ترامب بين الجنون والتجسس

ظهر منذ بدء الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب موقفُه الواضح من القضية السورية، فقد صرّح بإعجابه بالرئيسين الأسد وبوتين آنذاك، وألمح بشكلٍ ما بدعمه لهما.

وقد اصطدم ترامب بعد وصوله إلى السّلطة بعدة مؤسساتٍ حكومية على التوالي بدءًا بصدامه مع وكالة المخابرات الأمريكية وقضية التدخّل الروسيّ في الانتخابات، وصدامه مع القضاء في قضية قراره بحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وصدامه مع الكونغرس بسبب طبيعة النظام الأمريكي التي تسمح بالانتخاب المباشر للرئيس بدون الكونغرس، هذا بالإضافة إلى صدامه مع الإعلام وغيره الكثير؛ مما أعطى انطباعات غير مفهومة بتصريحاته ومواقفه وتغريداته وخصوصًا فيما يتعلق بشأن القضية السورية التي أعلن قرارَه بالانسحاب منها. وربما كانت محاولة منه لتوجيه قواته لليمن مثلًا؛ لنجد الجيش الأمريكي يقصف سوريا في الليلة التالية!

_ الغباء:

شاع المظهر الملتبس بالجنون لترامب في الإعلام الأمريكي وبين الناس وخاصةً في تفسيرات أنصاره الجمهوريين المؤيدين له بشعبيةٍ كبيرة لردّ الاتهامات الموجهة له بالتجسس، وذلك لأنه افتتح عهده بتلقّي الإعلام لتسريبات من المخابرات الأمريكية حول دعم الروس له في حملته الانتخابية -ملفّ ستيل- وعلى الأغلب إنّ قصد المخابرات كان ردعَه والضغط عليه وتحديد أفعاله، وقد ظهر التفاعل في ذلك في وسائل الإعلام؛ مما جعل أنصاره يبرّرون ذلك بالغباء السياسيّ بدعمه وتصريحاته حول بوتين والمصالحة مع روسيا. وتفاعل ذلك مع غبائه الحقيقي للسياسة الدولية وأميّته بطبيعة الدولة الأمريكية ذاتها؛ فترامب لم يكن يفهم أصلًا كيف تعمل الحكومة الأمريكية، كان تاجرًا جاء في وقتٍ حرج.

عندما أصدر ترامب قرارَه التنفيذيّ بحظر دخول المسلمين؛ قام قاضٍ فيدرالي -كان جمهوريًا بالمناسبة- في واشنطن بتعليق القرار بحكم قضائي، ولكنّ ترامب أهان القاضي بعدّة تغريدات وهاجم حتى قضاة الاستئناف الذين نظروا في هذه القضية. وتفاعل مع ذلك الإعلام والبرامج السياسية، وبدا فعلًا أنّ ترامب لا يُدرك أنّ القضاء مؤسسة مستقلة؛ أي ظهر أنه لا يفقه مبدأ فصل السلطات بالأساس وهذا صحيح بدرجة ما.

_ بين فلين وماكماستر وبولتون:

ويبدو بالعودة خطوة للوراء حيث وصل ترامب للرئاسة أنّ المؤسسات الحكومية قد اعتبرت ترامب الذي يحاول التقرّب من الروس علانيةً كتهديد للأمن القومي الأمريكي وبغضّ النظر عن صحّة عمالته للروس رئيسًا منتخبًا؛ لذا عمدوا إلى تكبيله بالتحقيق الجنائيّ المستمر لصلاته مع الروس، وأتاحوا له الحكم. وهكذا أمضى ترامب عامَه الأوّل في السلطة آملًا انتهاء التحقيق خلال عدّة أشهر.

لكن في بداية العام الحالي ومع استمرار التحقيق وانعكاساته المتعددة التي تجلّت في عدم إفساح المجال له باستكمال وضع طاقمه الرئاسي على ذوقه ويبدو أنّه فهم أنّ هذا التحقيق سيستمرّ إلى الأبد؛ فبدأ بتنفيذ سياسته منذ مطلع هذا العام.

أمّا في العام الماضي -٢٠١٧- اضطرّ ترامب لمعاداة المخابرات وعزل بعض رموزها، وتكرّرت شكواه منها بالإعلام، كما اضطرّ عقب تجدّد التسريبات لإقالة مستشاره الأول للأمن القوميّ الجنرال المتقاعد: مايكل فلين والذي كان مؤيدًا له بشأن الانسحاب من سوريا.

وعين الفريق هربرت ماكماستر بعدما رفض جنرال آخر المنصب -لأسباب شخصية-.

