كتالوج الإنسان
قرأتُ في بعض كتب التراث عن نظامٍ غذائيٍّ كان يُدعَى (المُرَازَمة)، وهو أن يأكل الشخصُ اللحمَ يومًا، والعسلَ يومًا، واللبنَ يومًا؛ وليس يعنيني أن أبحثَ في جدوى هذا النظام الغذائي لِمَن يلتزم به، وإنما يعنيني أنْ أقولَ إنه (نظام غذائي)، يردُّ فكرَنا مباشرةً إلى النظام الذي التزمنا به منذ آلاف السنين، وعبَّر عن حضورِه بقوةٍ في موروثنا اللغوي، بكلماتٍ لا تحتمل اللبس، تُمثِّل أركانه الثلاثة. هذا النظام هو تناول أطعمةٍ متنوِّعةٍ ثلاث مرات يوميًّا، والكلمات (شديدة الوضوح) التي تعبِّر عن هذه المرات المتتالية هي: الإفطار – الغداء – العشاء!
الغرض الحقيقي لاختراع الوجبات الثلاث!
لم يُولَد الإنسان، وبين يديه الصغيرتين كتيِّبٌ ينصُّ على كيفية إطعامه والعناية به! ولم نقرأ على صفحة السماء ذاتَ ليلةٍ ما يفيد بأنَّ الإنسان يجب أن يُطعَمَ ثلاث مرات يوميًّا لكي يظلَّ بقيد الحياة! ولم يتطوَّر الإنسان بطبيعة الحال لكي يتناول الطعام ثلاث مراتٍ يوميًّا. وإذا استحضرنا إلى أذهانِنا البيئات التي تطوَّر الإنسان على مدار ملايين السنوات لكي يحيا بها (أعني الغابات والأحراج والأودية)، لَمَا قضينا بحتمية أن يتناول الطعام ثلاث مرات يوميًّا؛ فإن حياته في مثل هذه الظروف، لا تتطلَّب إلا وجبةً واحدةً يوميًّا، لا يبلغها إلا بشقِّ الأنفس، بعد سعيٍ مرهق صوب فريسةٍ أو بضع ثمرات، أو أن يتناول الطعام متى وجد إليه سببًا دون التزام بمواعيد!
إذًا ما الذي ألجأ الإنسانَ إلى وضعِ نظامٍ غذائيٍّ يتضمَّن أن يتناولَ الطعام ثلاث مرات يوميًّا؟!
يجب أن نتفق بدايةً على أن هذا النظام ليس فسيولوجيًّا، وإنما هو تنظيم اجتماعي، مقصده الأساسي هو ألا يُضطرَّ الإنسان إلى الشعور بالجوع في أيٍّ من فترات اليوم. وبوسعنا أن نخمِّن أنَّ هذا النظام (الغذائي/الاجتماعي) نشأ في مجتمع الوفرة، على عكس (المُرَازَمة) التي ارتبطت بحياة البدو، وكذلك (الصيام حتى المغرب) الذي ارتبط بدينٍ عربيٍّ صحراويِّ المنشأ. ولا حاجة إلى ذكر ظروف الحياة بشبه الجزيرة العربية في تلك الأزمنة القديمة، التي فرضت على أهلها أنْ يُعَوِّدوا أنفسَهم على تناول الطعام مرةً أو مرتين فقط يوميًّا، إحداهما الغداء (الذي يؤكَل في الغُدوة وهي وقت النهار) والعشاء (الذي يؤكل عَشِيَّةً).
حين تغلَّب البشرُ على الجوع، استطاعوا أن يحيِّدوا إحدى أشدِّ الغرائز فتكًا، ودفعًا إلى العنف. تناوُل الطعام ثلاثَ مراتٍ يوميًّا أدَّى إلى حدوث استقرار في المنظومة الاجتماعية لمجتمع الوفرة، والوصول إلى الحد الأدنى من السلم بين الأفراد. وقد أثبتت دراسة سلوكية أن البشر (المبرمَجين غريزيًّا للقتال أو الهرب عندما يتعرَّضون لتهديد) يكونون أميل إلى القتال إذا كانوا جائعين، ويفرُّون مما يهدِّدهم في حالة الشبع؛ ولعل ازدياد المشاجرات في شهر رمضان خير دليل على هذه الحقيقة! وهناك دليل آخر على أثر الإشباع المنظم لغريزة الجوع على تلافي أخطار كبتها. هل رأينا من قبل أحدًا اقتحم أحد المولات الكبيرة – رغم التفاوت الطبقي في مصر – وعزم على أن يُقبِّل علبة أيس كريم بالتوت، أو يضاجع سمكة رنجة مدخَّنة مستوردة؟! بالتأكيد لا.
