بين القارئ والناشر
أحد الجمل التي أتذكّرها عند تفكيري في كتابة هذا المقال كانت لمدرّس اللغة العربية، الذي كنت أذهب إليه في الإعدادية والثانوية، عندما كان الحديث عن القراءة والكتابة.. لا أذكر نَصّ الجملة، ولكنّني أذكر معنى ما قاله بأنّ الكتب متوفرة بشكل كبير على الإنترنت لمن يحتاج أن يقرأ. ولكن كيف نصل إلى كلّ الكتب الورقية التي نحتاجها؟
قد تتساءل عزيزي القارئ عن سبب ذكري لتلك الجملة، ولكن تدريجيًا ستعرف المغزى من وراء ذلك.
أول مرة تعرّفت فيها على الكتاب بأشكاله المختلفة كانت من مكتبة المنزل، وكان اللقاء الثاني بمكتبة المدرسة، حينها كان الكتاب الورقي هو ما أعرفه، لم أكن اعرف أنّ نسخًا إلكترونية من الكتب تتواجد ولم أكن أسمع بها، لم أكن أعرف أيضًا بأنّ هناك نسخ مقلدة أو كما نسميها “مضروبة” وأخرى أصلية.
مع مرور الأيام يشتري لنا والدي حاسوبًا بالمنزل، ومن خلال عالم الإنترنت الذي كنت أجهله تمامًا تعرّفت على النسخ الإلكترونية للكتب. حاولت مرارًا القراءة من خلالها ولكني فشلت، لم أنجح سوى عندما كانت الملاذ والمصدر الوحيد للقراءة، وحينها تعرّفت على نوع جديد من الكتب وهو الرواية. بدأت تدريجيًا أتعرف على أماكن لبيع الكتب وبدأت العناوين الخاصة بها تجذبني، وشرعت في تكوين مكتبة خاصة بي.
هنا بدأت مرحلة جديدة مختلفة وبشكل كامل، أوّل كتاب قمت بشرائه كان أحد كتب عالم المعرفة، حينها كان سعره سبعة جنيهات، كنت أظنه سيكون باهظ الثمن لجهلي بسلسلة عالم المعرفة مسبقًا، وكان هذا أول كتاب أقتنيه من تلك السلسلة. بعد ذلك قمت باستعارة بعض الروايات من صديق لي بسبب صعوبة قراءة الكتب بشكل إلكتروني. وكانت تلك المرة الأولى التي أمسك بها رواية بيدي.-شعور مختلف ومميز-، لكني مع الوقت فضّلت الشراء؛ حيث رغبة تكوين مكتبة خاصة بدأت تزداد. صديقي هذا كان مسافرًا للقاهرة ليشتري بعض الكتب واشترى لي روايتين وكانتا أول روايتين أقوم بشرائهما؛ روايتَي “الجحيم” و”النبطي”. بعد ذلك كانت كلّ الكتب التي تقع عليها عيني من إصدارات الهيئة العامة للكتاب ولقصور الثقافة، وكما هو المعروف فإنّ أسعار تلك الكتب قليلة للغاية.
مواقع الكتب منتشرة وتملأ شبكة الإنترنت والكثيرون يلجأون لها.
واجهتني المشكلة التي واجهت وتواجه الكثيرين وهي؛ كيف اقرأ؟ هل أقرأ النسخة الإلكترونية أم الورقية؟ وكيف اقرأ الورقية؟ هل أصلية أم مقلدة حسب ما يناسب مقدرتي المالية؟!
بالنسبة للإلكتروني والورقي، فالكفّة تميل بشكل أكبر للورقي، ولكن هذا لا يمنع من قراءتي بعض النسخ الإلكترونية، لكن ما تزال هناك مشكلة تتمثل في الاختيار ما بين النسخة الأصلية أم “المضروبة”. المشكلة هنا لا تتمثل في السعر فقط، ولكن أيضًا في كيفية إخراج الكتاب وجودة الغلاف والورق المطبوع عليه الكتاب، فالفوز هنا بلا منازع للنسخة الأصلية.
