التخلُّف الاجتماعي (مدخل إلى سيكولوجيَّة الإنسان المقهور)
كانت مطالعتي لكتاب”التخلُّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجيَّة الإنسان المقهور” هى الأولى لهذا النوع من الكُتُبِ التي تَدرِس شخصية إنسان المجتمعات المتخلِّفة وخصوصيَّة كيانه، وكانت كل معرفتي بمجتمعاتنا أقرب إلى السَّطحيَّة منها إلى النفاذِ بحقٍ داخل الشخصيَّة المتخلِّفة، لا أُنْكِر أنني كنت أحمل النَّظْرة السلبيَّة تجاه مجتمعاتنا وقدرتنا على التغيير، بل إني كنت أرى أننا لن نكون سوى تابعين، وبهذه النَّظْرة وبهذه العقليَّة اصطدمت بالكتابِ الذي واجهنى بالنقدِ المباشر في كل ما أحمله تجاه مجتمعاتنا، وما أعجبني فيه هو توصيفه للبِنْيَة العقليَّة المتخلِّفة وسبب تكوّنها، ما جعلني أسيرة الكتاب وتحليله للظواهر. باختصارٍ، إن الغرض الأساسي من الكتاب هو توضيح أن التخلُّف الاجتماعي ليس سوى إنعكاس لسيكولوجيَّة إنسان مقهور سُلِبَت منه حُريَّة الإرادة من قِبَل دُمى وحلفاء العالَم الأوَّل الرأسماليّ.
إنها جماهير مُنْحَطَّة لا تستطيع أن تحكم نفسها أو تَسْتَغِلّ إمكاناتها وثَرَواتها؛ ولذلك فلا بُدّ لها من حاكمٍ متسلِّطٍ، ولا بُدّ لها من مُستغِلٍ حليف.
سبب قراءة الكتاب: هذه الفجوة الكبيرة بين ما يحكم إنسان مجتمعاتنا وما يحكم إنسان المجتمعات الأخرى، وبالتالي القصور المنهجي الكبير في تحليلات الظواهر التي تأتي بأقلامٍ أخرى غير عربية والتي تحمل في أحيانٍ كثيرة نَظَرات عُنصُريَّة مُبطَنة.
يأتي الكتاب على جزئينٍ، يتحدَّث مصطفى حجازي -المفكِّر وأستاذ علم النفس البنائي اللبناني- في الجزءِ الأول عن الملامح النفسيَّة للوجود المتخلِّف، وفي الجزءِ الثاني عن الأساليب الدفاعيَّة التي يتخذها إنسان هذه المجتمعات موضِّحًا العَلاقة الجدَليَّة في هذه البُنى.
الجزء الأول: الملامح النفسيَّة للوجودِ المتخلِّف
يتناول الكتاب في أوَّلهِ كثير من الرؤى السَّطحيَّة مُفنِّدًا قصورها في تفسير العديد من الظواهر داخل مجتمعاتنا، وتَصُبّ معظم هذه الرؤى في إبراز عجز هذه المجتمعات بشكلٍ يُشكِّل جزءًا ثابتًا من وجودها قائم في عرقها؛ لتُبرِّر بدورها انتهاك هذه الشعوب وأراضيها، وهكذا تعمل “آليَّة القهر العالميَّة”، وأبرز مثال على هذا “النَّظْرة الإمبرياليَّة الصهيونيَّة للعرب” باعتبارهم شعوبًا قاصرة بالفطرة ولا حيلة لهم؛ لتُبرِّر بذلك كل ما تفعله من تجاوزاتٍ.
ومن أبرز مظاهر العجز التي تَمَّ تناولها هو العجز الاقتصادي، والذي لا يمكن تفسيره بمعزلٍ عن استغلال واستنزاف طاقات العالَم الثالث من قِبَل المجتمعات الرأسماليَّة العالميَّة، فيقتصر الاقتصاد في هذه المجتمعات على صناعة المواد الأوَّليَّة (للتصدير بأسعارٍ زهيدة) وإنتاج مواد استهلاكيَّة لا يُعوَّل عليها في الدخل القومي للبلاد.