الترويض بالإشباع
لا شك في أن ترويض الفطرة، والتسامي عليها، مِمَّا اهتدى إليه الإنسان في سبيل التحضُّر. وأنجع وسيلةٍ لترويضِ غريزةٍ ما، هي الإشباع. رُوِّض الجوع بالوجبات الثلاث يوميًّا، وروَّضنا نحن المصريين غريزة السيطرة (التي لم نُشبعها بسبب طول عصور القهر والاحتلال) بكلماتِ الإطراء المبالَغ فيها التي يوجِّهها بعضُنا إلى بعضٍ: (يا باشا – يا برنس – يا معلِّم – يا كبير – يا سعادة البيه… إلخ)، وأردنا أن نروِّض غريزة الجنس والرغبة في التكاثر بالزواج، فنجحت التجربة حينًا، قبل أن تتفكَّك في عصرنا الحديث الذي كثرت فيه حالات الطلاق، على النحو الكارثي الذي بيَّنتُ أسبابه في المقال السابق.
في الماضي، كان من أسباب نجاح الزواج، أنه كان مباحًا حقًّا للجميع، بمجرد أن يبلغوا سنَّ النضج الجنسي، فشاع الزواج المبكِّر، الذي جنَّب الناسَ مخاطِر كبت الغريزة الطبيعية. كان حقًّا للجميع، فلم تُمنع القبيحة ولا المَسحاء ولا القصيرة، ولا الدميم ولا الواهن ولا القزم ولا الفقير من الزواج. كان الجنس مباحًا لأيِّ شخصٍ، ولم تقم العوائق التي ملأت عصرَنا، من انتخابٍ طبيعيٍّ مدَّ في حظوظ الجميلات والأغنياء، وانحسارٍ للمقوِّمات القديمة (الاقتصادية والاجتماعية والعقائديَّة والعُرفيَّة) التي ساعدت على إنجاح منظومة الزواج في العصور الماضية!
اقرأ أيضًا: اقتصاديات الزواج في مصر وترشيد النفقات التفاخرية
ولذلك لا بد لنا من إيجاد منظومةٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ، تُروِّض غريزة الجنس والتكاثر، وفي الوقت نفسه تتواءم مع ما وصل إليه البشر من تقدُّم علمي وحضاري؛ فمن الإجحاف أن أطالِبَ بإحياء النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القديمة البائدة لإنجاح هذه المنظومة (كما يرى السلفيون)، ومن الظلم أن نحاول المواءمة بين التقدُّم العلمي والنمط القديم لمنظومة الزواج، لأن أيةَ مواءمةٍ ستفشل بلا ريب، ونحن على هذا شهود.
المدينة الفاضلة وحقيقة الجنس
أتخيل الآنَ مدينةً فاضلةً (لن يكون لها بطبيعة الحال وجودٌ إلا في المستقبل البعيد، أو القريب… من يدري؟!) يسود فيها نِظامٌ اجتماعيٌّ يُنزِّه الزواجَ عن أن يكون مجرَّد سبيلٍ للإشباع الجنسي، ويحوله إلى منظومةٍ، الغرض منها إنتاج الأطفال وتنشئتهم فقط. أما الجنس، فسوف يتم التعامل معه، كما تعامل القدماء مع الطعام والشراب، على أنه سبيلٌ للعنف إنْ أُهمِل إشباعُه، وسبيلٌ للسَّلْم إن أُشبِــع.
