رُّؤيَة ثَوُريَّة لسفر أيوب

مُقدَّمـة

تبدو إمكانيَّة التحليل الثَوْرِيّ لسفر أيوب، حديثة نسبيًا، بالنظر إلى الاستعمالات المُغايِرة لمضمون السَفَر قبل القرن العشرين، ولعل أوضح الأمثلة نجدها عند توماس هوبز ( 1588 – 1679) الذي اقتبس اسم التنين في السَفَر -لوياثان- عُنْوَانًا لكتابه الأشهر في اللاَّهُوت السياسيّ، الذي شَبَّه فيه السُّلْطة المُطلقة للحَاكِم بالإله الأرضيّ، وهو لا يرى معنى لتوزيع السُّلْطات إلا سيادة منقسمة وتناقض في الحدود، لذا فالإله الفاني الذي صوَّره سَفَر أيّوب ينعكس على مرآة المَلَكِيَّة الاستبداديَّة في نظريَّة هوبز.

وبالرغم من تلك المُفارقة فإننا نُفضِّل البدء من الكتاب ذاته لبيان الاتجاهات التي دفعت إلى تحليل السَفَر بمنهجيَّة ثَوْرِيَّة داخل إطار اللُّغة والتحليل النفسيّ.

يقول هوبز عن سفر أيوب: إنه

“بحَدّ ذاته ليس تاريخيًّا، بل هو مؤلَّف يتناول مسألة موضع نقاش في العصور القديمة مطروحة على النحو التالي: “لماذا غالبًا ما يفلح ويزدهر الأشرار في هذا العالَم، بينما يتألَّم صانعو الخير؟”(1)

 ذلك السؤال الشائك قد عرض من قبل في مواضع متفرِّقة من العهد القديم، في المزامير: (قالوا: كيف يعلم الله؟ وهل عند العلي معرفة؟ هو ذا هؤلاء هم الأشرار، ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة).

لكن الإلَه الآن أصبح في مأزقٍ، ذلك الذي أقام عَلاقة شخصية بينه وبين الإنسان وعقد مع شَّعْبه المُختار عهدًا وميثاقًا. يخدعه الشيطان في مراهنة ليُعرِّض عبده أيّوب لإبادة كُليَّة.

إعلان

رؤيَّة أوَّليَّة

في خلفية سفر أيوب يتمثَّل المشهد الأسطوريّ “للإنسان المُعذَّب”، حيث انتشرت في العالَم القديم وحضارات الشرق الأدنى النصوص الأدبيَّة التي تَصِف رجلًا مُعذَّبًا يشكو لإلهه ما حدث، وتعدَّدت تمثلات نموذج “الصالح المُتألِّم”، حيث نجد في الأدب السومريّ قصة لرجلٍ غني، صالح، حكيم، قد حلَّت به مصائب شتى وتملَّكته الأرواح الشريرة والعفاريت فبات مريضًا عاجزًا: (يا إلهي أنت أبي الذي أنجبني، إلى متى تتجاهلني وتحرمني من حمايتك ؟)(2)، وفي الصياغة البابلية لفِكْرة المُعذِّب الصابر جاءت نصوص كثيرة أهمها النص المعروف ببدايته (لأمتدحن إلَه الحكمة)(3). “وقد شاع هذا النمط في القِطَع الأدبيَّة في العالَم القديم، فقد عرفنا (أيّوب البابليّ) وعرفنا (أيّوب المِصريّ) وعرفنا (أيّوب الأدوميّ) في أحد أسفار التوراة”(4).

يضع سفر أيوب هذا الإنسان المؤمن فوق منصة مُضيئة، لكي يدلي بشكاته أمام سمع العالَم وبصره، فيهوه قد هيَّجه الشيطان على أيّوب ليسلب قطعانه، ويقتل عبيده، ويأتي بإعْصَارٍ يُودي بأبنائه وبناته، وينزل به داء يكاد يهلكه. “ويظل البطل وقتًا ما صابرًا” “صبر أيّوب”، ولكن صبره هذا يفارقه في آخر الأمر، ويُفكِّر في الانتحار، ويَلوم رَبِّه أشَدّ اللَّوْم لأنه نبذه وتخلَّى عنه”. في حوارٍ شِّعْريّ يناقش فيه “أيّوب الثَائِر ” ثلاثة من أصدقائه (أليفاز التيماني، وبلدد الشلوحي، وصوفر النعماني). تأتي ثلاث خُطَب ليدور خلالها الجَدَل وتُسمَع أصوات الاستهزاء والتمرُّد في مُجابهة الوعظ الدينيّ والحكمة المعهودة. “يتناول السَفَر مسألة موضع نقاش في العُصُور القديمة مطروحة علي النحو التالي: لماذا غالبًا ما يفلح ويزدهر الأشرار في هذا العالَم، بينما يتألَّم صانعو الخير؟”

