المسيري وإشكالية تعريف العلمانية
بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة
عند التعرض لمحاولات صياغة مفهوم “العلمانية” تظهر اختلافات لا حصر لها بين الفيلسوف والسياسي وعالم الاجتماع، أو بين معجمٍ وآخر، بل يعطي المعجم الواحد تعريفات متمايزة للكلمة.
الأصل الاشتقاقي للكلمة
العلمانية [ secularism ]
تم اشتقاق الكلمة من أصلها اللاتيني [saeculum] وتعني (العصر، الجيل)، وتتشابه مع اللفظ اليوناني (آيون) الذي يعني (الكون).
إلاّ أنّ بعض الكُتاب يشيرون إلى اختلاف استخدام الأصل الاشتقاقي اللاتيني في العصور الوسطى، حيث كانت الكلمة [saeculum] تعني (العالم ، الدنيا ، في مقابل الحياة الدينية والكنيسة).
والشائع في الفلسفة وعلم الكلام أنّ كلمة (العالم) تعني : “ما دون الله” ومن ذلك يصبح لدينا مجالان للحديث عن اشتقاق الكلمة من حيث ارتباطها في الأصل (بالزمان مرة، والمكان مرة أخرى).
وقد أدى ذلك في النهاية إلى وجود مصطلحين متمايزين في تعريفهما الحديث وهما : العَلمانية (بفتح العين) العِلمانية (بكسر الحرف).
تاريخ سك المصطلح
اعتمد بعض المؤرخين تاريخ ظهور المصطلح مع نهاية حرب الثلاثين، وكان تعريفًا خاصًا حيث أُطلق على عملية العَلمنة (نقل سلطات الكنيسة الدينية إلى سلطات سياسية)، وهو ما اعتبرته الدولة شرعيًا، واعتبرته الكنيسة غير شرعي.
بينما كان “جورج هوليوك ” هو أول من أطلق المصطلح الذي تم تقليصه لكي يصبح في لغتنا المعتادة
(فصل الدين عن الدولة)، لكن تعريف هوليوك أكثر إيضاحا حيث قال عن العلمانية إنها:
إمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدّي لقضية الإيمان سواءً بالقبول أو الرفض.
التعريف المعجمي
في معجم اكسفورد كان هناك تخبط في تعريف العلمانية، وهو أمر ملازم لكل المحاولات قديمًا أو حديثًا، وربما من الأفضل تقديم تعريفات اكسفورد على أنها ” تدرج من التخصيص إلى الشمول ” حيث نجد من ضمن تلك التعريفات لمصطلح (علماني)
١- أعضاء الكهنوت الذين يعيشون الحياة بعيدًا عن عزلة الأديرة.
٢- من ينتمي للحياة العملية ويختلف بذلك عن حياة الكنيسة والدين.
٣- من يهتم بهذا العالم فقط.
٤- من ينتمي إلى العالم المرئي ويختلف بذلك عن العالم الروحي.
فمن الواضح أن تعريفات معجم اكسفورد أغلبها تتخذ الطابع السلبي وليس الايجابي (دنيوي، غير روحي، ليس مقدس، غير كنسي، ليس دينيا)، إلى أن جاء المعجم بتعريف “للعلمانية” كان نهاية تدَّرجها وغاية تعددها: “العقيدة التي تذهب إلى أنّ الأخلاق لابد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة، واستبعاد كل الاعتبارات المستمدة من الإيمان بالله و الحياة الأخرى”،
وهذا التعريف بوجه ما قريب من تعريف هوليوك الذي أشرنا إلى مدى أهميته حيث يطرح أسئلة عديدة في مواجهته :
(من أين نستمد تلك الأخلاق؟ ما هو المعيار المستخدم لتحديد الصالح بالنسبة للإنسان؟ هل يمكن الوقوف على الحياد من قضية عظمية كالإيمان بالله؟ من أين نأتي بالقيمة؟).
يَعرض معجم علم الاجتماع تعريفًا للعلمانية يشير إلى “الممارسات التي لا علاقة لها بالجوانب غير النهائية للحياة الإنسانية، فهي قطاع من قطاعات الحياة المختلفة”.
وينتهي إلى السلبية حيث يقول “إنّ النتيجة النهائية والمناسبة التي يمكن التوصل إليها بعد مراجعة الإيحاءات المناسبة والتعريفات المتعددة التي تشير إليها العلمانية، هو أن نُسقِط المصطلح ونستخدم بدلاً منه مصطلحات لها دلالة واضحة مثل التمايز والإحلال”.
