This Is Us.. التّقليديّة تربح أحيانًا!

هل تبدو قصص العائلات السّعيدة النّمطية شيئًا يمكن المراهنة على نجاحه اليوم؟ تساؤل ربما دار في أذهان العديد من صنّاع المسلسلات، حيث المراهقون والشباب من متابعي Netflix وHBO وغيرها صاروا متعطّشين للقصص الأكثر غرابًة ومأسويًّة ودراماتيكيًّة، وقِلَّةٌ منهم فقط مازالت تستهويه القصص الدّرامية التّقليديّة، ونتيجةً لذلك طفت الأعمال الغريبة وغير المألوفة على ساحة الأعمال الفنيّة بينما خَفَتَ بريق النّوعية الدّراميّة الدّافئة ولم تعد حصانَ السّبق النّاجح!

 الرّهان على التّقليديّ

الغريب أن هناك من قرّر الرّهان على الاستثناء والأكثرُ غرابةً أنّ الرّهان نجح! بل وكانت تلك الخطوة بمثابة ورقة يانصيب رابحة!، إذ قلب صنّاع مسلسل This is us الطّاولة على الجميع بإنتاج واحدٍ من أفضل المسلسلات الدّرامية بتقليديّة أمسَ وفكرِ اليوم وبخلطة نجاحٍ مُبهرة تمثّلت في السّيناريو الجذّاب، الجُمَل الحواريّة الرّاقية التّي كانت صادقة بقدر واقعيّتها، وفريق العمل الذّي تم اختياره بعناية فائقة ممّا ساهم في تعلُّق الجمهور بشخصيَّاتهم، وكل ذلك مع الحرصِ على عدمِ الوقوع في فخّ النّمطيّة والملل .. لتشعر وأنت تشاهد العمل وكأنّك تلتهم وجبةً دافئًة – مع لمسة بهار حارة – بعد يوم عمل شاقٍّ بينما تُربت على شعرك يد من تُحب لتطمئنك بأن كل شيء سيكون على ما يرام.

قصة مسلسل This Is Us

القصة تدور حول عائلة تبدو تقليديّة ولكنّها أبعد ما يكون عن التقليدية!، جاك الأب الذ~ي نشأ وسط ظروفS عصيبة كان بطلها والده القاسي الصّارم، ومدمن الخمر الذّي كان يتلذّذ بتعذيبهِ وأسرته بالكامل، وأم تقليدية ضعيفة تخشى المواجهة، وأخ متسيّب ولكنّه صديق الطفولة والمراهقة المقرّب لجاك.

ريبيكا الأمّ التّي عاشت حياة الرّفاهية والدّلال التّي لم يعكر صفوها سوى فشلها كمطربةٍ صاعدةٍ ومعاناتِها مع تسلّط والدتها التّي لم تكن تتواني في فرض كل شيءٍ يخصّ حياتها.

إعلان

تعرّف جاك على ريبيكا ونشأت بينهما مشاعر حبّ رقيقة صافية وعلى الرغم من  كل الصّعوبات والعوائق لفارق المستوى بينهما وظروف جاك السّيئة ومعارضة والد ووالدة ريبيكا على إتمام الزيجة، تزوجا ثم توّجا زواجهما النّاجح بثلاثة أطفال، توأمٌ (كيفين/ كيت) وطفلٌ مُتبنّى (راندل) والذّي ظل فقدانهم لجاك الأب في وقت مبكر في حياتهم هي المأساة والطّامة الكُبرى التّي مهما حاولوا تقبّلها ظلّت ذكراه تطاردهم في كلّ ركن، وكل حكاية، وكل موقفٍ عابرٍ أو ذكرى .. كلّ شيء ظلّ يقودهم إليه في النهاية!