إن التخلُّف من الناحيةِ الاقتصاديَّة هو جزء من آلة النظام الرأسماليّ العالميّ. إنه يلعب دورًا محدَّدًا ووظيفة معينة في هذا النظام، وكأن هناك توزيعًا دوليًّا للعمل لمصلحة الرأسماليَّة العالميَّة. هذه المصلحة هي التي سبَّبت بروز البُلدان الناميَّة وحافظت عليها لتخدم أغراض التراكُم الرأسماليّ. نظريَّة التخلُّف والتنميَّة لا يمكن إلا أن تكون نظريَّة تراكُم رأسمال على مقياسٍ عالميٍّ. التخلُّف هو إذًا ثمرة الاستغلال والاستعباد، ولا بُدّ للتنميَّةِ أن تتموضع في منظور تحرُّر اقتصاديّ وطنيّ.
في فصلٍ آخر من الكتاب: يريد مصطفى حجازي الغوص إلى الجانب النفسيّ والوجدانيّ لشخصيةِ الإنسانِ المقهور، فيُظهِر الاستسلام التام كجزءٍ أساسيٍّ من شخصيته، فكل ما يحدث له هو جزء من طبيعة وصيرورة الحياة ولا سبيل له لمُجابهة مصيره أو تغييره، بل إنه مُستَحِقٌ لكل ما يحدث له، بل واعتبار التدخُّل في هذا تمرُّد على الطبيعة وقوانينها، مائلين بذلك إلى أنسنة الطبيعة في صورة الأم المُحِبَّة أو النابذة القاسية، والتي لا حيلة للطفل في مقاومة رغبات الأم ليُنزهوا المُتسلِّط عن التساؤلِ والنقد، “فكل حق هو حقه ولا حق سوى حقه”، وعلى الجانب النفسيّ أيضًا تظهر العُقَد النفسيَّة، ومن أبرزها عُقَد النقص والعار، ويحاول أن يُجابه عوارة النفسية و إحساسها بالنقص، واضطراب ديمومته في الجزءِ الثاني من الكتاب كأساليبٍ دفاعيَّة نفسيَّة.
وعن التحدُّثِ عن العقليَّةِ المتخلِّفة تشكِّل العشوائيَّة الملمح الأساسي لوجودهِ، وقصورٍ فجٍّ في التفكير الجدليّ واضطرابات منهجيَّة التفكير بشكلٍ عام لتبرُز سمات الشخصيَّة المتخلِّفة في:
- عدم التخطيط والاهتمام بما هو آنٍ وذي طابع سحري (وهذا من أحد أهم الأسباب في فشل ثَّورات الربيع العربيّ على المستوى السياسيّ).
- ما يُنتَج ليس سوى تداعي أفكار ناتج في وضعيَّة الكَبْت والتلقين.
- عجز في استعراض جوانب الظاهرة والعمل بمبدأ “إما، أو”، والذي يقف عاجزًا عن إبراز تركيب الظاهرة والعَلاقة الجدليَّة والعلائقيَّة بين المُسبِّبات والنتائج، وقصور العمل بمبدأ التناقض وتكامل الأضداد في حالةٍ من انعدام المرونة الذهنيَّة وآليَّات التفكير النقدي.
ومن أبرز أسباب هذه الظواهر هو التلقين والكَبْت من قِبَل الآباء والمعلمين، والذي يبدأ مع الطفلِ مستمرًا معه في كبره في حالةٍ من فقدان النقد والحوار المُتبادَل مع آباءٍ ومعلمين عاجزين عن الوصول لهذه القلوب والعقول اليانعة إلا من خلال القمع، مما يعمل على كبت الإمكانات في محاولة “إخصاءٍ عقليٍّ”.
“الحياة اللا واعيَّة”: يُبرز مصطفى حجازي أهمية الإبحار في البُعد اللا واعٍ للإنسان المقهور، فهذا هو السبيل لتفسير ما يعتلي نفوسنا وتصرفاتنا مع أنفسنا والآخرين. “إن أكبر حليف للمرض الاجتماعي، هو المرض النفسي في بُعده اللا واعٍ”، تبرز الظاهرة السادومازوشية في الجو العام للمجتمعات المتخلِّفة التي يسودها القهر على كافة المستويات والعَلاقات.
الجزء الثاني: الأساليب الدفاعيَّة للإنسان المتخلِّف -المقهور-
يأتي الجزء الثاني من الكتاب للإجابة عن سؤال: (لماذا يُعزِّز الإنسان من سُبُل اضطهاده؟) فليس من باب المبالغة أن نقول بإن هذا الإنسان الذي عانى من مآسِ الكَبْت والاضطهاد يُصبح هو الداعم الأكبر لسُبُل اضطهاده في المراحل المتأخِّرة، لجعل الوجود محتملًا والتخفيف من وطأته، ولا يمكن تفسير سلوكه وأساليب دفاعة النفسيَّة بمعزلٍ عن كينونة الإنسان المقهور.