وليس هذا تجنيًا على الجنس، بقدر ما هو توصيف دقيق لحقيقته. الجنس سلوك اعتدائي عنيف، مهما بدت القُبلةُ ناعمةً، ومهما أدَّت النواقل العصبية المسؤولة عن اللذة مهمتها على أكمل وجه. الإيلاجُ طعنٌ، والتأوُّهات أَلَمٌ مُمَوَّه، والأورجازم انسحابٌ لذيذٌ للألم، والحيوانات المنوية جراثيم، تتحرَّك على النحو الذي تتحرَّك به دودة البلهارسيا، إلى أن تتصارع على البويضة المستديرة التي تُشبِه المصيدة، (لتُعدِيَها) بالجينات الأنانية التي تطمح إلى الاندماج مع جينات البويضة، لتنمو جرثومة جديدة تُدعى بـ (الزيجوت) وهي في قناة فالوب، وتُدعى بـ (الإنسان) حين تخرج من المهبل (أو من جُرح الولادة القيصرية) كورمٍ مستأصَل، أو كتلة صديد تشكَّلت على هيئةٍ حيوانيةٍ مُدرِكة!
هذه هي طبيعة الجنس (الصادمة). فعل عنيف مدمِّر. لكنَّ تدميرَه يخالف النهج الذي عهده البشر فيما يدمِّرونه بأيديهم من أشياء. تدميرُ منزلٍ يُخلِّف ركامًا. أما التدمير الذي يُحدِثه الجنس، فيشبه التدمير الذي تُحدِثه عناصر الكون. تدمير يُسفِر عن خلقٍ جديدٍ، أو ما يُعرف فسيولوجيًّا بـ (الأيض). كالنجم الذي يفقد طاقته (يُدمَّر) ليتحوَّل إلى ثقبٍ أسودَ ناعمٍ، يؤدِّي وظيفته في الابتلاع على أكمل وجه! كالتفاحة التي تُدمَّر في المعدة والأمعاء لتُستخلَص منها العناصر الغذائية التي تمد خلايا الإنسان بوحدات البناء والطاقة. العنقاء هي أبلغ مثالٍ يوضح فكرة (التدمير الخلَّاق) التي يُعَدُّ الجنس من أوضح الأمور التي تتجلَّى فيها.
الجنس ودمار الحضارة البشرية!
حين ابتعدنا بتحضُّرنا عن الفطرة (المؤذِية)، لم نستطع أن نحلَّ معضلة ارتباط (خلق) البشر (المتحضِّرين)، بالجنس (العنف والاعتداء والجراثيم)! فأصبحت حضارتنا على المحك، وصارت تتضمَّن أسبابَ انهيارها، لأن أساسَ قيامِها شديدُ الهشاشة. نمجِّد العقل، بينما يفقد الآباء والأمهات عقولَهم أثناء دقائق الإيلاج. نحتقر العنف، بينما لا يستطيع الرجل أن ينجب إلا إذا رمى كل موروثه القِيَمي في سلة المهملات، وأقنع نفسه بأن اقتحامَ مجراه البولي المتصلِّب للمجرى الحيضي الزَّلِق لامرأة، والبصقَ داخلَه عن طريق (جهازه الجرثومي) سلوكٌ لا غبار عليه، حتى وإن تأوَّهَتْ، وإن تقلَّبَتْ، وإن ارتهَزَتْ، وإن أرجَفَتْ، وإن لاحت على ملامحِها تكشيرة (الأورجازم) ذات الدلالات المُلتبِسة!
في المدينة الفاضلة، لن يرتبط الجنس بالخلق. قد يشتمل الزواج بالطبع على ممارسة جنسية مشروطة بالإنجاب، أو إشباع الغريزة للتعفُّف، أو على طرق أكثر ابتكارًا للفصل بين (الخلق) و(العنف). أما الجنس، فسوف تكون له اعتبارات أخرى…
ممارسة الأكل وتناول الجنس!
إن كنا استطعنا ترويض غريزة الجوع بالإشباع، فلماذا لا يُروَّض الجنس بنفس الطريقة؟ هذا هو السؤال الذي سيُطرَح في المستقبل تمهيدًا لهذا النظام المثالي.