This Is Us

مسلسل This is us هو عمل تلفزيوني أمريكي قام بكتابته دان فوجلمان، وتم بثّه لأول مرة على شبكة NBC عام 2016، حصل على تقييم 8.7 على منصةIMBD، تم إنتاج 4 أجزاء من المسلسل ومتوقع تمديده بموسمين إضافيين، المسلسل ضم العديد من النجوم أبرزهم ماندي مور بطلة فيلم “A walk to remember” وميلو فينتميليا بطل مسلسل “”Gilmore Girls- heroes، ستيرلينج كي براون، كريسي ميتز، جاستن هارتلي وغيرهم

 الدّراما وحدها لا تكفي

أكثر ما أثار إعجابي والكثيرين بهذا العمل هو ابتعاده عن فخّ الدراما النمطية الخالية من الهدف والقيمة والتّي لا تُضف جديدًا للمشاهد بل تسقط في فخّ الملل والرّتابة والحوارات الفارغة المكرّرة، إنّما بدلاً من الاستخفاف بالمشاهدين نجحوا في تقديم عمل دراميّ واقعيّ مزج بين المواقف التّراجيدية التّي يذرف معها المشاهد الدّموع وقضايا وصراعات اليوم

This Is Us

قضيّة التّبني التّي تمّ التّعرض لها من خلال حكاية “راندل” ومعاناته طوال حياته من إحساسه بالغربة لكونه طفلًا أسمر نشأ وسط عائلة بيضاء، فعلى الرغم من معاملة والديه الحسنة كان دومًا يرى في عيون الناس نظرة  المختلف والذّي لا ينتمي إلى عالمهم وكيف ساهم ذلك في نوباتِ القلق الزّائد التّي عاني منها في حياته ثم ابنته من بعده.

“كيت” التّي عانت منذ صغرها من الوزن الزّائد وأثرّ ذلك على حياتها وعلى علاقتها بالأخرين، وفقدان ثقتها بنفسها، وعلاقتها المضطربة بأمّها وزوجها، وما زاد الطّين بلّه هو شعورها بالذّنب إزاء وفاه والدها وهو ما جعلها تكتسب وزنًا إضافيًا، حرب فيتنام التّي سلّطت الضّوء على معاناة الشّعوب من خلال قصة جاك وأخيه نيكي، إدمان الخمر الذّي دمّر حياة والد جاك وحوّله لشخصٍ قاسٍ تسبّب في إيذاء الكثيرين وكيف عانى جاك وكيفين من الأمر ذاته وخسرا بسببه الكثير!

صعوبات الحياة الزّوجيّة من وجهة نظر أزواج من أنماطٍ حياتيّة مختلفة، مشاكل الأخوة، فقد أقرب الأشخاص إلينا بصورة مأسويّة وانعكاسه على حياتنا، التّسامح والفرصة الثّانية والتّي ليست دائمًا سيئة..

العائلة دائمًا أولًا

إن لم تكن عائلتك على رأس أولوياتك فحتما لديك مشكلة كبيرة يجب أن تقف أمامها طويلاً!، يذكّرنا المسلسل بالحكمة الأهمّ “العائلة أولاً” التّي ضاعت مؤخرًا في غمرة الحياة وتسبّبت في فقدان لغة الحوار بين جميع أفراد الأسرة، فمن خلال ثلاثة أُسرٍ متنوّعة نتذكّر أنّ أفراد عائلتنا هم أكثرُ النّاس حبًا وتقديرًا لنا مهما اختلفنا  أو انقسمنا،أو بعدَّتنا ظروف الحياة .. لا سند لنا سوى عائلتنا!

جاك بيرسون الأب العطوف الذّي يعرف نقاط ضعف أطفاله يساندهم ويزيد ثقتهم بأنفسهم، ريبيكا الأمّ التّي على الرّغم من خلافها مع زوجها تقف بجواره في أزمته وعلى الرّغم من معاناتها  بعد وفاته إلّا أنها تماسكت ولملمت أوراقها وعادت لتدفع بعائلتها إلى برّ الأمان. الأبناء الذّين يقفون بجوار بعضهم البعض مهما اختلفوا، راندل الزوج المساند لبيث زوجته وعلى الرغم من اختلافهم أحيانًا إلّا أنّهم يجدون دومًا “باب الرجوع”، الابن الذّي يتسامح مع والده البيولوجيّ على الرّغم من تخلّيه عنه سابقًا، والأب الذّي يقف بجوار ابنتيه في أزماتهن ويتبنَّى أُخرى ليعوّضها بالحنان الغائب عنها.

كيت الزوجة والأم الناجحة، كيفين الذي اعتبره أقرب الشّخصيات لجاك وظهر ذلك جليًا في معاملته للجميع وبالأخص عمه نيكي الذّي وقف بجواره في محنته وكان خير سند له، هكذا تكون العائلة!