يجيب أيّوب بأنه على علمٍ بما يقوله أصدقاؤه، لكنه لا يرى طريقًا يُبرِّر موقفه ليتبرَّأ أمام الله، ويشير إلى عدم جدوى كمال الرَّجُل أمام السُّلْطة الإلهيَّة: “وإن كنت كاملًا يستذنبني”، وهو لا يؤمن بالعدالة الإلهيَّة وإنما بقوة القوي: “إن الكامل والشرير هو يفنيهما”. ينشد في يأسٍ مدائح للقوة الإلهيَّة، فلا يدعو من أجل استجابة الله: “لأني وإن تبررت لا أجاوب”، وكل ما أمامه في تلك الحال أن يسترحم ديانه، فالبراءة يُستهزأ بها إذا قتل السوط بغتة، والعدل الغائب، وحكم القضاء قد غطى وجهه.

سِّيرَة الله

في كتابه “سِّيرَة الله” يطوِّر جاك مايلز نَظَريَّة كارل يونج عن سيكولوجية الإلَه اليهوديّ، تطويرًا أدبيًا يسرد فيه قصة الإلَه كشخصية أدبيَّة تتطوَّر إمكانياتها خلال أسفار التنخ، شخصية تبدأ حياتها بفتوة الخلق وتنتهي إلي الصمت والغياب في مرحلة الكهولة. وسنرى في النهاية أن أيّوب هو من أسكت الله بعد تحدي قوته الأخلاقيَّة، فالله لن يتكلَّم مرَّة أخرى بعد ذلك، وإنما سيتزايد الكلام عليه. 

” سبق لنا القول إن الإلَه، سواء بوصفه الله أو الرََبّ، يحمل في داخله شيطانًا خفيًا، حية، وحش عماء، إلهة دمار تنينية”(5). وكاتب سَفَر أيّوب يُجسِّد ذلك الصراع الداخليّ بتقديمه للوعي الإلهيّ كضحية رهان شيطاني يضع استقامة الإنسان وسلامته الأخلاقيَّة أمام قوة وسُّلْطة الله.

يتأكَّد تفسير مايلز للسفر من خلال ترجمات حديثة وغير تقليدية لكلمات أيّوب الأخيرة: “لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد”، حيث يعتمد على ترجمة كلٍ من إدوين جود في كتابه: “In Turns of Tempest”، وستيفن ميتشل الذي يقول: “إن معظم طبعات الكتاب المقدَّس تقدِّم لنا أيّوب الذي تقول كلماته الأخيرة إنه يندم في التراب والرماد. وهي تبني ذلك على أوهي أسس فقه اللُّغة، انطلاقًا من تفكيرها بأفكار مسيحية ومن توقعها أن تجد ندمًا وإذلالًا للنفس بوصفه الرد الملائم واللائق على الله العادل ذي الطابع الحاد الذي يتوقعون أن يجدوه”(6).

يلصق مايلز قوة السُّخْرية بكلمات أيّوب، ويصوِّر رده الأخير كرفضٍ لصوت الإلَه الذي سمعه من العاصفة، ويؤكِّد على أن أيّوب لم يُعِد النظر في عناده وتصلُّبه، فقد ظلت قناعاته على حالها دون تبدُّل، ولكنه قرَّر حفظ قضيته بعد أن زكَّى طريقه وبرَّر موقفه.
فالتراب والرماد في الآية إشارة إلي الهشاشة والضعف الإنسانيّ، وهو المفعول به المشترك للفعلين المتعديين (أنكر/ أندم)، بذلك يترجم كلمات أيّوب الأخيرة:

“الآن بعد أن رأتك عيني
يهزني الأسى علي الطين الفاني”.

أي بعد رؤيتي لقوتك المُهلِكة وغياب عدالتك الرحيمة، صرت أشفق على الإنسانيَّة.
تصل المواجهة بين أيّوب والصوت الصادر من العاصفة إلى الذروة. فأيّوب رفض أن يتخلَّى عن موقفه المُتحدي والسَّاخِر، وستكون له عائلة جديدة، لكن تلك التي فقدها في رهان الله والشيطان لن تعود من بين الأموات، “وكذلك براءة الله التي لن تعود أيضًا”.                           