بين العلم والعالم
ذلك الانتهاء السلبي إلى عدم تحديد المفهوم القياسي يثير مسألة الفارق بين مصطلحي (عَلمانية) و(عِلمانية)
- العَلمانية من حيث الدلالة الاشتقاقية للكلمة هي
” الارتباط بالعالم والاهتمام بقضاياه “، فالعَلماني: من يهتم بالعالم وقضاياه، فهو لا يرفض الدين ولا يؤيده، لا علاقة له بالدين. - العِلمانية هي “الارتباط بالعلم والاهتمام بالفروض والقضايا التي ينفرد العلم بالحديث عنها”.
ومع تطور النظرة إلى العالم والعلم، تطورت المفاهيم ليُصبح العَلماني “من ينتمي إلى هذا العالم ويتخلف عن العالم الروحي / غير المرئي”.
وبعد تطور العلموية والنظر إلى العلم التجريبي على أنه رؤيةٌ كونيةٌ شاملة، صار العِلماني “شخص مُعادٍ للدين ومُعادٍ لكل نظرة لا تحتكم إلى العلم”.
التحديث والتغريب
وبالالتفات إلى نصيحة معجم علم الاجتماع بإسقاط مفهوم العلمانية وإحلال بعض المصطلحات ذات الدلالة الواضحة ،على سبيل المثال مصطلح “التحديث” .
كثيراً ما يتم الربط بين التحديث والحداثة ويُعرّف المفهوم على ذلك بأنه “اعتماد على العقل ونبذ المعيار التقليدي باتباع معايير الحداثة” .. ومع التطور الذي صاحب العقل، يشار إلى المصطلح الآن بأنه “الأخذ بالتطورات العلمية والتقنية”.
وبالنظر إلى موطن نشأة الحداثة و التقدم العلمي في الحضارة الغربية، يمكننا أن نُقارب بين مفهومي
“التحديث” و”التغريب” .. على أن يكون :
- نبذ المعيار التقليدي هو احتكام للعلم.
- التطورات العلمية هي تطورات للمجتمع الغربي بالتبعية.
- الاعتماد على العقل ومعايير الحداثة هو اعتماد على العقل التجريبي والمنهج العلمي.
من هنا يرى المسيري أنّ النظرة المادية تُهاجم تلك المفاهيم لتضع مفهوم العلمانية في النهاية داخل إطار مادي لا تتجاوزه، ولفرض أنماط الغرب وأساليبه.
العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية
يؤكد المسيري على أنّ محاولة اكتشاف رأي المفكر في قضية العلمانية وما يعنيه المصطلح، يجب أن تبدأ بعدة أسئلة يطرحها الجمهور ليجيب عنها المفكر بشخصه أو في كتاب له، وأول تلك الأسئلة وأهمها
- هل المرجعية كامنة في العالم أم متجاوزة له ؟
- هل سعي الإنسان مرتبط بتحقيق غاية في الحياة فقط؟
وعلى هذا المنوال يمكننا طرح الأسئلة عن (القيمة، والأخلاق، والثوابت .. )
ويقف ليفرّق بين تصورين مختلفين للمصطلح، فينسب الموقف الذي يجيب عن تلك الأسئلة بأن القيمة والغاية والمرجعية أشياء كامنة في العالم إلى (العلمانية الشاملة)، والرأي المخالف إلى (العلمانية الجزئية).
ويعرف الأخيرة بأنها “رؤية جزئية للواقع، لا تتعامل مع أبعاده الكلية والمعرفية” أي أنها إجرائية تعبر عن رأيها السياسي بوجوب فصل الدين عن الدولة، وتلتزم الصمت في مجالات الحياة الأخرى.
و كون ذلك المصطلح ذو رؤية محددة للإنسان فبذلك لا يتفرع عنه منظومات معرفية أو أخلاقية.
ومن المسائل التي دار حولها الجدال بين المسيري ومنتقديه، ربط تعريفاته للمصطلحات بأمثلة لمفكرين عرب، فنجده عند محاولة تحديد مفهوم العلمانية الجزئية يذكر مواقف (حسن حنفي، فؤاد زكريا، حسين أمين، محمد رضا محرم) .. وقد لاحظ المسيري أن أغلب من يتخذون التعريف الجزئي للعلمانية موقفاً لهم، لا يرونها ظاهرة عالمية بل يرونها نتاجاً للغرب والحداثة.
كان تعريف حسين أمين للعلمانية أنها “محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة” .. وذكر (بعض) يدل على موافقته لوجود مجالات أخرى للمعرفة لا تستقل عن الميتافيزيقا، فالعلمانية بذلك لا تتصف بالكلية أو الشمول.
بالتالي لا تعني تلك التعريفات السقوط في “النسبية العدمية “، فقضية المرجعية الكامنة بعيدة عن تلك التعريفات التي سوف تنتقل مع تطور الحركة الفكرية لتشكيل البنية الأساسية لما يسمى بالدين الطبيعي أو الربوبية.