وأرجو ألا يتوهَّم أحدٌ أن القدماء نجحوا في ترويض الرغبة الجنسية بالزواجِ بواحدةٍ! إن الأصل (الفطرة) في فصيلة الهوموسپيانز هو تعدُّد الشركاء الجنسيين، وهذا واضح في السلوك الجنسي لدى قردة البونوبو (أشبه الرئيسيات بالبشر فيما يتعلَّق بالسلوك الجنسي)، وهو الأمر الذي لم يغفل عنه الإسلام، وأرسى له منظومةً مُحكَمةً تتضمَّن الزواجَ بأكثر من واحدة، والتسرِّي بملك اليمين، بل وزواج المتعة (في بعض الأحيان)، إضافةً إلى إباحة الطلاق للمرأة ممن لا تستطيع مواصلة الحياة معه (بإجراءات سلسة)، وعدم الحطِّ من زواج المطلَّقات والأرامل، بل وتفضيلهن على الأبكار، وفق ما ورد في سورة التحريم: (عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا منكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا).
وإن كنَّا (خالفنا) الفطرة حينًا بالاقتصار على شريكٍ جنسيٍّ واحدٍ لنترقَّى حضاريًّا، فإننا أمعنَّا في (مخالفتها) في هذا العصر بالمنع حتى من الشريك الجنسي الواحد (فما أكثر من يتجاوزون البلوغ بأكثر من 10 سنين دون جماع)، وكذلك الحكم على الثيِّبات من المطلَّقات والأرامل بـ (الإعدام جنسيًّا)! وقد جاءت نتيجة هذه المخالفة الفجة على غير ما قُدِّر لها. فالشريك الواحد كالوجبة الواحدة، لن يترتَّب على الاكتفاءِ به غيرُ دوائرَ متتاليةٍ من الشَّبَقِ الكاملِ والإشباعِ المؤقَّت، لا أهمية لها في ترويض الغريزة الجنسية الصَّاخبة مثل قرقرة المعدة الجائعة! أما المنع من ممارسة الجنس حتى سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين، فهو بمثابة الموت جوعًا! فإذا استطاع الممنوع من الطعام لعشر سنين أن يواصل الحياة (بمعجزةٍ ما!)، فلا تتوقَّع أن ترى أكثر من هيكلٍ عظميٍّ يخوَّف به الأطفال في الأزقَّة المظلمة!
وهذه هي الحال التي آل إليها شباب هذا العصر زائغو الأبصار الذين يتجاوزون الخامسة والعشرين من أعمارهم، دون أن يكتسبوا خبرةً جنسيةً أعمقَ من مضاجعة الأصابع الخمس أمام فيديوهاتٍ لا رائحةَ لها! إن الهيكلَ العظميَّ أشدُّ لطفًا من هذه الهيئة البائسة!
ولذلك سيصبح الجنس في المستقبل مُتاحًا للجميع كما كان قديمًا مثل الطعام والشراب، وقد يُباح مرةً أخرى زواج المتعة الذي نصَّ عليه القرآن، وأباحه الرسول لضروراتٍ في بعض المواقف (التي هي أهون بالتأكيد من كوارث هذا العصر)، وسبقت به الشريعة الإسلامية حتى التنظيمات الاجتماعية الحديثة. ولن يكون الزواجُ (طويل الأمد) في المستقبل إلا بغرضِ تنشئةِ الأطفال فقط، وسوف يكون من الجدية، بحيث تتحوَّل حتَّى آهةُ الغُنج إلى بندٍ في دفتر تسيير أعمال منظومة الزواج!
وإذا احتجَّ أحدٌ على هذا الأمر، وقال إنه مثلما أدَّت الوفرة في الطعام إلى ظهور سلوك الشَّراهة الذي يُدَمِّر صحَّة الشَّرِه، فإن الشيوعية الجنسية (منظَّمةً بشرعٍ كانت أم غيرَ محكومة) سوف تؤدِّي إلى تفجُّر شَبَقِ بعض الناس، وسعيهم الدائم صوب الجنس، والتدرُّج نحو الأوضاع الأعنف في ممارسته؛ فلا جواب على هذا الاحتجاج إلا بالتصريح بأن الشراهةَ مرضٌ، وإدمانَ الجنسِ مرضٌ، وقَصْدَ الإنسان إلى الإفراطِ في أيِّ شيءٍ مرضٌ. والمجتمع المستقبلي الذي ستظهر فيه هذه الثورة الجنسية، سيكون من القوَّة بحيث يهتمُّ بمعالجة مَواطن الخلل في أفراده. ومثلما نقبل اليوم بوجود مصحَّاتٍ لمعالجة مدمني المواد المخدِّرة، فسوف نتقبَّل غدًا وجود مصحَّات مخصَّصة لعلاج مدمِني الطعام والجنس.
