السيد هاينريش: اتصال من باريس -فصل وجودي معاصر-

السيد هاينريش.. اتصال من باريس

– لقد سئمت كل شيء.

كان على وشك أن يبصق كلماته في وجه مديره السمج. إنه الثلاثاء، لم يكن صباحاً محموداً. لقد نسي “الشاب” أن يحتسي قهوته، فاتته العربة التي توصله إلى الشركة لأن الزحام كان كثيفاً كضباب ألاسكا حينما استقل التاكسي إلى نقطة الالتقاء التي تحضر لديها العربة، اضطر على إثر ذلك أن يدفع مبلغاً مضاعفاً لإحدى سيارات “Uber” ليصل إلى الشركة. كان الطقس حاراً في منتصف أغسطس الحارق، وقد انتصب السئم والتحفز بوجدان “الشاب”. تفحص هاتفه قليلاً ولم يكترث لأحاديث السائق عن الغلاء أو سعر البنزين المتصاعد أو غباء سائقي الميني باص الذين يعرضون عشرات الأشخاص يومياً للخطر دون اكتراث، ككائنات الزومبي، فقط من أجل الوصول إلى الوجهة بأسرع وقت ممكن لإعادة الكرة من جديد. باتت الطريق طويلة، وراودت نفسه أفكاراً مؤرقة، فهو على يقين أنه لن يتفادى عبارات مديره السامة نظراً لتأخره عن العمل، تذكر حينما كان يافعاً وقد سُئل ماذا يود أن يغدو حينما ينضج، فاعتاد أن يجيب محاضراً بالجامعة، ابتسم بسخرية واعادته تلك الابتسامة من سجن أفكاره لمظهر السماء الخالية من أي سحاب، تنبثق عن رحمها شمسٌ حارقة لا مفر منها، لم يتمكن من كتمان ربطه تلك الاستعارة بحياته، فالهروب من وضعه الحالي بات كالهروب من شمس ظهيرة أحد أيام منتصف اغسطس.

حينما وصل إلى الشركة، هرول لوضع مقتنياته الشخصية بخزانته والتقط سماعته ثم صعد إلى الطابق حيث تصطف الحواسيب، كان “الشاب” موظفاً لخدمة العملاء، وظيفته هي التعامل مع شكاوى وطلبات عملاء أحد أشهر مواقع حجز الرحلات في العالم، وقد كانتا الألمانية والإنجليزية هما تخصصه، يستقبل المكالمات والرسائل بهاتين اللغتين ويحل المعضلات اليومية التي تواجهه من بشر يضعون ثقة غير منطقية بقدرات السوبرهيروز القابعين خلف أجهزة الحاسوب، فعلى الموظف المقيد بجهازه، تهدئة العملاء ومساعدتهم والاطمئنان على أحوالهم ووعدهم أنه سيبذل كل ما بوسعه من أجل تلبية مطلبهم، والأهم هو الاعتذار المتواصل لهم بسبب أو بدون، وتمالك الأعصاب أمام الغضب والسباب والإصرار على البقاء على الخط إلى أن يتم حل المشكلة، حتى وإن كانت المشكلة قد تتطلب أياماً وأحياناً أسابيعاً لحلها. على الموظف أن يتجنب التقييم السلبي من العملاء حتى إن قام بتلبية مطالبهم، فلا ننسى أن من البشر من هم أناركيين، من هم أشرار، من هم ضعفاء يختبئون خلف هواتفهم، من هم مرضى نفسيين، من هم لا يدركون التعامل مع التكنولوجيا بوجه عام، ولكن على موظفينا الكرام أن يتحملوا ثمن أخطاء لم يرتكبوها. مرحباً بعبودية ما بعد الحداثة، إنه لمن المضحك تدهور وجهة مخاوف الإنسان، فقديماً كان الإنسان يقلق ويهاب الوحوش، أما حديثاً فالرعب يتجسد في تقييم سلبي من أحد المتصلين.