 ترجمة جديدة لسفر أيوب

في كتاب (ترجمة جديدة لسفر أيوب)، يُجادِل إدوارد جرينشتاين بأن أيّوب  في الآيات الخمس الأخيرة كان يقلِّد الله بشكلٍ ساخر، مستهزئًا بخطابه المليء بمقاصد فرض السيطرة والسُّلْطة وإظهار القوة. استخدم جرينشتاين مصطلح “الغبار والرماد” كمرادف للإنسانيَّة البائسة، وقدَّم افتراضًا منمقًا يقول بإن مؤلِّف أيّوب كان يستعير المصطلح من سفر التكوين 18 :27 فأجاب إبراهيم وقال: “إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد”، وقد جاء الاقتباس ملائمًا بصورةٍ خاصة لسياق السفر، حيث كان إبراهيم يتساءل أيضًا عن العدالة الإلهية والأساس الأخلاقيّ للفعل الإلهيّ -كما ذكرنا- “أفتهلك البار مع الأثيم؟ .. أديان كل الأرض لا تصنع عدلًا؟”.
فيترجم جرينشتاين كلمات أيّوب الأخيرة:

لهذا السبب سئمت
أشعر بالشفقة على “الغبار والرماد”.
  

يقدم جرينشتاين رؤيته للسفر بطريقةٍ ثَوْرِيَّة تتعلَّق بقول الحقيقة للسُّلْطة، حيث “يفهم أيّوب أن الإلَه هو تمامًا كما كان يخشى: مصدر للقوة ولا يهتم كثيرًا بالناس”(7)، فيكمل تَحَدّيه للخِطاب الإلهيّ بمُحاكاة ساخرة من خلال التقليد، يُعبِّر فيها عن سخطه، وعن شفقته تجاه البشريَّة.

الطبعة اليسوعية

بعد أن افترضت الطبعة اليسوعية أن الذين نشروا القصيدة حاولوا التخفيف من جرأة البطل، فوضعوا على لسانه أقوالًا وردت في الأصل على لسان أصدقائه، وبعد تأكيدها على أن الرَّبّ نفسه قد أفسح المجال لأيّوب كي يدافع عن نفسه ويدين السلوك الإلهيّ، إلا أنها تتراجع حين تأتي نهاية السفر، فهي تعتمد من خلال ترجمة رد أيّوب على خطبة الله، رؤيَّة الندم والتوبة، لا التهكُّم أو الاغتراب عن الإلَه كما ذكرنا. ” إن أسئلته عن العدل بقيت بلا جواب، ولكنه فهم أن الله لا يُحاسب وأن حكمته قد تعطي معنى غير متوقَّع لبعض الحقائق، كالألم والموت”(8).

ختـامًا

تتداخل قصة أيّوب مع آلاف القصص في مجتمعنا العربيّ، لكن كل الأخطاء لا يمكن تصحيحها بالملكية كما يفترض السفر، “إذا تَمّ أخذ كل شيء من أيّوب، فإن المشكلة يتم حلها من خلال أن يعيدها الله إليه بالكامل”، لكن الوقائع التي يشهدها مجتمعنا، لا مجال فيها لعودة الأبناء أو الثَّرَوات. قصص تنتهي بمأساويَّة كما بدأت، ولعل بداية الكثير منها كانت مع انطلاق ثَوْرات الربيع العربيّ التي لم تتحقَّق عدالتها، وهو ما يعود بنا إلى “رغبة الموت” التي اشتعلت في نفس أيّوب، كما اشتعل جسد البوعزيزي.
ثوراتنا الشَّعْبيَّة التي انطلقت نتيجة لفعل احتجاجي يُعبِّر عن رفض الحياة التي فرضتها السُّلْطات القمعيَّة على الشُّعوب وسُّلْطة الاحتلال على الفلسطينيين، ويظل الشِعْر حاملًا آثار الاحتجاج الأيّوبيّ في الثقافة العربيَّة، بداية بسفر أيّوب للسياب، وقصيدة “أيّوب الفلسطينيّ” لحيدر محمود، ودعوة سميح القاسم:

“يا لعنة أيّوب .. ارتفعي
   يا لعنة أيّوب .. ثوري
واسمعني أصرخ: يا أيّوب!
   لا تخضع للوجع “(9)

المراجع :

(1) توماس هوبز، اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حرب، بشرى صعب، ص377
(2) فراس السواح، مدخل إلى نصوص الشرق القديم، ص 390
(3) المصدر السابق
(4) خزعل الماجدي، إنجيل سومر ص 145
(5) سيرة الله، جاك مايلز، ترجمة: ثائر ديب
(6) المرجع السابق
(7) The Book of Job – Stephen Mitchell 
(8) سفر أيوب، الطبعة اليسوعية
(9) سميح القاسم، الأعمال الكاملة، ص265

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: معاذ محمد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا