استهلالٌ في الهُوِيّة والفن والجمال
الجمال هو ذلك الشيء المنفلت، المكتنز فينا والوجود. وليس من الإمكان تبين كنهه الحقيقي بجلاء، غير أننا نختبره فينا وفي أذهاننا دفقًا وجدانيًا تلقائيًا، يغمرنا بلذاذته ويطال ما حولنا. يقول “طوماس الأكويني” إزاء الجمال: “هو ذاك الشيء الذي يَسُرّ عندما نراه…”.
يبدو الجمال أحيانًا في الأشياء.. يسكنها وحدها، يستثير وعينا ومشاعرنا وعقولنا.. ومرةً كأنه يستوطن حواسنا، وينفعل مجتاحًا الوجود حولنا.. وأحيانًا أخرى يبدو مختلجًا يسربل الوجود والإنسان معًا. يقول “كانط“: “الجمال حالة من الوجد والتمتع تقع دون غاية ودون مفهومات”.. وهنا نستحضر الموسيقى، من حيث هي تجسيد لذلك المثل الأعلى للنقاء الجمالي المجرد الخالص..
يبقى الجمال سرًا من أسرار الوجود؛ فالفلسفة، على اختلاف مذاهبها، قديمها وحديثها، تباينت أحيانًا كما تماهت في أخرى إزاء تعريفات الجمال ومفهوماته. لقد تساءل أفلاطون: “أيكون سبب جمال وردة هو شكلها ولونها؟ أم تكون الأشياء جميلة بفضل علة أخرى معقولة مثالية هي مثال الجمال؟”.. أما أرسطو فيجد “الفنّ نظامًا، وهذا يعني بشكلٍ ما الجمال، والجمال ينطوي على تنظيم يستنهض دوافع النفس وطبيعتها الفطرية”. ويرى كذلك، أن الجمال مرتبط أساسًا بمدى الوعي به وإدراكه. والإحساس بالجمال مراتب تتفَتّق عن مستوى ذلك الوعي الجمالي والمعرفي.. أما “شفتسبري” فيعتقد أن “هناك حسٌّ باطنيٌّ مفطورٌ على محبة الجمال، وهذا الحس بالذات هو الذي يدرك الجمال بطريقة بديهية، على غرار البصر في إدراكه تلقائيًا للألوان في الأشياء”..
وقد عرّف القديس توماس الأكويني «الجميل» على أنه: “ذلك الذي لدى رؤيته يَسُرّ، وأنه يسر لمحض كونه موضوع للتأمل، سواء من طريق الحواس أو داخل الذهن ذاته”. (التفضيل الجمالي- عالم المعرفة- عدد267). في هذه الفترة اصطبغت مقاربة الجمال بلون ديني لاهوتي: [… وكانت الجماليات في العصور الوسطى تنبع من اللاهوت (…) وكرست نظريات الجمال والفن تلك تصورًا حول الجمال باعتباره إشعاع الحقيقة أو “شعاع الحق”، ذاك الذي يشع من خلال الرمز الجمالي الفني أو الطبيعي ويعكس وجود الله(…) وكان “القديس أوغسطين” يرى أن الجمال “يقوم في الوحدة في المختلفات، والتناسب العددي، والانسجام بين الأشياء. ولذلك، فالجميل هو ما هو ملائم لذاته، وفي انسجام مع الأشياء الأخرى. وكل جمال في الجسم يؤكد تناسق الأجزاء، مقرونًا بلون مناسب”]. (التفضيل الجمالي- عالم المعرفة- عدد267)
إن تعريفات ومفهومات الجمال تتعدد وتختلف بتعدد واختلاف المدارس وأصحابها من فلاسفة ومفكرين وجماليين… إلخ.
أما مفهوم الجمال عند المسلمين، فقد تنوع في تقارب عند كثيرين من الفلاسفة والمفكرين والصوفية. يقول التوحيدي في هذا الصدد ضمن كتابه ”المقابسات“: “فأما الحسن والقبيح فلا بد لهما من البحث اللطيف عنهما حتى لا يجوز؛ فيُرى القبيح حسنًا، والحَسَن قبيحًا، فيأتي القبيح على أنَّه حسنٌ، ويُرفَض الحَسنُ على أنَّه قبيح. ومَناشِئ الحَسن والقبيح كثيرةٌ: منها طبيعي، ومنها بالعادة، ومنها بالشرع، ومنها بالعقل، ومنها بالشهوة”.