تلقى “الشاب” جرعة زائدة من مديره اليوم. لقد أخبره “المدير” أن المكالمات التي يستقبلها أقل مما يجب أن تكون، فأجاب “الشاب” بعصبية أنه يعمل لمساعدة العملاء وأن المكالمات والشكاوى اللي يستقبلها تتطلب وقتاً ليس بالقصير حتى يتم حلها. مرر له “المدير” عبارة ساخرة مفادها أن ضميره حي أزيد من اللازم، حدق به “الشاب” محتقراً إياه، تجرع كلماته السامة وألقى بجسده على الكرسي المتحرك ودفع نفسه بحركة طفولية ليقترب حاسوبه قبل أن يخبره “المدير” أنه إن لم يستطع تعديل أرقامه بنهاية الأسبوع فإن الامر لن يكون حميداً، ملمحاً إلى أن ميعاد تجديد العقد قد اقترب وأنه على الأمور أن تتحسن بأي شكل. تنهد ونظر إلى الزجاج الشفاف المهيب إلى جانب حاسوبه وتأمل مسير السيارات على الطريق البعيد الذي بالكاد يمكن إبصاره، لا طالما عبث ذلك المشهد بروحه، ومرر إليه حقيقة أن العالم يسير مهما حدث، وأنه إن توقفت سيارة فلن تتوقف باقي السيارات وسيظل الطريق متكظاً، ولن يتذكر أحدهم السيارات المتوقفة، بل والأكثر مدعاة للضحك أن في ذلك الوقت، لم يعد أحد يكترث حتى بالسيارات المتحركة.

إعلان

علينا إبقاء تلك الوظيفة، همهم مهموماً. بدأ بتلقي المكالمات، على غير المتوقع بات تعامله مع العملاء في ذلك اليوم متميزاً، بيد أن التميز لم يكن في حل المشاكل أو تلبية المطالب، بل بإرسال الوعود الكاذبة والتخلص من المكالمات في أسرع وقت، هكذا يكون الأمر. نحن الخط الأمامي والمَضحى به في وجه العواصف، هكذا هي وظيفتنا. فهؤلاء الألمان لديهم من الثقة والكرامة ما يجعل في ثقافتهم الكلمة عهدُ لا حاجة لميثاق قانوني عليه، على الأقل للوهلة الأولى، أما من تلقى مكالمة بعد وعد غير ملبى، فله الله وملائكته. غمرت السعادة “الشاب” فقد شعر لوهلة أنه قد تمكن من وظيفته، إن الأمر سهل إذاً. عند لحظة محددة ستفقد الشعور بالتواصل البشري مع المتصل أو المتصلة، فستغدو الأصوات جميعها ذكورية كانت أم أنثوية، صوتان وحيدان، أحدهما يغمرك بالطمأنينة ويوقظ بداخلك الرغبة في المساعدة والأخر سيربكك وسيهددك ضمنياً باقتلاعك من موضعك فقط بالضغط على زر واحد: غير راضي عن الخدمة. ولتلك الأصوات أثراً بالغاً على دقات قلبك وسريان الدم بجسدك, وما بين صوت وأخر, تجربة وأخرى, خوف جارف ثم هدوء مربك, يليه انتظار للحظة الأخيرة بيوم العمل, وفي تلك اللحظة ينبثقا شعوران لقتال بعضهما بجوارح نفسك, الراحة من الصفد, والضيق من حتمية ارتداءه في الغد.

إنها الساعة العاشرة مساءاً، تبقت ساعة واحدة على انتهاء الدوام، تلقى “الشاب” مكالمة، لكنها لم تكن مكالمة عادية:

– مساء الخير، معك “فلان” من موقع “كذا” لحجز الرحلات، كيف بإمكانني مساعدتك؟

ألقى “الشاب” كلماته بألمانية محترفة ونبرة سعيدة يملؤها التفاؤل، ظناً بأن اليوم سينتهي نهاية سعيدة تعوض بدايته القميئة:

– مرحباً، عزيزي، أنا السيد “هاينريش”، إنني بحاجة لمساعدتك.