وقد كانت إقالة فلين على خلفية قصة تواصله مع السفير الروسي في الولايات المتحدة حول رفع العقوبات دون إعلام نائب الرئيس المنتخب مايك بينس وذلك قبل تعيينه، أما بعد عزله فقد أبانت التحقيقات أنه كان يقبض أموالًا من أنقرة للترويج بالانسحاب من سوريا.

فسّر البعض أنّ ما تبع ذلك في هذا العام -٢٠١٨- هو مسرحية، حيث قام ترامب بطرد ٦٠ دبلوماسيًا روسيًا بالترافق مع انعكاسات قضية سكيربال، وتجميده لأموال إعادة الإعمار في سوريا والتي تقدّر بحوالي ٢٠٠ مليون دولار لتخفيض النفقات كغطاء لتصريحه المفاجئ في أوهايو بانسحابه من سوريا وهذا مبهمٌ؛ فقضية سكيربال عرضيةٌ، كما أنه من غير المؤكد أنّ روسيا غير ضالعةٍ بها، وبالنسبة لتجميد أموال إعادة إعمار سوريا فقد يكون عرضياً هو الآخر؛ فأمريكا أنفقت أكثر من ٧ مليارات في حربها على داعش في ٢٠١٧، وانسحاب أمريكا هو شيءٌ مبررٌ سياسيًا من دون عمالةٍ، لكن بالتدقيق أكثر فإنّ هذه السياسة تناسب دولةً متواضعةً كفرنسا أو بريطانيا، بينما هي نكبةٌ للسياسات الأمريكية الليبرالية.

وعلى هذا فإنّ كثيرًا من التبديلات في المناصب السياسية كعزل ماكماستر الذي عيّنه ترامب مرغمًا بعد إقالة فلين، وتعيين جون بولتون -وزعم ترامب تأييد بولتون لموقفه في سوريا- إضافة إلى الأنباء الحالية عن رغبة ترامب بعزل وزير خارجيته ماتيس -والذي يشبه ماكماستر بتأييده للبقاء في سوريا- كلّ ذلك يؤكّد عدم استطاعة ترامب تنفيذ قراراته التي اتّخذها، ويبرّر التباين الحادّ بين كلامه وما تفعله المؤسسات الأمريكية التي لا تتقبل حتى الآن فكرة أنها أصبحت دولة مخترقةً باللوبيات المرتبطة بالخارج، وخاصةً بين الدول التي كانت تابعة لها: تركيا السعودية، قطر، إسرائيل. هذا إن لم تكن مخترقةً روسيًا وصينيًا. وقد كانت أمريكا نفسها من جعلت حلفائها ينهجون هذا حينما بدأ مسلسلها: (الفوضى الخلاقة)، (والربيع العربي) وإصرارها في مرحلة سابقة على إسقاط نظام الأسد بالقوة المطلقة بتشددٍ كبيرٍ وصل بإدارة أوباما أن تدعم داعش علنًا

-تصريحات هيلاري-.

تحدثتُ أنّ المخابرات الأمريكية وبقية المؤسسات التي تعتبر سلطة ثالثة ورابعة بمقتضى النظام الأمريكي وبعيدًا عن كون الدولة العميقة قد كبّلت ترامب منذ بدء تولّيه لمنصبه بقضيةٍ تعود لما قبل انتخابه؛ ففي الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون وقيادة الحزب الديمقراطي تعاقَد الحزب الديمقراطي مع شركة أبحاث مدفوعة الأجر، وقد أعدّ الملفَّ رجلُ مخابراتٍ بريطاني يدعى: كريستفور ستيل عام ٢٠١٦، وعرف ملفه بملف ستيل، ويحكي الملف عن محاولة روسيا الوصول والسيطرة على ترامب منذ خمس سنواتٍ، كما يتحدث عن تنسيق الحملة الانتخابية لترامب مع الروس على اختراق البريد الإلكتروني لقيادة الحزب الديمقراطي “اللجنة الوطنية الديمقراطية” وتسريبها إلى موقع ويكيليكس.

اعتبر الأمريكيون كل ذلك إشاعات أو قراءات غير صحيحة حينما خرجت بعض محتويات الملف للإعلام العام الماضي، وفي آخر العام ثبت أن مدير الحملة الانتخابية لترامب “بول مانافورت” قبض ١٨ مليون دولار من حزب أوكراني موالٍ لروسيا، واعترف كارتر بيج -أحد مستشاري ترامب- بأنه التقى مسئولين روسيين، لكن محامي ترامب الشخصي “مايكل كوهين” أنكر بشدةٍ سفره إلى براغ عام ٢٠١٦، ونفى ترامب نفسه قصة فندق ريتز كارلتون -موسكو- عام ٢٠١٣ بأكملها ونفى نومه في الفندق.