طالب يتطلّع للمعرفة ويسعى لتكوين مكتبة من خلال اقتناء كتاب بجودة جيدة تدفعه دفعًا للقراءة، ولكن لديه صعوبة في اقتناء كل الكتب التي يريدها بنسخ أصلية، فماذا يفعل؟!
لا يملك سوى شراء الكتب التي يقدر على دفع ثمنها، والتي في بعض الأحيان يكون ثمنها بالنسبة إليه مشكلة، ولا يقدر عليه -الثمن الذي قد يكون أحيانًا أقلّ بكثير من سعر النسخة الأصلية- ولكن إن اقترب سعر النسخة الأصلية من مقدرته سيشتريها بلا تردد.
نأتي هنا لأمر آخر: الاتهامات الموجهة لي كقارئ ولغيري ممن يقومون بشراء النسخ المقلدة بأنّي سبب في تدهور صناعة الكتب وعملية النشر. بالنسبة لي ولكثير من القراء، قد لا نهتم بالشكوى كثيرًا، وسنردّ عليك كيف تطلب مني شراء نسخة أصلية من كتاب بسعرٍ لا أتحمّل ثمنه وتتهمني بفشل الصناعة وتدهورها، وتلقي بكل المشكلة على كاهلي، بدون مشاركتك في الحلّ ومعرفة سبب لجوئي ولجوء غيري لفعل ذلك؟!
اشتريت رواية وتركتها لما يقارب الشهر دون أن ابدأ بقراءتها، وبعدما بدأت اكتشفت أنها ينقصها ما يقارب ستة عشر صفحة. كانت أشبه بالصدمة، حينها تركت الرواية حتى هدأت نفسي وقمت بتحميلها على الحاسوب وقرأت الصفحات الناقصة. تلك الواقعة غيّرت كثيرًا في طريقة شرائي الكتب.انقطعتُ لفترة طويلة عن شراء الكتب المقلّدة واتجهت إلى طريقة أخرى، إن وجدت نسخة أصلية لكتاب بسعر مناسب أقوم بشرائها، وإن وجدت عرضًا بأحد المكتبات أقوم باقتناء ما أريده خلال العرض.
اتجهت بشكل أكبر إلى إصدارات عالم المعرفة ومجلات الدوحة والمجلة العربية والفيصل والرافد، تلك المجلات تتميز بمحتوى رائع ويوجد مع كلّ منها كتاب، وإلى إصدارات الهيئة العامة للكتاب ولقصور الثقافة بكل سلاسلهم. قللت بشكر كبير الاعتماد على الكتب المقلدة بسبب تلك الواقعة التي أثّرت عليّ وغيرت من طريقة تفكيري في الشراء.
الوقت الذي أقوم فيه بشراء نسخة أصلية لكتاب أكون في غاية السعادة، وأسعى لأن تكون كلّ النسخ التي أقوم بشرائها من الكتب نسخًا أصلية، ولكنّ بعض الكتب قد لا أجد منها سوى النسخ المقلدة أو قد لا أقدر على توفير ثمن النسخة الأصلية منها، رغم رغبتي في ذلك!
لا أرى جدية في الحديث عن الرغبة في انتشار القراءة بين الناس والاتهام الموجه للناس بأنهم لا يقرأون مع الاتهامات الموجهة من بعض أصحاب دور النشر والكتاب، وأحيانًا بعض القراء الذين يقدرون على شراء كلّ النسخ الأًصلية، للقراء بتدهورها بدون المحاولة لمعرفة كل أسباب المشكلة وذهاب القارئ للكتاب المقلد!
أنا وغيري من القراء -إن لم نذكر القرّاء الذين يفضلون النسخ الإلكترونية عن الورقية بسبب مشاكل قد تواجههم خلال قراءة النسخ الورقية- لن نقدر على شراء كلّ ما نريده من النسخ الأصلية، مع رغبة الكثير منا في فعل ذلك- وبالطبع كلّ ما نريد قراءته لن نجده لدى دور النشر الحكومية ولن نستطيع الاستغناء عن الكتاب الورقي.