جاء صوت عجوز ألماني متهدج لا يحمل في طياته أي علامة من علامات الغضب:

– على الرحب والسعة يا سيد هاينريش، فلتخبرني ما الأمر إذاً؟

– لقد قمت بحجز غرفة لي أنا وحفيدي بباريس لأن الفتى سيحضر حفلاً موسيقياً. فغداً يوم ميلاده وقد ابتاعت له التذاكر وحجزت له الغرفة.

كان الصوت مرهقاً، وحوله تتصاعد أصوات السيارات والعربات في الشارع:

– عيد ميلاد سعيد لحفيدك يا سيد هاينريش، أخبرني إذاً ما المشكلة؟

– لقد أخبرني الفندق أنهم لن يستطيعوا أن يقبلوا إقامتي بسبب خطأ تقني جعل حجزان لنفس الغرفة يُقبلان، وقد كان حجزي هو الحجز الأخير ليس الأول. أنا وحفيدي بالشارع وقد سافرنا من دوسيلدورف إلى باريس بالقطار ونحن متعبان.

شئ ما كان مليئاً بالحزن في صوت السيد هاينريش. ذكر صوته “الشاب” بصوت جده وقد انتباته مشاعر بالحنين. تفحص “الشاب” حجز السيد هاينريش ووجد أن اليوم هو يوم الوصول وأن ذلك الحجز قد قُبِل منذ شهر مارس المنصرم، وعلى إثره فإن سعر الحجز بالفنادق في تلك الليلة الصيفية سيكون مضاعفاً.

– نحن آسفون للغاية يا سيد هاينريش على ذلك الموقف الصعب، دعني أساعدك، سأتواصل مع الفندق من أجلك لنتبين ما يمكننا فعله لمساعدتك وسأعود إليك بعد عشر دقائق.

– أيها الشاب، هل تعدني أن تعود إلي؟ أنا لا أملك نقوداً كثيرة وتلك المكالمة الدولية تكلفني الكثير. لا تتجاهلني رجاءاً أريد لحفيدي أن يستريح.

انقبض قلب “الشاب” وشعر بالحزن البالغ، فقد تبين الضعف في صوت العجوز:

– أعدك يا سيد هاينريش أنني سأعود إليك.

بعدما أغلق “الشاب” المكالمة، تذكر أنه بحاجة إلى 3 مكالمات أخرى كي يكتمل عدد المكالمات اليومية التي من المفترض أن يستقبلها. كان بإمكانه أن يتحايل على العجوز، فبدلاً من أن يتصل بالفندق بإمكانه إرسال بريداً إلكترونياً، وبدلاً من مهاتفة العجوز مجدداً، كان بإمكانه إرسال رسالة نصية. إن عدد المكالمات إن لم يكتمل اليوم، فستكون مشكلة. سيفقد “الشاب” وظيفته. فميعاد تجديد العقد سيكون يوم السبت، ولديه الأربعاء والخميس إجازة, والجمعة لا يستقبل الموظفون مكالمات كثيرة، إن اليوم هو فرصته الأخيرة لإقناع مديره بالبقاء، فحتى وإن قرر العمل في أيام العطلة، فإنه لم يكن هناك طلباً على أوقات عمل إضافية بذلك الأسبوع، بيد أنه تذكر صوت العجوز. لم يفكر كثيرا وهاتف الفندق:

– مرحباً هنا “لويس” من مكتب استقبال فندق “كذا” ، كيف بإمكانني مساعدتك؟

جاءه صوت فرنسي حاد ينطق ال”ر” كال”غ”:

– مرحباً يا مسيو, هنا “فلان” من موقع “كذا”، إنني اهاتفك من أجل حجز خاص هنا.