أما ابن رشد فيجعل الجمال مرتبطًا بالفضيلة، وبكل ما هو خير ونافع. أما أبو حامد الغزالي فقد جعل الجمال ينقسم إلى ظاهر وباطن؛ ويجد أن جمال الظاهر يرتبط بالحواس، وجمال الباطن يرتبط بالبصيرة. وقد جاء في الإحياء: “الصّورة ظاهرةٌ وباطنة، والحُسن والجمال يشملهما، وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر، والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة؛ فمن حُرِم البصيرة لا يدركها ولا يتذوقها، ولا يحبها ولا يميل إليها.. ومَن كانت عنده البصيرة غالبةً على الحواس الظاهرة، كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة”.. أما محي الدين بن عربي فيعتبر الجمال كمال واعتدال، وأن هناك الجمال المطلق الكامل الذي لا يقبل الزيادة، وهو لله تعالى، والجمال النسبي وهو للمخلوقات وعلى رأسهم الإنسان، والكل يقتبس جمالَه من الجمال المطلق.
وأما إخوان الصفا، فيتبنون نظرية الجمال التي تبلورت عند الفيثاغوريين، ويُعَرفونه بأنه التناسق في الكون.
وقد اختَزل ابن حزم الأندلسي تصوره للجمال من خلال ما أورده في كتابه “طوق الحمامة”: “… أما العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمـر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس حسنة، وتولع بكل شيءٍ حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة؛ فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميّزت وراءها شيئًا من أشكالها اتصلت وصحت المحبّة الحقيقية”.
غير أن الجمال، في الأخير، يبقى دومًا منفلتًا في طبيعته ونعته. فبقدر ما هو موجود مدرَك في تمظهراته، بالقدر ذاته يغيب متخفيًا كروحٍ أو سراب. فالإنسان “ملاك ملهم”، طالما يضفي جماله الذاتي المكنوز فيه على الوجود، من حيث هو كيان وآلية متعقلة ووجدانية متكاملة، كيان قادر على الخلق والإبداع، وتنسيق ومناغمة ابتكاراته وحاجاته.. أحيانًا كثيرة، نصنع جمالنا بأنفسنا على مقاساتنا وتوقنا لذلك الاكتمال الذي ننشده ونتوسله في الأشياء الأخرى.. في الغيرية والمحيط..
الخيال والحلم، والتأمل والتدبر؛ معدن للإبداع، والإبداع ولعٌ يستثير مَلاك الجمال ويستحضره، ويتحسس الجميل من خلال الشِّعر والتشكيل، والموسيقى والرقص والغناء، والصورة… إلخ.
انبلج الكون من سديم ظلمة البدء، وظهر الإنسان دومًا، ثائرًا متمردًا، مميزًا بهبة العقل واللسان وحاجته الفطرية الجامحة للإبداع.. وعلى ذلك، كان الفن ومايزال مِعولَه لسبر تلك السرادقات المانعة دون الحقيقة. والفن مرآة استجلاءٍ صقيلة، كثقبٍ في الغيب، تنطبع عليها الماهيات والكينونات الهاربة عن الفكرة. الفن نفق سالك، نافذ بين المرئي واللامرئي.. بين البصر والبصيرة، بين الحرف ومعناه، والممكن والمحال.
الفن هو تلك “الهبة البلسم” من السماء، بعد المرأة.. وقبلهما الحب.. الذي بمقدرته ونفاذ سلطته التصدي للموت والفناء والنسيان، بالخيال والجمال والأثر. إذ وحده الفن من يستطيع خلق مرايا لاستجلاء ذلك الجمال الأزلي، ورسم خرائطه والسبل الإيمائية لاستشرافه.. وحده الفن، يمدنا بالمفاتيح التي تفضي إلى الفكرة والمعرفة، ويهدينا الحروف والألوان التي بها تكتمل الذات وتترتق تشققاتها وخرومها، تلك الجروح الغائرة في الكيان والنفس.
