا عزوف ترامب عن مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية صعبًا لدرجة أنّ العديد من منتقديه الرافضين أفكاره يرون فيها نِتاج فِكْرٍ مضطرب؛ لكن هؤلاء مخطئون: ففيه مذهب سياسي متماسك هو “الاقتصاد أولًا” (وهذا لايختلف عليه اثنان في الاقتصاد السياسي لكن الدولة العميقة تربط الاقتصاد بالغطرسة العسكرية وهو ما يتجنبه ترامب)؛ والتعامل مع الدول وليس المؤسسات الدولية؛ (وبهذا يمكنه تحقيق صفقات ذات شأن بدلًا من تضييع الوقت بمؤسسات دولية شكليّة).والثقافة وليس القيم؛ فهو لا يُظهر اهتمامًا كبيرًا بتدعيم قيم الديمقراطية أو حقوق الإنسان ( طبعًا لأنه لا مكان للقيم في العمل السياسي البراغماتي الواقعي). وتقاسم مناطق النفوذ والمصالح مع روسيا والصين؛ فهو غير مؤمن بالقيم والقواعد العسكرية العالمية (إنه يفكر بعقليّة جديدة للتعاون الدولي لدولته التي يرى أفولها مع صعود دول عظمى اقتصادية أخرى ويستشعر بعمق أن محاولات أمريكا للانفراد بالعالم مستحيلة ومكلفة وتسبب بأفولها)
– أي أن الدكتور الشعيبي يقول أنه يتفق مع تحليل فايننشال تايمز حول ترامب، فهو ليس غبيًا ولا مجرد تاجر “كما يروج العامة”، بل يمارس السياسة بطريقته. ولكنه أيضًا يتجاهل نظرية الصحافة الأمريكية “ترامب جاسوس روسي” وهذا ممكن لو استخدمنا مفهوم الدولة العميقة على كونه ليس مجرد “نظرية مؤامرة”، بل حقيقة واقعية لكن المعلومات بشأنها قليلة.
– إن داعش حقيقةً صناعة استخباراتية بإشراف أمريكي مباشر، وتجاوز الأمر تصريحات هيلاري كلينتون عن حقيقية ذلك، إلى وقائع حقيقية ملموسة تجري في سورية منذ العام الماضي، حيث بات نقل قيادات وعناصر معينة من داعش بالحوامات الأمريكية من شمال دير الزور إلى التنف أو بالعكس أمرًا مرصودًا بتكرار من المواطنين والقوات الجوية الروسية والسورية. ورغم ذلك تفتقد الدراسات إفراغ الاتهام “بفوبيا المؤامرات” من معناه، وتبقى التهمة جاهزة من جهة، وتفتقد الإشارة للدولة العميقة لإستكمال المشهد.
– ترامب حقيقةً من خارج الصندوق السياسي المعتاد للسياسيين الأمريكيين، وهو حقًا يواجه الدولة الأمريكية العميقة، سواء كان تاجرًا أو غبيًا أو جاسوسًا روسيًا، وهذا ما يفسر كل ما صدر عنه وعما يعانيه لتنفيذ سياسته، فهو كان يريد الانسحاب من سوريا وتركها مكان تمدد لروسيا لتواجه الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط، وكان يريد الانسحاب من تركيا والتمركز في الخليج العربي أكثر ليرسم حدود نفوذ جديدة مع روسيا تكون حدودها “إسرائيل”، وكان يريد الالتفاف على الصين المتوسعة والمتمددة في إفريقيا، وتقاسم النفوذ معها بينما ما يزال ذلك متاحًا.
– الكلمة المفتاحية في تصريحاته التي ذكرها بعد لقائه مع بوتين في هلسنكي هي الاتفاق على الغاز والنفط في سوريا، وهذا ما يعنيه أن بوتين سيتقاسم الغاز مع أمريكا، على أن تتولى أمريكا شأن شيء ما بالمقابل، كتخفيف الضغط عن القرم، أو محاولة إعادة تركيا المتفلتة للمنظومة الدولية، ليدخلوا جميعًا في نظام جديد بدأ يطل أعتابه.
– لا يوجد مؤشرات حتى الآن عن قبول الدولة العميقة الأمريكية لهذه الصفقة المبدأية، ولا مؤشر عن قبولها بترامب المتفلت.
المصادر * الدولة الـعميقة في تركيا ( derin devlet) _ ويكبيديا * ما هي الدولة الـعميقة _ إبراهيم السيد_ مركز الروابط للدراسات الإستراتيجية والسياسية * مقال لمجلة "فورين بوليسي" : الدولة العـميقة في تركيا لديها قناة سرية مع الأسد * قناة الدكتور عماد فوزي الشعيبي على اليوتيوب "Prof. Imad Fawzi Shueibi"