رد “الشاب” بالإنجليزية:

– مسيو، لا يمكنني أن أفهمك، هل تتحدث الفرنسية؟

رد لويس بفرنسية سريعة، فأخبره “الشاب” أنه لا يفهم الفرنسية بإنجليزية بطيئة.

– السيد هاينريش.. أنا .. أتحدث.. بخصوص السيد هاينريش.

نطق “الشاب كلمته الإنجليزية ببطء شديد:

– نعم، نعم بالطبع هاينريش، لا يمكننا أن نستضيفه فهناك حجز مزدوج.

رد لويس بالفرنسية مرة أخرى، فانتاب “الشاب” اليأس وحاول أن يتحدث بالإنجليزية مرة أخرى:

– أرجوك حاول أن تفهمني، إن الرجل وحفيده بالشارع، يجب أن نساعدهم.

– يمكننا .. آه.. يمكننا أن .. نلغي الحجز، بدون نقود.

تمتم لويس بإنجليزية رديئة:

– أتعني أنكوا ستتخلون عن قيمة إلغاء الحجز؟

سأل “الشاب” بتلهف:

– ماذا تعني؟

سأل لويس، فتنهد “الشاب” واستطرد:

– سيدي.. هل.. يعني .. ذلك.. أننا.. سنلغي الحجز.. ونعيد ثمن الحجز للسيد هاينريش؟

– آه.. نعم نعم.. لن .. أااه.. لن نأخد نقوداً. أعطي النقود للسيد هاينريش.

تنفس “الشاب” الصعداء.

– أشكرك يا سيد لويس

– على الرحب والسعة مع السلامة.

قال لويس بفرنسية سريعة مجدداً ثم أغلق الخط.

إنها الساعة العاشرة والربع، بإمكانني إبلاغ السيد هاينريش بذلك الخبر العظيم وإيجاد فندق بديل له، وسيكون كل شئ على ما يرام. لا يزال لدي متسع من الوقت لاستقبال بضع مكالمات أخرى. تمتم “الشاب” في حماس وقام بطلب السيد هاينريش مجدداً.

– سيد هاينريش، هنا “فلان” من موقع “كذا” لحجز الرحلات. هل تذكرني؟

– مرحى، أيها الفتى.. أشكرك على معاودة الاتصال، اعتذر على تأخرى أن أجيب على الهاتف، فقد كنت ابتاع بعض المثلجات لمارك حفيدي. هل سيستضيفنا الفندق؟

تحدث العجوز بذات الصوت المتهدج بيد أنه كان مليئاً بالأمل تلك المرة:

– المعذرة يا سيد هاينريش، لقد تواصلت مع الفندق من أجلك ولكنهم لا يمكنهم للأسف ان يستضيفوك، لكن لدي أخبار جيدة من أجلك. سوف نلغى الحجز من على نظامنا مجاناً وستعود إليك نقودك وسأرسل لك حالاً فندقاً آخرَ يمكنك أن تحجزه بدلاً من الآخر.

– مرحى، هذا رائع يا فتى! أشكرك. هل ستعود نقودي الأن إذا؟

كان صوت العجوز هاينريش مغموراً بالسعادة وقد حادث حفيده بعدما سأل هذا السؤال قائلاً: يا مارك سوف نذهب للفندق الأن لا تخف. نظر “الشاب” إلى معلومات الدفع الخاصة بذلك الحجز على الحاسوب، واصابته غصة بقلبه، فقد علم أن وقع الخبر القادم لن يغدو مريحاً أبداً.

– سيد هاينريش أرجو المعذرة، لكن للأسف فإن المبلغ قد تم تحويله إلينا عن طريق تحويل بنكي، لهذا السبب فإن استرداد المبلغ يستغرق من 7 إلى 12 يوماً.