وبرغم كل هذا، أظن أن الأسوياء العقلاء قد ترسو في النهاية اختياراتهم على شريك جنسي واحد أو اثنين، أو الاكتفاء بجنس الزواج فحسب كبوابةٍ للتعفُّف. فإن كان الجنس يشبه الطعام في ضرورة إشباعه لتلافي مخاطر ثورة الغرائز غير المشبَعة، فإنه يختلف عن الطعام في التأثيرات النفسية والهرمونية له. لو أكل الرجل يومًا لحمًا ويومًا فولًا ويومًا مكرونة، فلن يتعرض لنفس التغيرات العقلية والعاطفية التي سيمر بها الذي يمارس الجنس مع ناهدٍ يومًا، ومع عجزاء يومًا، ومع فتاة ناعمة الشعر يومًا. الجنس سوف يظل دائمًا له طبيعة خاصَّة، لأن العنفَ فيه أظهر، وتحييدَ العنف فيه أصعب. لا بأس بإشباعه، لكن الإفراط ضارٌّ بالذهن إلى أبعد مدى. يكفينا دليلًا أن الإبداع في حقيقته ممارسة جنسية لم تتم، فتسامى المبدع بعدم الإتمام على الفعل العنيف. القصيدة جِماعٌ لم يتم. الأغنية تأوُّهاتُ غُنجٍ لم تُسمَع. الرواية هزة أورجازم ارتسمت تكشيرتها الغنية بالدلالات على صفحاتٍ محاطةٍ بغلاف أنيق!
وسوف يكون معيار الحكم في المستقبل أولًا وأخيرًا هو النفع الذي سيعود على المجتمع. من لا يجد القوت سيمرض، وليس عليه جناح إن لجأ إلى أي سلوك عنيف ليشبع غريزته. ومن لا يجد الجنس سيُجَن. وأرجو أن يتذكَّر القارئ حوادث اغتصاب الأطفال والفتيات البشعة، لكي يعلم أن منظومتنا الاجتماعية الهشَّة هي المجرم الحقيقي في هذه الحوادث. لو كان الزواج مشروعًا أكثر جدية من مجرَّد متنفَّس جنسي، وكان الجنس أخًا للطعام والشراب، لاختلفت الحال كثيرًا. ليس التحضُّر سهلًا، ويجب أن يُقِرَّ كلُّ شخصٍ بأن الارتقاء عن الطبيعة (الفطرة/الغريزة) يحتاج عقلًا حكيمًا، قادرًا على الجمع بين المتناقضات قبل البحث في مواطن التآلف.
أرى كذلك في المستقبل توسُّعًا في تفاصيل عقد الزواج. سيصبح للزواج شروط مفصَّلة مثل عقود النشر والإيجار وتأسيس الشركات، تتضمَّن كلَّ تفاصيل (مشروع) الزواج، بدايةً من التزامات الزوجين، حتى الأوضاع الحميمة بينهما!
ستصبح لكلِّ رجلٍ وامرأةٍ (كراسة شروط)، وسيحدُّ هذا الإجراءُ – بلا شك – من سلوك (الطلاق) الذي يشكِّل عائقًا دون تنشئة الأطفال على وجهٍ سليمٍ. العقد شريعة المتعاقدين، فلماذا أولينا العقودَ أهميةً كبيرةً في المشاريع التجارية والصناعية، وأهملنا المشروع الأهم والأخطر؛ مشروع إنتاج البشر وتنشئتهم؟!
لو لم يطوِّر البشرُ عقائدَهم ونُظُمَهم الاجتماعيةَ بنفس معدَّل تطوُّرهم العلمي، فسوف يكون المستقبلُ أشدَّ قسوةً، وستزداد تحدياتُنا تشابكًا وتعقيدًا. فمتى نتوقَّف عن عبادة القدماء؟!