لنعود لجملة البداية التي ذكرتها علي لسان مدرّس العربية، لنفترض زوال المشكلة التي اشتكى منها، هل سيقدر على شراء كل ما يريده من كتب بنسخ أصلية، المشكلة ليست وليدة الوقت الحالي، بالطبع هناك المزيد من المشاكل بسبب المشكلة الاقتصادية التي تضرب البلاد، ولكن أيضًا ليست فقط الكتب هي ما ارتفع سعره على القارئ، الكتب هي فقط مثل كلّ شيء آخر ارتفع سعره.
بعيدًا عن الكُتّاب وأصحاب دور النشر، رجاءً من القراء الذين يقدرون على شراء النسخ الأصلية كفّوا عن لوم الذين لا يفعلون مثلكم إن لم تعرفوا سبب ذلك.
إن كنت تسعى فعلًا للوصول إلى القارئ ونشر المعرفة والحفاظ على الصناعة فخذ المبادرة للحلّ، كن جزءًا من الحلّ وتحمّل المسؤولية أنت أيضًا ولا تحمّلها وحدها للقارئ وستجد القرّاء يأتونك أفواجًا ويصطفّون أمام فروع مكتباتك.
قد لا أملك حلًا جذريًّا للمشكلة بحُكم قيامي بالشراء فقط، ولكن دعنا نبحث عن حلّ سويًّا.. من المعروف لدى الجميع بأنّ السلعة التي يزيد عددها بالسوق يقلّ سعرها، لمَ لا تحاول توفير عدد أكبر من النسخ للطبعة الواحدة حتى تصل لأكبر عدد من القرّاء؟ ستجدهم يتركون النسخ “المضروبة” ويتجهون إلى نسختك. لمَ لا تحاول تغيير طرق التوزيع والوصول إلى الناس؟ كيف بعاصمة لمحافظة وغيرها من المدن الكبرى، وقد تكون محافظات بشكل كامل، لا يتواجد بها فروع لمكتباتك؟!
عندما لا أجد كتابك متوفّرًا لي وبسعر مناسب فسأبحث عن أيّ كتاب يواجهني حتى وإن كان “مضروبًا”.
الشكوى على لسان مدرّس العربية كما ذكرت في البداية، تجعل الحديث عن أنّ الناس لا تقرأ أمرًا غير صحيح بدون السعي للوصول إليهم، وأنت قابع في المدن الكبرى، وقد يكون في بعض المناطق بالمدن الكبرى. هل حقًا تسعى لنشر القراءة بين الجميع أم تحويل القراءة لنشاط نخبوي قاصر على مجموعة من القراء؟
القيام بطباعة عدد من النّسَخ، في بعض الأحيان لا يتجاوز الألف نسخة من الطبعة الواحدة، يجعل وصول النسخة الأصلية لجميع القراء مستحيلًا. كيف لألف نسخة أن تصل لجميع القراء؟ حاول التواجد بكل المدن والقيام بطباعة عدد نسخ أكبر للطبعة الواحدة كي تغطي انتشارك بكلّ المدن. إن لم يتمّ شراؤها وقُطع الطريق على القارئ للحصول على النسخ المضروبة حينها يكون الحديث عن شعب لا يقرأ وقرّاء يساعدون في تدمير الصناعة أمر جدّي!
القارئ الحقيقيّ، بلا شك، يسعى للحصول على أفضل النسخ للكتاب الذي بين يديه وذلك للفرق الشاسع بين النسخ الأصلية والمقلّدة؛ ولا يسعى لتدمير الصناعة أو التشجيع على ذلك، ولكنه يرغب في حلّ تلك المشكلة.
قد نوجد الكثير من الحلول الأخرى، وقد تكون تلك الحلول اعتباطية للبعض، ولكنّ حلّ المشكلة لن يأتي بإلقاء اللوم على القارئ فقط بدون الجدية في محاولة معرفة الأسباب التي تدفعه لشراء النسخ المقلدة وبدون الجدية في حلّ المشكلة من جذورها وتحمّل المسؤولية أيضًا بجانبه، حينها ستجدونه يقف بجواركم ويساعدكم في حلّ المشكلة.. عندها ستجدون جدّيّة رغبتكم في التخلص من المشكلة لا الرغبة في إلقاء على القارئ اللوم وحسب.