كان الأمر كإلقاء قنبلة على ثكنة الأعداء ثم الهرولة للاختباء بعيداً. تهدج صوت العجوز هاينريش من جديد، وتمتم كلمات غير مفهومة ثم قال لحفيده: «مارك هلا تحمل ذلك الأيس كريم من أجلي؟».

– أيها الشاب، هل تخبرني أنني لن استرد نقودي الليلة! كيف سأحجز الفندق الأخر؟ هل ستحجزونه لي؟

كان تساؤله طفولياً مثيراً للحزن، حيث انتابت “الشاب” قشعريرة سارت في جسده كاملاً وصمت قليلاً متهتهاً.

– أيها الشاب جاوبني أرجوك.. إن مالي لديكم، هل أخبرك شيئاً لا أريد المال هل يمكنكم استخدامه وحجز غرفة أخرى ليه في أي مكان في باريس لتلك الليلة؟

– أود ذلك يا سيد هاينريش لكن ليس بالإمكان فعل ذلك. فقد قمنا بإلغاء الحجز وهذا يعني أن عملية استرداد النقود قد بدأت بالفعل ولكنها للأسف تستغرق من 7 إلى 12 يوماً وفي كثير من الأحيان أقل من ذلك.

– يا بني، ليس لدي نقود كافية لحجز غرفة أخرى، وأنا حفيدي متعبين وبحاجة للنوم. إن ضهري يؤلمني وأنا لا أستطيع تحدث الفرنسية، لقد جئت هنا من أجل الحفل، إن نقودي تكفي أن أعود إلى دوسيلدورف غداً. لقد دفعت 500 يورو من أجل تلك الغرفة.

– أنا اعتذر بشدة يا سيد هاينريش، أريد حقاً مساعدتك بكل الطرق ولكن هكذا هو النظام.

نطق “الشاب” كلماته بينما يحاول كتمان دموعه من التحرر، لقد أدرك لتوه أن ذلك العجوز وحفيده سيواجهون ليلة عصيبة، بل وقد ينامون بالشارع، فقط لأن العالم بات محكوماً بالأنظمة التي من المفترض أن تساعد البشر، بيد أن البشر غدوا هم الأنظمة التي تحكمها الأنظمة. وفكر “الشاب” أن ذلك الرجل ان كان قد فضل الدفع مقدماً على أن يدفع بتحويل بنكي، لما حدثت كل تلك المعضلة. وأبحرت أفكاره في عصف عنيف عن ماهية الصدفة والقدر، مالذي يحاول القدر تقديمه للسيد هاينريش الذي أراد أن يحتفل بعيد ميلاد حفيده؟ أهي حكمة متأخرة؟ لقد قام السيد هاينريش بكل شئ على أكمل وجه ولم يكن للخطأ أن يمسه، فلماذا اختاره القدر وفي تلك الليلة ليعكر صفو حياته التي لا تبدو أنها جميلة.

نظر الشاب إلى الساعة، إنها العاشرة والنصف. لقد اقترب الدوام على الانتهاء. عصفت الخواطر برأسه، السيد هاينريش الذي يواجه عقاباً مريباً من القدر على لا شئ، ووظيفته التي سيفقدها فقط لأنه يأخد الوقت الكافي ليساعد أمثال السيد هاينريش.

– بني، سأبيت في الشارع أنا وحفيدي.

ألقى السيد هاينريش جملته الأخيرة، عندها لم يتمالك “الشاب” نفسه فرفع السماعة بعيداً قليلاً وانهمرت دموعه الواحدة تلو الأخريات، لقد أصبح محاصراً في زاوية وجودية عاهرة واستكشف أحد أسوأ المشاعر وأشدها وطأة: العجز. عجز السيد هاينريش الغريب في وطن غير الوطن من أجل سعادة حفيده وعجز”الشاب” عن القيام بأي مساعدة للسيد هاينريش.