الفن يستدرج المعنى من خلف ما يُرى، ومن بين الظلال والرموز والممنوع.. إنه يُهدينا كذلك، أسباب الاندهاش والانبهار، ونحن نستكشف من خلاله أنفسَنا من جديد، ونتعرف على الأشياء والألغاز من زوايا لا يقوى على النفاذ إليها واستكشافها والمسك بأسرارها، سوى الفن.. وحده الفن لا غير.. هكذا كما يقِيمنا الفن في حيّز الحقيقة والمتعة، يقيمنا كذلك، وفي نفس الآن، في حيز المتناقضات والوهم.. وبالقدر الذي يمنحنا الفن النشوة في لذاذة ذهنية وبصرية متناهية، يجعلنا كذلك نتحير ونضيع حين ينغلق أمامنا الأفق فيه، أفق الرؤية والتأويل، وتستشكل علينا المسالك والملغزات ونتيه في متاهاته.. الفن يمدنا بالحرية والانطلاق دونما قيد، ويهدينا الإمتاع والجمال، كما يستدرجنا، في نفس الآن، للحيرة أمام فواجعنا وخيباتنا والخراب الذي فينا، ويستنهض هواجسنا للسؤال وطرق أبواب المجهول في الأشياء وفينا، واستيضاح الفكرة من بطن ضباب الوهم وغبش التقليد..
الهُوية وتد الذات، الفردية والجمعية معًا، ملاذهما العتيد، وأسّ صرحهما ومحور ثوابتهما. وبدون هوية، سقوط في التيه والدوار والغربة، وشتات وانشطار في النفس والذاكرة، وضياع وجهة الانطلاق.. تمايزت حضارات الأمم والمجتمعات بهوياتهم، الفكرية والمعرفية والثقافية والفنية والمعمارية..
الهوية تمد الوجود بوجودها، وتكرس الأنا والــ”هُنا”، وتعضد جدواهما. الذات أنت، ففقدك لهويتك استئصال لجذور ذاتك والعروق، وانتفاء بصمة التعرف عليك، وعن معناك وإياها؛ إذ يعني ذلك أن تغور في اليتم وتتوغل في النسيان، مثلما الحَرف يُنتزع من الكلمة، ليغدو مغتربًا فاقدًا لمعناه، وفي الحين يُبتر في الكلمة معناها وأهليتها وشرعيتها.. هويتك، بها يتم التعرف عليك، ومن خلالها تتمايز وتتواصل مع الآخر الوافد، وتتلاقحان عبر مختبر الاختلاف والتفاعل توقًا للتكامل والإثراء والتطور..
لكن رغم ما تبدو عليه الهوية من أهمية، ومن جليل القدر والمكانة في ترسيخ “الأنا” والـ”هُنا”، وتوطيدهما وجوديًا وحضاريًا، لا تفتأ الهوية (فضلًا عن مفهومها) تعترضها مخاطر مصيرية، تتهددها بالانتكاس والتحلل والاندثار؛ ذلك جراء اجتياح “المعاصرة العولمية” للعالم، والتوحد المعرفي والثقافي الكوني..
من الطبيعي أن يكون لكل فن خصوصياته وتميزاته الذاتية المشَكّلة لهويته الجمالية، تلك التي يستمدها من البيئة الاجتماعية الحضارية بكل روافدها المختلفة: التاريخية والثقافية والمعرفية والتربوية والدينية والجغرافية… إلخ. تلك البيئة التي تَخَلّق ضمنها وترعرع.. حيث بمائها ارتوت منه الجذور، وتغذى مِن/ وفي تربتها وتشبع بروحها، كما انصبغ بصفاتها وملامحها.. هكذا يبدو التشكيل يكتنز، بامتياز، نعوت بيئته والفنانين، ممتلئًا بسيماء وجوهر الكينونة الفكرية والمعرفية والحضارية لهؤلاء جميعًا. كما يقدم مستشرفًا ممكنات السعادة والاكتشاف، ومستلهمًا الأسئلة، يستدعيها والإجابات..
الهوية في الفن (ونقصد التشكيل) رافدُ أساس من الروافد المبلورة لهوية المجتمع وأصالته، ومرآة جمالية للتعرف عليه وعلى ذاكرته وتراثه وتاريخه، واستكشاف دأب الأسلاف في تعقب الجمال وممارسة فنون استعراضه واستحداثه..
فكلما أمسى الفن خالصًا وأصيلًا، شكل درعًا واقيًا يستميت دون تبدّد وتبديد الهوية الجمعية، وبالأحرى الفردية: هوية الفنان ذاته.
حين يكون الفن والفنان أصيلين يشكلان حينئذٍ وعيًا سليمًا معافى حاذقًا متفطنًا، ينتصب عاليًا، متميزًا ومتفردًا في شموخ أصالته، قادرًا على احتواء الوجود والجمال بأبعادهما المختلفة.. الفن الأصيل يقاوِم، في ذاته وبيئته، التخمرَ والتآكل بقوة التجدد، يضخ في الموات ما بهِ يغدو حيًا ينبض فوّارًا.. يخصب الوعي، ويُنضج الرؤية ويطرد غموضها بمسحه بالنور والإجلاء.
الإبداع الفني هو التوسل الأبدي للخروج من كهف أفلاطون عبر مرآة، والمرآة تشكلها المصُوغة أو المنجَز؛ أي ما يترتب من أثر عن “الحدث الوجداني والمعرفي الفني”.. فعملية الإبداع تعتمل ضمنها، متواشجة، عوامل وبواعث وجدانية و”ذكائية” ومعرفية، والفنان في جوفها يقود وجهتها، يناور، وينظم قصائدها البصرية الجمالية والفكرية.. فالفنان ها هنا ينسج متوحدًا هويته، ويسبكها ويبلورها، ضاخًا في متنها البصري روحها بروحه، ويشكل كينونتها بكينونته، وملامح تعرفاتها بملامحه وملامح بيئته ومنظومته الحضارية الثقافية والفنية.. الفنان يستقطع “مصوغته” من جوف ذاته ومشاعره وكينونته المعرفية قطرةً قطرة، نبضًا نبضًا، وحرفًا حرفًا.. كأنما ذاته تتخلق من جديد من بين يديه في كنه طارئ، ويستعرض الأسئلة ويستشرف الممكنات.
الفنان من بطانة الفيلسوف، غير أنه يفكر الأشياء ويتفلسف مشتغلًا بالشكل واللون والضوء والخامات.. فالفنان التشكيلي مسبار نافذ، يتفاعل بغريزته للخلق مع الأشياء والأحداث والوجود، والجمال والقبح.. يسائل ويستجلي الخبايا ويستشرف المآلات.. يستثير الفكرة والبديهي والموجود، يتجاوز الحدود والموانع صوب أعتاب تلك الحقائق المتمنعة المسربلة بالألغاز والأسرار.
لكل فنان تشكيلي مسربه الفني المخصوص، نسقه وأسلوبه، يحملان بصمته التشكيلية الذاتية، شكلًا ومضمونًا: الفنية والإبداعية والفكرية والمعرفية والسيكولوجية… إلخ. وهي بصمة وُسِمت وتشبعت بكل تلك الروافد الثقافية ضمن موطنها المجتمعي الأصل، أي من حيث ينحدر الفنان. كما أنها، بشكل ما، تأثرت واستفادت من خصوصيات المعارف الغيرية بحكم تثاقف وتلاقح حتمي.. والبصمة تلك، هي التي تحدد ملامح التعرف على الفنان وعلى انتمائه، ومن خلالها يتميز الفنان التشكيلي عن غيره من الفنانين، وبها يتوحد، وبالأحرى ينسكب تميزه ذاك ليشمل موطنه، هو الآخر، ويبصمه.. البصمة الفنية “توقيع وجود فرداني”، يتبدى جليًا من خلال خصوصيات الألوان والأشكال والبنيات، واختيارات الموضوع وطريقة اختبارها (القضايا والإشكاليات التي تستهدف مساءلتها ومقاربتها عملية الإبداع)… إلخ. فالقضايا تتباين وتتنوع بتنوع الأوساط: ثقافيًا ومعرفيًا وجماليًا وسياسيًا واقتصاديًا وحضاريًا… إلى غير ذلك. فمنجز الفنان موقف ذاتي إزاء الأشياء، وإزاء منظومة الحياة وتجلياتها وتمظهراتها ومخاضاتها المتنوعة..
اهتم الفنان والنحات والمعماري النهضويون، في الغالب، بالروحيات الدينية والمرويات الإنجيلية، وتميز فضاؤهم الفني بالترجمة التخيلية لتلك المحكيات والمرويات العقائدية، واستبراز روحانيتها وقدسيتها.. بعدها، ومع استرسال العقود والعقول، تغير الهم الفني التشكيلي تباعًا عند الفنانين على خلفية تبلور فلسفات ومفهومات جديدة، خلخلت مجددة تلك القضايا والتصورات الدينية والفكرية والجمالية السالفة، وانبثقت عقبها أشكالٌ مستحدثة، شكلت من جديد منظومات أخرى؛ معرفية وحضارية. فتوالت المدارس والتيارات الفنية، وكل حقبة تنقض سابقتها وتجدد، وتفتح آفاق الاختلاف وتجاوز الماضي والمعهود. ولقد شكلت الفلسفة، بشكل أساسي، عصب ومنطلق تلك التحولات، فضلًا عن الأدب بشتى مجالاته. إضافة إلى تأثير النظريات والاكتشافات العلمية العديدة والصناعات الحديثة، كاكتشاف: علم المنظور géométral، فيزياء الألوان مع نيوتن وشوفراي، آلة التصوير، الأفلام المتحركة، العالم الافتراضي، الذكاءات الرقمية… إلى غير ذلك.
وهنا لسنا في حاجة لتوضيح أن تلك التيارات والعقائد الفنية التشكيلية واكبت حقبًا بعينها، أفرزتها وضمّختها بخصوصياتها ومواصفاتها؛ وبالتالي وهبتها “هُوية تيارية” تتمايز بها. وعليه، فالفنان نفسه اصطبغ بتلك الهوية، وارتبط بها انتماؤه التشكيلي والجمالي. لكن، وبالرغم هذا وذاك، فالفنان يتفرد ويتميز -بشكل ما- ضمن هوية تياره، وذلك عبر خصوصياته التشكيلية الذاتية والروحية والفكرية، وبما استحصله من تجربته المجالية. وبالتالي، كأنما الفنان بلور توقيعًا تشكيليًا تعريفيًا يضخه في متون مشغولاته ومنجزاته الإبداعية.. فاللوحة السريالية، على سبيل المثال، تختلف عن الرومانسية وعن الانطباعية، لكن، في الوقت نفسه، سريالية الفنان دالي تتباين مع الفنانين روني ماغريت وماكس إرنست (هذا يفصح عن أن لكل فنان “هوية خاصة”، وأثره التشكيلي المخصوص)، لكن، في نفس المضمار، هناك أعمال فنانين كثيرة تتشابه وتتماهى على غرار تناص أدبي.. إذ قد يصعب أحيانًا التمييز بين لوحات للفنانيْن: بابلو بيكاسو وجورج براك..
الممارسة الإبداعية التشكيلية في شكلها الحديث في العالم العربي، مطبوخة بوصفة الفنون الغربية وما تزال.. يُسِر التاريخ بأن إبان الاحتلال الأجنبي للدول العربية، القادم من خلف البحار، صاحب معه المحتل ثقافته وفنه وتقاليده وأزياءه.. وذكاءه. فحصل، كما يحصل دائمًا وأبدًا مع الاستعمار، زرْعُ الوافدين أرض الحلول، قبل الرحيل، ببذور ذاتهم الثقافية والفنية… إلخ. ولقد أثمرت بذرة الفن الوافد بما صار عليه فننا التشكيلي في عالمنا العربي.. فهكذا وعلى هذه الشاكلة ” انطلقت نشأة “الفن الحديث العربي” في مجمله؛ فأصبح الفنان يستقي روح منجزه ومشغولاته الإبداعية الفنية من “استتيكا التقاليد الفنية الغربية”، وإن كان هناك تباينات في الموضوع والتخييل والشكل، غير أن أس المنطلقات الفلسفية والتمثل الجمالي يُمتحان من قلب براديغم ذاك الفن الوافد. أحيانًا، هنا وهناك، ضمن هذا المتن المستعار، يمكن تحسس إرهاصات جمالية تومئ للفنون الشعبية والمعمارية المحلية، رغم اجتهاد المستعمر الحثيث في إخصاء روحها النابضة وطمس ملامحها. ( يبقى تاريخ نشأة الفن الحديث العربي يمثل إشكالًا ما يزال غامض التحديد والإحاطة، متشابك المنطلقات والمخرجات؛ لقلة المتون التوثيقية التأريخية المتخصصة، فالموضوع يحتاج إلى تمحيص وتجرد بحثي دقيق..)
انطلاقًا من فترة الستينات والسبعينات، الكثير من الفنانين ونقاد الفن والأدباء العرب، أمثال: فائق حسن وشاكر حسن آل سعيد من العراق، محمود مختار من مصر.. الناقد والأديب جبرا إبراهيم جبرا… إلخ، (وأغلب هؤلاء، فنانون رواد من مخضرمين ومحدثين، كانوا تكونوا في المدارس والمعاهد الفنية الأوربية..) انبعث لديهم وعي قومي عروبي احتجاجي، يَتهم بالشبهة والالتباس تلك الممارسة التشكيلية بخصوص هويتها وأصالتها.. (“جماعة البعد الواحد”- نمودجا). فسالت الأحبار في كل مكان يمر منه التشكيل، واحتدمت النقاشات في المؤتمرات والمناظرات على امتداد القطر العربي حول إشكالية الاغتراب الثقافي والتراث والأصالة والمعاصرة.. ووقّعت اللوحة الحروفية وقتها مجدها وطليعيتها في المشهد التشكيلي العربي..
لكن، ومهما يكن من أمر، هناك سؤال ما يزال قائمًا مستميتًا ساري المفعول ولو في خفوت: “هل يكفيك أن تتزيَّا بلباس الأبطال لتكون بطلًا؟”، فيجيب عنه تساؤل يناصبه: “أفي التأسي بثقافات الآخرين والاستفادة من فنونهم وتجاربهم، ضير؟ أليس بالتلاقح الحضاري تتطور الشعوب؟!”..
الفن لا يقبل أن يقوم على الزيف والريبة والانتحال؛ فذلك يكسر أنيابه، وينتزع منه مخالبه، ويجعله قليل الجدوى، حينئذ يتخنث الفن ويتلاشى تمرده وعنفوانه، ويجف نسغ فاعليته وتفاعله وجرأته، ليتحول، نهاية، إلى نوع من “سيمولاكر” فني زائف أجوف، هجينًا فاقدًا لفطرة التبرعم والإنبات والنمو والإثمار، مثلما بذرة عقيمة لا تنتج سوى عقم وبوار.. بالقدر الذي يقوم فن ما بانتحال فن آخر، يستنسخ معالمه ويتسربل بماهيته؛ يكون قد دخل دورة مواته وأطلق عدّها العكسي، وأوصد دونه ممكنات أن يتجدد ويجدد، يتطور ويطور، وأن يبعث من حوله الحياة والسعادة، يستخرجهما من هذا الخراب الوجودي الإنساني.
أن ينحت الفنان على منوال فنان آخر وينتحل أسلوبه، فلا غرو أنه يفرغ الإبداع كله من روحه ومعناه، ويخون، وينخرط، هكذا، في تزييف وتدليس فني يسمم الأذواق والآفاق، مثلما يفعل وباء. مصير ذلك ومنتهاه، انحطاطٌ وتخريبٌ للعملية الإبداعية من أساسها، ولو بعد حين.. فمن المحال أن نبني مجدًا تشكيليًا أصيلًا باستنساخ وتقليد الآخرين، وإعادة تدوير فنونهم واجترار تياراتهم. بيد أن المفروض أن يكون لكل قدَره الفني المخصوص.
مع العولمة والذكاءات الرقمية لم يعد هناك اليوم، مثلما كان، حاجز جغرافي أو “ثقافي شوفيني” يحول دون تواصل مباشر حي بين الشعوب والثقافات والفنون والعلوم والعقائد… إلى غير ذلك. وبالتالي، ليتبلور مفهوم “الكونية” و”الهوية العالمية الواحدة” فتتوحد المفاهيم والتوجهات العلمية، بعدما سال العلم وفاضت المعرفة والفكر منهمرين من كل حدب وصوب على المعمورة برمتها، والكل يتسلل عبر الهواء والضوء من خلال: الصورة الافتراضية، الصوتيات، الإرسال الحي، العروض والاستطلاعات الآنية… إلخ، جارفين معهم الحدود والمتاريس والعوائق.. وبالتالي يبدو من الصعب على الهويات المحلية والوطنية أن تصمد أمام هذا الاكتساح المعرفي الهادر..
قد لا يكون هناك من طائل في استثارة قضية الهويات (وضمنها الهوية التشكيلية)، وبالتالي الاستدراج للسقوط في فخ زئبقية موضوعيتها وجدواها، في ضوء هذا الانصهار والتمازج الحضاري الكوني الجارف.. والحال كذلك، يتبدى من أن تلك “الهوية الموحدة، المهيمنة كونيًا” لن يشكلها ويصوغها سوى ذاك الأقوى، من له الصدارة الحضارية في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا والسياسة، إلى غير ذلك.. وسيشيدها على مقاس “مصالحه ومنافعه القومية”. وقد أثار هذا المآل ابن خلدون مشيرًا إلى أن: “المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته، وسائر أحواله وعوائده”.. ولن يكون بإمكان الفن، عمومًا، الخروج عن قدر هذا المصير. وبالتالي، قد لا يفيد في شيء، على الأقل في المدى القريب، أن نخوض في إشكالية الهويات، متمترسين خلف التحيزات المتشددة، والتموقعات الفكرية والمعرفية المنغلقة.. لكن في الوقت ذاته، تبقى التكهنات والاحتمالات المستقبلية مفتوحة على كل المخرجات والمفاجآت “المعكوسة”، حتى التي قد تُرجعنا القهقرى إلى تلك التطرفات الهوياتية والتعصبات القومية، كعودة النازية الجديدة التي تتراءى أحيانًا، هنا وهناك، في صور تتسم بالعنف والكراهية وتتزيا بالتطرف، عنف جنوني تقوده وتذكي سعيره التجمعات العنصرية على امتداد العواصم والقارات..
رجج الفن المعاصر تلك النظريات والمفهومات التقليدية التي قام عليها الفن التشكيلي وقوض أشكال ممارساته، مستحدثًا غيرها “براديغمًا” إبداعيًا قطع مع الماضي نهائيًا. فأضحت الفكرة السابقة عن الفنان والفن والمفنون -بمعناها الجمالي والتقني والممارساتي- لاغية من أساسها، على حساب الفكرة والمعنى، وحِدّة وقوة الاستفزاز فيهما. هكذا تشكلت ممارسة “إبداعية تشكيلية جديدة” مفتوحة على الإبداعات التشكيلية الإنسانية برمتها دونما قيد انتقائي. ولم يعد هناك -على الأقل في المنحى التعريفي للفنان المعاصر- من اشتراطات معيارية مخصوصة تقتضيها مشروعية “أن تكون فنانًا”، أي تلك التي تتعلق بالتقنية والموهبة والتكوين التخصصي… إلخ؛ بل أصبح اشتغال الفنان مُنصَبًّا بالأساس على إبداع وابتكار الفكرة وتأطيرها، ليتحول المصوغ الفني منطلَقًا لاستثارة التفلسف والمقاربات الفكرية والثقافية والافتجاء.. وبالتالي، تمأسس نمط جديد متفرد لممارسة الإبداع ضمن سياق سوسيولوجي فني حديث، يستمد اقتضاء أهليته وجدواه من طبيعة مجتمعنا المعاصر ذي الأبعاد المعرفية والحضارية الكونية، مجتمع علومي “رقمي ذكائي”، يمتح ديناميته الوجودية وديمومتها التطورية من رهانات تنبني منطلقاتها على التحدي والمغامرة والخيال والصدفة، كما تقويض البديهي واليقينيات والمعتق.. وبالتالي، انشرم مسار الفن ومصيره إلى شطرين: فن حداثي يتوارى راحلًا في تشيّخ وتوهن. مآله، حتما، إلى زوال ورماد، لينتهي، ولو بعد حين، إلى حكي ماضوي تاريخي ومنقلب متحفي. وفن معاصر فتِيّ انفلق للتو صبحه، طازجًا فاتنًا جذّابًا، معلنًا عن صيرورة ومصير جديد للإبداع لم يعهده التلقي “الجمالي” الإنساني من قبل.. إنه انبعاث، من جديد، لذلك “السؤال الإشكالية الأبدي” المستغلق عن القطع في الإجابة: “ما الفن؟ ولم؟ وكيف؟”.
الفن المعاصر أذاب هويات التشكيل صهارة في شرنقة من زجاج شفيف، لا أصل لها ولا نعت، حيث كل شيء يُرى من خلالها هلاميًّا بلا معالم.. “أرواح متعددة تنطمس في روح واحدة، نزقة طياشة متحيرة”.. هي هوية، كل الألوان لباس لها، هوية محتدمة بنزعة “الزائلية والعابرية”..