- الانكفاء على الذات: يدير الإنسان ظهره للعالم ويُبخث من وجوده فيه، وهناك من يجعل الاستسلام والتهاون ملمحًا أصيلًا من ملامح الإيمان، وهكذا يمكن أن يتحوَّل الدين إلى سلاحٍ ضد المغبونين.
- التباهي بالمُتسلِّط: وهذه من أكبر مساوئ الدفاع النفسيََّة الذي يتخذها الإنسان المقهور-من وجهة نظري- فبعض من يشعر بجزءٍ بسيطٍ من الامتياز على جماعته داخل هذا النظام يتنكَّر لها، بل يمكن أن يتحوَّل هذا الآخر لدرجةٍ جديدةٍ في سُّلِّمِ البَطْش وأداة في وجه من هم أضعف منه، فيشِنّ المُتسلِّط حربًا نفسيَّة على المغبونين ويزيد من قيَّمهِ الخاصة، ويذكر مصطفى حجازي في هذا الشأن مِثال الطفل المثالي في أذهاننا، نتخيَّله (طفلًا برجوازيًّا يحمل مناهجًا غربيَّة بلغاتٍ أجنبيَّة)
فإنسان العالم المتخلِّف، الذي عانى من استباحة مُزمِنَة لحقوقهِ وكيانهِ، لا يجد أمامه من نموذج في مِثل تلك الظروف، إلا الإقدام على استباحة حقوق الآخرين بقدر ما يستطيع.
- يشعر الإنسان بالغربة الشديدة لمجتمعه حاملًا معه عُقَده الخاصة، فيُظهِر في أحيانٍ كثيرة الكسل والتهاون وتخريب الممتلكات الخاصة.
- الذوبان في الجماعة وغياب الفردانيَّة، ويُصبح الإنسان مِلكًا للجماعة، وكل ما هو خاص به مشاع لها.
- الأغاني الشعبيَّة: “إن هذه السوداويَّة الشائعة في أغاني الجماهير المقهورة، لا تُعبِّر عن الحرمان الجنسي الفعلي فقط، بل هي وسيلة للتعبير عن الحرمان الوجودي. قسوة الحبيب وتجاهله ليسا سوى الرمز لقسوة الحياة ووطأتها، وهذه بدورها تعود فتتصل بموضوع الحب من خلال إثارة الهجر الطفلي”.
يتناول مصطفى حجازي في آخر الكتاب وَضْعِيَّة المرأة داخل هذه المجتمعات في محاولةٍ منهِ لإسقاط وصفه المَبدَئيّ على مِثالٍ عمليٍّ كامل، المرأة هنا هي الحلقة الأضعف والرجل هو من يُمارِس عليها التسلُّط بأشكالهِ المباشرة وغير المباشرة، يتناول الوَضْعِيَّة بمراحلها المختلفة والأساليب الدِفاعيَّة النفسيَّة التي تمارسها المرأة أيضًا، ولا بُدّ هنا في البداية من ذكر التناقض في رؤيَّة هذه المجتمعات للمرأة:
تتجمَّع في شخصيةِ المرأة، أو بالأحرى في النَّظْرَة إليها، أقصى حالات التجاذُب الوجدانيّ، فهي أكثر العناصر الاجتماعيَّة تعرُّضًا للتبخيسِ في قيمتها على جميع الأصعدة: الجنس، الجسد، الفكر، الإنتاج، المكانة. يقابل هذا التبخيس مثلنة مفرطة نَدَرَ أن وجدنا لها نظيرًا عند الرجل، هذه المثاليَّة تبدو في إعلاء شأن الأمومة، في إغداق الصفات الإيجابيَّة عليها (الطيبة، المحبة، ينبوع الحنان، رمز التضحية.. إلخ) كما تبدو فيما تُرفع إليه المرأة المشتهاة جنسيًّا من مكانةٍ أسطوريَّة عند الرجل المحروم.
وكلما زاد الاضطهاد على الرجل بالخارج زاد بَطْشه تجاه المرأة في حياته، فيتنكَّر لعارهِ بإسقاطه عليها، فإذا أردنا وضع كائنًا ما في وَضْعِيَّة المهانة لا بُدّ من أن يقع الاختيار على المرأة أو تشبيه ما دونها بها، يتخذ الرجل من هذه الوَضْعِيَّة مبررًا كي يستغلَّها كأي مستغلٍ: “… هو دومًا أسلوب المُتسلِّط لتبرير استغلاله للإنسان المقهور، يطمس إمكاناته ويبخسها، كي يتخذ منه سلاحًا لزيادة استغلاله”.