– أيها الشاب، لا عليك. أنا أعلم أنه ليس بوسعك شئ. اعذرني. سأتدبر الأمر أنا وحفيدي.

– انتظر يا سيد هاينريش…

تفحص “الشاب” سريعاً أحد الفنادق وقام بحساب سعر الليلة من اليورو إلى الجنيه المصري، كان سعر الليلة 600 يورو ما يقابل 30000 جنيه مصري بالتقريب. لم يمتلك ذلك المبلغ في ذلك الوقت من الشهر، تنهد وصدم يده بمكتبه فنظر إليه الجميع في حيرة.

– أيها الشاب.. لا عليك. لقد اعتدت تلك المواقف من الحياة. إن كنت قلقاً بشأن التقييم فلن أعطيك تقييماً سلبياً. لقد ساعدتني بما يكفي.

– أوتعلم يا سيد هاينريش، إن ذلك العالم قمئ. لقد بتنا نعيش في عالم خالي من أي معنى.

– حينما كنت صغيراً، لا طالما أخبرت أبي أنني أود أن أرى شروق الشمس بباريس أسفل برج إيفل. ربما حان الوقت لذلك. كنت أتمنى لو كانت زوجتي معي، هل انت متزوج أيها الشاب؟

– إنني مقدم على الزواج، أظن أن ذلك يوضح لماذا أعمل بتلك الوظيفة الخالية من أي معنى. إنه يومي الأخير على أي حال.

– لا تحزن، إن السباحة جميلة، لكن الطفو فوق المياه في بعض الأوقات يكون أجمل ما يمكن للمرء أن يدرك. حاول أن تطفو قليلاً.

– أريد أن أدفع لك ثمن البقاء في إحدى الغرفة، لكنني أقسم لك أنني لا أملك من المال ما يكفي، إن عملتك تساوي 20 من عملتي.

– أنا أقدر صنيعك أيها الشاب، أنت رجل نبيل. لكن حان الوقت أن يستكشف مارك بعض الصعوبات، ربما هدية مارك الحقيقية هي أن يبيت بشوارع باريس،.على مارك أن يدرك ما نعلمه أنا وانت في تلك اللحظة. اشكرك على تلك المحادثة واعتذر على إهدار وقتك.

أغلق السيد هاينريش الخط. إنها الساعة الحادية عشر إلا عشر دقائق، ترك السيد هاينريش ذلك “الشاب” غارقاً في حالة من الضياع، حتى أنه أعاد تفحص الحجز والمعلومات مرة أخرى ليتيقن أن تلك المكالمة كانت حقيقية وأنه لم يكن يهذي. انهمرت دموع صامتة على وجنتي “الشاب” انتزع السماعة وحدق مرة أخرى بالسيارات على الطريق من ذلك الزجاج الشفاف. فكر قليلاً عن السبب الذي وضع السيد هاينريش في طريقه، كان بإمكان تجاهله، والمسير لتلقى مزيداً من المكالمات، لكن السيد هاينريش ذكره بأن لضميره عمراً طويلاً لم تلويه الرأسمالية أسفل قبضتها الدامية. نظر إلى خاتم خطوبته وانتابه القلق من جديد، لكنه أدرك حقيقة واضحة، هي نفس الحقيقة التي أدركها السيد هاينريش قبل إغلاق الخط، أحياناً علينا أن نطفو، وأحياناً أخرى لا نملك أي خيارٍ سوى الطفو. لقد حرره السيد هاينريش من سجن نفسه، انفلتت عن ثغره ابتسامة وغمرت قلبه حاجة للاستسلام، ليس ضعفاً بل إيماناً.

إنها الساعة الحادية عشر.

انتهى الدوام.


ملاحظة الكاتب: هذه القصة هي إحدى القصص الموجودة في مجموعة قصصية تحمل عنوان: وجوديات مرحة، لـ حازم عماد

إعلان

اترك تعليقا