أنا ألعب إذن أنا موجود (مترجم)
عُرف الكاتب والفيلسوف ألبير كامو بمقالاته ورواياته الفلسفية وحبه لكرة القدم فمن المحتمل أنَّ كل معجب بكرة القدم ومهتم فكريًا بها سيُثمِّن هذا كما أفعل شخصيًا، و في هذا المقال سأبيّن كيف أنَّ حب كامو لكرة القدم ينسجم مع ولعه الوجودي للعيش بسعادة وحرية.
في روايته البيوغرافية غير المكتملة «الإنسان الأوّل»، يكتب كامو حول كيف قامت الشخصية الرئيسية بالتغلُّب على شعورها بالخجل من اِرتداء الملابس القديمة في صف المدرسة، وفي أرضية الملعب حيث تمارَس رياضة كرة القدم التي هي متنفسَّه. غير أنَّ هذا المتنفَّس قد حُرِم منه بسبب أرضية الملعب الإسمنتية التي يمكن أن يهترئ حذاءه فيها بسرعة وهو ما جعل الجدّة تمنع جاكاس من لعب كرة القدم.
وبالطبع فإنَّ ألبير كامو مارس كرة القدم رغم عقاب جدته القاسي الذي أنزلته عليه عبر جلده بالسوط. فقد كان منقادًا إلى الحياة برغبة محمومة مثلما تقول الشخصية الرئيسية: «لقد أحببت الحياة فأنا أتوق إليها، لكن في الوقت نفسه تبدو الحياة بالنسبة إليّ مريعة وبعيدة المنال، ولهذا فقد قادني الشكّ إلى الإيمان بها، نعم أريد أن أؤمن وأريد أن أحيا للأبد».
لقد تأصّل حب الحياة عند كامو أساسًا من حبه لوالدته، وأيضًا من أبسط المتع في الحياة مثل كرة القدم. ومن الطبيعي لنا أن نتساءل عن العلاقة التي تجمع كرة القدم بحب الحياة، والفلسفة؟ لقد أشار كامو في مقال يتناول فيه سنواته الأولى كحارس مرمى في «نادي الرايسينغ الجامعي للجزائر» أنَّه «في نهاية المطاف، ما أعرفه على وجه اليقين من أخلاق وواجبات إنَّما أدين به إلى كرة القدم».
قد يبدو هذا للبعض رومانسيًا بل وحتى تجديفًا، فربط الرياضة -كرة القدم في هذه الحالة- بالفلسفة قد يبدو مثل خلط الحابل بالنابل. فعلى سبيل المثال علَّق الكاتب الأرجنتيني «خورخي لويس بورخيس – Jorge Luis Borges» بأنَّ «كرة القدم ذائعة الصيت لأنَّ الغباء ذائع الصيت أيضًا». إذا ما قورن هذا التصريح بتصريح كامو فسيحثُّنا عن التساؤل عما إذا كانت كرة القدم هي في كلتا الحالتين تعليمية وغبية؟ ومع أنني أتّفق مع بورخيس حول شيوع الغباء غير أنَّ الإجابة ستكون بالنفي. فالغباء يمكن العثور عليه في أي مكان بما في ذلك كرة القدم إلَّا أنَّ كرة القدم هي أكثر من مجرد لعبة، فعلى سبيل المثال تستطيع أن تكون كرة القدم طريقًا نحو تعلُّم حقائق مهمة مثل أنَّ الحرية هي عنصر أساسي في الحب.
بحثًا عن لعبة تستحقّ أن نمارسها:
أقترح بأن يتم اِعتبار كرة القدم مجالًا معقولًا للتأمُّل الفلسفي مثلما تم تسخير الفن والأدب والموسيقى والرقص لتوضيح النقاشات الفلسفية، أؤمن بأنَّ عدة أبعاد من كرة القدم قادرة على تبرير هذا الاستخدام، أضف إلى ذلك إشارة ألبير كامو إلى التوجيه الأخلاقي. وأحد هذه الأبعاد هو المنافسة ونزعتها إلى النصر والبطولة والشرّ والتراجيديا والموت. فعندما تصبح اللعبة معركة فإنَّها ستحفِّز فينا حسَّ العدالة، كأنْ نحكم على النصر بأنَّه مستحقّ أم إذا ما كنا على العكس من ذلك نتحدَّث عن خاسرين رائعين* قد قاتلوا سدى.
وعلى أي حال لكي نفهم كيف أنَّ حب كامو لكرة القدم يماثل ولعه بالحياة؛ من الضروري أن نبحث عن العلاقات الكامنة في ممارسة لعبة ما كطريق نحو اِكتشاف محدودية الحرية. هناك شيء من التقييد والتحرير في الوقت ذاته عند ممارسة لعبة ما، فعلى سبيل المثال ليس باستطاعتنا المشاركة في لعبة ما إلَّا اذا قبلنا بشروطها، ومع ذلك فهذه الشروط بما فيها مظهرنا الخارجي ومحدوديتنا الذهنية هي قابلة لإنتاج نماذج خلَّاقة ومبتكَرة في اللعبة. مثل أنَّ الانخراط العفوي في لعبة يجسِّد الرغبة والتوق إلى الحياة التي تحدَّث عنه كامو كالالتزام بعيش الحياة بملئها قدر الامكان.
وعلاوة على ذلك، ما يميِّز الوجود الانساني هو أنَّنا دائمًا ما نمارس لعبة ما وغالبّا عدة ألعاب في وقت واحد: عائلية، وسياسية، وإيروتيكية، وروحانية.. الخ. وهذه الألعاب حسب أسلوبها الخاص، مشبَّعة بصراعات السلطة والرغبة، والرفعة، والرتبة. والتي بوسعها أن تتجاوز لعبة واحدة، مما يسفر عن أن تغدو الحياة مزيجًا من ألعاب عديدة يندر تفريقها عن بعض بالكامل. ولا ينبغي أن يُفهَم هذا على أساس أننا نتعمَّد القيام بمهامٍ متعدِّدة ولكن أن تكون حدود الألعاب بدلًا من ذلك منحلة فتنحلُّ كل لعبة في أخرى.
ومع ذلك فنحن دائمًا ما نمارس لعبة ما، ولا يتمثَّل التحدّي الوجودي في العثور على لعبة بقدر ما يكون «اِكتشاف لعبة تناسبك» والتعرّف على لعبة تستحق اللعب. فهذه الأخيرة تستدعي الفضول وهي مفتوحة على تجارب تفيد بأنَّ الفرد المعني بها يحب الحياة ويتوق إليها. إنَّ الألعاب التي تستحقّ أن تُلعَب توقظ شغفنا لأنَّ فيها شيئًا يحرِّرنا. مثلما اِستطاع ألبير كامو أن ينسى بعض مشاكل الحياة وأن يصبح شخصًا آخرًا في أرضية الملعب.
إنَّ المغزى هنا هو أنَّك موجود لأنَّك تشارك في الألعاب، بالإضافة إلى ذلك فنحن نتعلَّم معظم الألعاب عبر ممارستها، ولكن مَن يلعب مَن عندما نشارك في لعبةٍ ما؟ هل كامو هو الذي لعب كرة القدم أم أنَّ المتعة جاءت من لعب كرة القدم؟ سيتضح هذا السؤال إذا ما ربطناه بالأدب، هل اِستمتع كامو بقراءة الكتب أم أنَّ المتعة قد نبعت من طريقة القراءة التي فتحت آفاقًا للقارئ الذي لم يكن واعيًا بها من قبل؟
يمكن للفيلسوف «مايكل سير- Michel serres» الذي طوَّر مفهوم يدعى «الموضوع الزائف – quasi object» أن يساعدنا في الإجابة على هذه الاسئلة؟ فمفهوم الموضوع الزائف لا يتبع لا الموضوع ولا الذات بل يربطهما ببعض بطريقة تجعلهما تقريبًا واحدًا – اللاعبين واللعبة التي تُلعَب-. فهو يذكر كيف للكرة (كرة ريجبي في هذه الحالة) أن تخلق كلا من الفرد والجماعة -الفريق واللاعب على التوالي-. وبالطريقة نفسها إنَّ كرة القدم -الكرة ذاتها- هي التي تتيح العلاقات الشخصية.
إنَّ رواج كرة القدم (لا أزال أفكِّر في الكرة ذاتها) ضرورية، فهي تساعد على نشر قوى الحياة المتعدِّدة حيث تخلق الأشكال المختلفة للحياة شيئًا ما مشتركًا (على سبيل المثال؛ كلّ لاعب من اللاعبين يجسّدون معًا عزيمة الفريق) وعلى أيّ حال فمن المهم أن نشدِّد على أنَّ العام أو الجمعي (نحن) ليس وحدة صغيرة متجانسة. وعلى العكس من ذلك أعتقد أن الأمر الذي يعطي للحياة معنًى قد أشركه كامو مع كرة القدم أو الأدب حيث يدور حول قدرته على خلق أشكال مختلفة من التواصل الحياتي دون أن يختزلهم في وحدة واحدة بل يخلق عوضًا عن ذلك مجالًا لتواجد فريق (أو حياة) ثري بالتنوُّع.
على سبيل المثال، لقد أحب كامو كلا من كرة القدم والأدب إذْ من المحتمل أنَّ هذا كان متعلَّقًا بشعوره بالحرية عند ممارستهما. حتى ليبدو وكأنَّ القراءة مع اللعب متّصلين ببعض. بوسعنا اِستيعاب الحرية بوصفها «صيرورة» مثل أن يقوم كامو بفعل أشياء بالكرة أو الكلمات. وأنا لا أفترض بأنَّ كامو قد رأى معنى خفيًا وعميقًا وراء كرة القدم لكني أرى بدلًا عن ذلك أنَّ الكرة تحقّق حركة قصوى تمنح اللعبة مدلولها المميّز. إنَّ المتعة والحب الذي عاشه كامو وهو يلعب كرة القدم له علاقة بالحرية التي هي جزء من اللعبة.
مفارقة الحرية:
بالنسبة إلى الفيلسوف «برنارد سوتس – Bernard Suits» فكلّ لعبة تحتوي على معيقاتها. ويعرِّف سوت اللعبة في كتاب «الجندب: الألعاب والحياة واليوتوبيا – The Grasshopper: Games, Life and Utopia» كـ محاولة تطوعية لتخطِّي عقبات غير ضرورية. فعلى سبيل المثال عند قبول شروط اللعبة على لاعب كرة القدم التمرِّن على عدَّة مهارات مثل القفز عاليًا لضرب الكرة رأسيًا والتي هي من الناحية الوجودية غير ضرورية.
في كتاب «الانسان واللعب والألعاب» يعرِّف عالم الاجتماع «روجر كايوا – Roger Caillois» اللعبةَ بوصفها «فرصة للاستنزاف: تضييع الوقت، واِستنزاف الطاقة والبراعة والمهارة، وأحيانًا اِستنزاف المال». هذا الفهم ينحاز إلى مفهوم سوت عن العقبات غير الضرورية فالفرد يجب أن يتقبَّل وجود العوائق الكامنة في كل لعبة حتى يلعبها. لكن هل الاستمتاع بممارسة اللعبة يشمل التغلُّب على هذه العقبات؟ ولِمَ قد يقوم بها طوعًا؟. إنَّ التغلُّب على سخافات الحياة يجعل أسلوبنا في العيش مثل لعب لعبة حيث أنَّها لا تشتمل فقط على قبول القواعد والأنماط الاجتماعية مثل قوانين الطبيعة بل على بذل قصارى جهدنا لأجل اِظهار قدراتنا. ألم يقل كامو أنه علينا أن نتصوَّر سيزيف شخصًا سعيدًا؟.
إنَّ مهمة سيزيف شبيهة بجلوس الكاتب في مكتبه لعدَّة ساعات يوميًا، أو نشاطات هؤلاء الذين يفضِّلون ملاحقة كرة لتسعين دقيقة في سبيل وضعها في شباك المرمى. إنَّ لعب لعبة يصبح طريقةً لتحقيق نمط معيشي مستقلّ، ولا يعني هذا أن تكون لاعب كرة قدم أو كاتب مثلما رأينا في المثالين السابقين بل أن تقدِّم هذه الألعاب فرصًا للشخص لكتابة قصص حياته بنفسه ولو لفترة قصيرة في ساحة اللعب.
إنَّ ما تجمعه هذه التعريفات المختلفة لـ اللعبة هي أنَّ جميعها تصف خلق مجالٍ من الفرص تتيح اِستحداث أشكالٍ مختلفة من الحياة في وقت واحد. ومن الضروري في بعض الألعاب الاعتماد على مزاج وشغف اللاعب غير أنَّ جميعها تحتوي على أمور غير ضرورية -بما أنه لا أحد مجبر على ركل الكرة أو الكتابة على سبيل المثال- . وعلى الرغم من ذلك، فكل لعبة تتضمَّن ضرورة ما، بما أنه لا أحد أو عدد قليل فقط سيمتنع عن ركل الكرة أو المشاركة في بعض الألعاب حتى تستمر-. وأن يسلك المرء أيضًا حياة الناسك الذي يتأمَّل في كهفه طوال اليوم لهو جزء من تاريخٍ ثقافي له لعبته الخاصة التي يلعبها لأجل الوصول إلى الاستنارة.
إنَّ الأمر كما لو أنّ الانسان يحتاج للعب حتى يحيا إلى أبعد مدى. أدعو هذه المفارقة بـ مفارقة الحرية، وربما هذا بالضبط ما تشترك فيه كل الألعاب. إنَّ كرة القدم وسباق الدراجات والألعاب الروحانية والمثيرة كلها تتغلَّب على عقبات غير ضرورية بشكل طوعي كما لو كان من اللازم القيام بذلك. ويعود هذا ربما إلى أنَّ اللعبة تخفِّف من وحشة وسخافة الحياة عن طريق منحها معنًى أو هدف مؤقَّت بصرف النظر عن سخافة اللعبة. وهذه هي تجربتي.
هذه الحاجة إلى اللعب هي بالطبع أكثر أهمية من لعبة محدَّدة بعينها، فهذا هو السبب الذي جعل ألبير كامو يربط مرح الحياة والمتعة بممارسة اللعبة في وقتنا الحالي. من الواضح أنَّ بعض الألعاب تُظهر رغبةً أو متعةً بالغة أكثر من أخرى بناءً على أسلوب الشخص، وذوقه، وحالته الوجودية. فعلى سبيل المثال أنا لا أحبذ أوراق اللعب لأنّي أرى أنَّ هذا النوع من الألعاب منهِك مثلما يصح أن يرى البعض كرة القدم.
وعلى أي حال، تستند رغبتي في لعب لعبة على ما إذا كنت على علمٍ بتاريخ وقواعد وقصة اللعبة التي تعرِّفني عليها. وما هي الفرص التي تتيحها. إلخ. إنَّ ما أعنيه هنا هو أنَّ المتعة التي أربطها بكرة القدم تجمع عدة أمور مثل قضاء الوقت مع العائلة والأصدقاء، والجوّ المرح، والسفر، الخ. بالنسبة لكامو فقد نالت كرة القدم حبه عن استحقاق وهذا لأنه اِستطاع ان يتملَّص من تنمُّر الآخرين عليه وأن يعرض قدراته الجسدية، ويصفِّي ذهنه ويشعر بالحرية وأن يصبح شخصًا آخر لبعض الوقت.
ترتبط مفارقة الحرية بممارسة لعبة ما لارتباط هذه الأخيرة بالقيام بشيءٍ غير ضروري يجوز لنا رفضه ومع ذلك فمن الضروري اِختيار لعبة نلعبها. فحتى إتّخاد قرار بعدم المشاركة هو خيار، فاختيار ما يلزم يحدِّد ما هو مهم، وبوسعنا إتّخاذ كامو كمثال واتبَّاع قلبنا؛ أن نفعل ما نرغب به ونتحمَّل بأنفسنا تبعات قراراتنا. ولقد كانت هذه الرؤية هي ما قادت كامو إلى التصريح بأنَّه مدين لكرة القدم.
ملاحظة مترجمة المقال:
*خاسرون رائعون beautiful losers: اِستُلهِم هذا الوصف من عنوان رواية ألَّفها المغني الكندي «ليونارد كوهين». وتتناول هذه العبارة الأشخاص الذين لا يتسِّقون مع معايير وعادات مجتمعهم وتصوُّرات أفراده عن الجمال والنجاح، فهم عوضًا عن ذلك يرون الحياة بمنظورٍ مختلف عن ما هو سائد. ونحن نرى أنّ هؤلاء قد خسروا تقدير المجتمع لكنهم ربحوا أنفسهم، وقد يشبه هذا الانخراط في لعبة ما، فالخسارة هنا لا تهم بقدر ما تهم ممارستنا للعبة واِستمتاعنا بها.
المقال الأصلي:
https://daily-philosophy.com/janning-to-exist-is-to-play/