وقد اعتبر مؤيدي ترامب وأغلب الأمريكيين نفي كوهين بمثابة نفي للملف بأكمله.

_ التصعيد نحو سوريا وإيران:

مطلع نيسان لهذا العام، سرّب مكتب التحقيق الجنائي -تحقيق مولر- لوسائل الإعلام أنّ هنالك دليلًا على ذهاب كوهين فعلًا إلى براغ، ورغم أنّ السفر لا يعني التواصل مع الروس إلا أنّ كذبه يعني إعادة الشكوك وفتح الملف.

كما أنّ قضية فندق كارلتون ريتز -موسكو- المغلقة والتي تحكي عن إرسال المخابرات الروسية لعاهراتٍ إلى غرفة ترامب وقيامهم بأفعال شاذة؛ كطلبه منهم التبول على سرير أوباما، والتي تحكي أنّ روسيا تبتز ترامب بشريط يصور تلك الليلة الحمراء هو قضيةٌ محرجةٌ جدًا، وتمس بشعور العظمة للمواطن الأمريكي البسيط، العرق الأبيض المتفرد وفتحها محرجٌ.

وفي منتصف نيسان، وبعد تصعيد ترامب في سوريا وصف الأسد بالحيوان يوم استسلام مسلحي دوما وقصة الكيماوي، وفي خضم انشغال إعلام الدول الصغرى بتصريحاته قامت المخابرات الفيدرالية الأمريكية باقتحام مكتب مايكل كوهين -اليد اليمنى لترامب- وقد أخذوا جهاز الكمبيوتر الخاص به، بما يحتويه من كنز من المعلوماتٍ الخاصةٍ بترامب. وفهم الرئيس ترامب أنه تجاوز كل الخطوط فضرب سوريا بمسرحية العدوان الثلاثي لنفي الاتهامات وتوجيه الأنظار بعيدًا.

من الجدير بالذكر أنّ مسرحية العدوان الثلاثي مثيرة للسخرية، ففي حين اجتمع ترامب مع مجلس الأمن القومي، وسافر الخليجيون في جولاتٍ مكوكيةٍ، وأطلق تغريداته السخيفة: الصواريخ الجميلة والذكية، ظهر كلامه أنه موجهٌ للرّوس؛ رفض الجيش الأمريكي تصعيدات ترامب الحمقاء المظهر واستهدفوا أهدافًا سوريةً بحتةً، وتحاشوا الاقتراب من الروس والإيرانيين.

_ احتمالاتٌ ورؤى أخريات:

يتناسى الكثيرون أن العالم البشري يعاني من أزمةٍ فكريةٍ حادةٍ للغاية، فمن المؤكد لكل مراكز الأبحاث في العالم أن دين الإسلام بعد نحو ٢٥ عامًا سيكون هو الدين السائد في أوربا، وليس الأكثر عددًا فحسب، كما هو الآن منذ عدة سنينٍ مضت حسب إحصائية أوربية، وأن اللغة العربية ستكون أهم اللغات العالمية رغمًا عن الجميع، ويتناسون أن الصين ومبادئ ماركس والمادية الديالكتيكية أوحت لها بتحاشي أي صراع حاليًا؛ لتنبؤها بالأزمة الراهنة؛ فتحاشت حتى امتلاك السلاح في ظل تغلغلها في الاقتصاد الأمريكي وكثرة سكانها العددية الضامنتين لها منزلةً بحكم الضرورة دون أية نزاع.

يتناسى الكثيرون أن أوروبا ماتت سريريًا حكمًا بانخفاض نسبة التكاثر عن الحدود الممكن علاجها، وأن الحضارة الغربية فيها إلى اندثار حكمًا، وأن من كانت تستوردهم من المسلمين والعرب لترميم مجتمعاتها وحضاراتها لن تعد تستطع تأهيلهم ودمجهم أبدًا مهما فعلت.

إذن ليس بالضرورة أن يكون ترامب أحمقًا أو عميلًا روسيًا، فقد يكون الاثنين سويةً من جهةٍ، والأهمّ أنه قد يفعل المستحيل لاستمرار النظام الدولي القديم؛ لكنّ قواه وقوى واشنطن باتت ضيقةً ومحدودةً وغير كافيةٍ للسيطرة على العالم الجديد الذي يستفيق.


مساهمة أيهم ع. سليمان من سوريا

تدقيق ياسمين الشريف

إعلان

اترك تعليقا