تأتي المرأة بدورها لتتخذ أساليب دفاعيَّة نفسيَّة للتخفيف من وطأة هذا الوضع منها:
التضخُّم النرجسيّ للمرأة الجميلة، فتجد في جذب الرجل لها والامتناع عنه لُعْبَة مُسليَّة لتتحكَّم فيه، فتظهر مصطلحات مثل المرأة اللَّعُوب أو الماكرة، ويظهر التضخُّم النرجسيّ أيضًا إن كانت السيدة تنجب العديد من الأولاد الذكور، متباهية بذلك عَلانيةً أو ضمنيًا على سيدةٍ أخرى بخصوبتها الإنجابيَّة للذكور، متنكِّرة لعُقدة النقص والعار الموضوعة فيها.
الاستلاب العقائدي [أن تقتنع بأنها حقًا في الدرجة الدَّنيَّة، وبذلك فهي مُستحقة لما يحدث لها كجزءٍ من قوانين الطبيعة]؛ لتبرير استسلامها وتخاذلها أحيانًا، ولمواجهة عُقدة العار (فقط لكونها أنثى) في أحيانٍ أخرى.
التعامل الماديّ مع الرجل وابتزازه ومُعايرته بالعجز إذا لم يستجب لطلباتها.
الاحتفاء بالألقاب مثل: أعظم أم، أفضل زوجة، عيد الأم،… [نحن نساء المجتمعات العربيَّة لا نأخذ أي حقوق سوى ألقاب فارغة فقط تُمنَح للنساءِ التي يرضى عنها المجتمع، أو بمعنىٍ آخر من قبلت بأن تصبح مسخًا لرضا المجتمع والذوبان في مقاييسه].
حمل مصطلح الشَّرَف ولَيِّه، لتُقنِع نفسها بأفضليتها، وأنها هي هذا الكائن العظيم الذي يحمل شَّرَف القبيلة أو العائلة.
الهجوم على نساءٍ أخريات اخترن نمط حياة مغايرًا لها، في محاولة تنكُّر وإسقاط شعورها بالعار نفسيًّا على غيرها.
التماهي بالمُتسلِّط -ويكون هنا الرجل- : الاحتفاء بقيَّمهِ، الاعتراف بحقوقه، (ولا حق ولا شعور ولا رغبات سوى ما يخصه).
إن القوانين التي تُفرَض على المرأة، العِفَّة وغيرها من القيَّم التي تقمع جسدها، نجد لها مطابقًا في القوانين التي يفرضها المتسلِّطون على المقهورين (الأغنياء على الفقراء وأصحاب رؤوس الأموال على العمال)، من خلال غرس قيَّم الطاعة، والزُّهْد في الحياة والقناعة بضآلةِ الأجور، والوفاء لأولياء النعمة، وبَذْل الحياة في الدفاع عنهم بينما يستمتعون هم بقيم الجشع والنهب والربح المتزايد، والإفراط في كل المتع التي حرَّموها على الطبقاتِ الكادحة.
–د.نوال السعداوي
ينطلقُ الكتاب من منهج علماوي في المقام الأول، لا أنكر أنني اتفقت معه بشكلٍ كبير في الوصف المبدئي، ولكن اختلفت في بعض الإسقاطات -على الأقل في هذه الفترة من حياتي- كما أنني عانيت في أجزاءٍ كثيرة من الكتاب مع بعض من مظاهر التكرار، ولكنها لن تكون الأخيرة مع كتابات مصطفى حجازي.
وفي النهاية وَجَب القول بإن التخلُّف ظاهرة كليَّة ومركَّبة؛ لذلك لا بُدّ لعلاجها أن يكون شموليًّا لا يقف عن مجرَّد العوارض.
لا يمكن أن يصل إنسان العالم المتخلِّف إلى التوازن النفسي وإلى الشخصية المُعافاة والمتوازية والغنية، إلا إذا تحرَّر من وَضْعِيَّة القهر التي تُفرَض عليه. لا يمكن للرجل أن يتحرَّر إلا بتحرُّرِ المرأة، ولا يمكن للمجتمعِ أن يرتقي إلا بتحرُّرِ وارتقاء أكثر فئاته غُبْنًا، فالارتقاء إما أن يكون جماعيًّا عامًا، أو هو مجرَّد مظاهر وأوهام.