 لا يوجد شخص مثالي ... لكل منّا مأساته الخاصة

يذكّرنا المسلسل بأن ليس كلّ ما نراه حقيقًيًا وأنّ الصّورة التّي تراها غير كاملة إنّما هناك دومًا قطعة ناقصة لا تعرف عنها شيئًا، لا تنخدع بالشّخصيّة المثاليّة التّي لا وجود لها سوى في الرّوايات الرّخيصة فلا أحد كامل كلّنا بشر معرضون للاختيارات الخاطئة، وللحظات القسوة والتّسامح، والحب والكره،و الانهيار والقوّة، والمعاناة والدّفء .. لكلٍّ منّا مآسيه الخاصة!

فجاك الأب والزّوج المثالي الذّي خطف أعين الفتيات منذ الحلقة الأولى أدمن الخمر في لحظات ضعفه، تَحدث بينه وبين زوجته الخلافات ولم يسامح أخيه على خطأ لا يتحمّل مسؤوليّته بالكامل، أمّا ريبيكا الزّوجة المثاليّة أخفت عن ابنها “المُتبنّى” والده الحقيقيّ وأبعدته عنه لسنوات لخوفها من أن تفقده، كيت تحقد على أمّها لجسدها المثاليّ وعلى الرّغم من  حبّها لزوجها إلّا أنّ الخلافات تحدث بينهم لنفس السبب كما يشعر توبي زوجها أحيانًا بالغيرة من علاقتها بأخويها، كيفين يظنّ أنّ والدته تفضّل شقيقه عليه لذا تحدث الخلافات بينهم، يدخل في دوّامة من إدمان الخمر ويخون صوفي حبّ عمره، أمّا راندل فرغبته في السّيطرة على كافة الأمور وأن يكون كلّ شيء مثاليًا جعله أنانيًا أحيانًا وهو ما كلّفه الكثير من الخلافات مع أخوته وزوجته ومن حوله.

الفقد والعوض

القدر قد لا يكون رحيمًا بالبعض أحيانًا، يخبّئ لنا مفاجآت غير سارّة، يأخذ منّا أعزّ ما نملك، يحرمنا من أقصى ما تمنّينا إلّا أنّه يعوّضنا على الرّغم من كل شيء، هذا ما يلفت نظرنا المسلسل إليه “العوض” فمهما فقدت في حياتك تذكر دومًا أن هناك ما قد يعوضك عمّا فقدت، لن يُنسيك إيّاه ولكنّه قد يكون كافيًا بالقدر الذّي تحتاجه لتتقبل معه ما فقدت.

This Is Us

خسرت ريبيكا زوجها في عزّ احتياجها له وعاشت أوقاتًا صعبة، ووحيدة تائهة بعد رحيله فكان العوض في ميجيل صديق جاك، لم تحبّه مثلما أحبّت جاك، لم يُنسيها إيّاه ولكنّه كان الرّفقة التّي تحتاجها حينها، عانى جاك من التّفكك الأسريّ لسنوات طويلة لم يعرف فيها معنى العائلة والدّفء ولكنّ القدر كان رحيمًا به وقرّر تعويضه بأسرةٍ شعر معها بالحب الذّي فقده طوال حياته، تعرّض كيفين لحادثة خطيرة أفقدته القدرة على لعب الكرة التّي كان متفوّقًا فيها ليحوّل دفّة مساره إلى الفنّ الذّي وجد فيه ذاته بل وأصبح ممثّلاً شهيرًا وعوّضه ذلك عن فقدان حلمه، كافحت كيت رفقة مشاكل الوزن والشّعور السيء المصاحب لها بأنّها لن تجد من يحبها لكنّها دون أن تخطط عثرت على شريك حياتها الأنسب لها ليخوضا سويًا مرحلة جديدة من حياتيهما معًا، أمّا راندل فعوّضه القدر بأبٍ وأمٍّ يحبّانه بدلاً من والده الذي تركه في أيامه الأولى أمامَ محطّة الإطفاء، كما منحه بضعة أيّام مع والده البيولوجيّ قبل وفاته وكأنّها تعويض لهما على الفراق السابق، وأخيرًا نيكي خسر أخيه دون قصدٍ منه فعوّضه القدر بابن أخيه ليكون بمثابة الرّفيق الذّي احتاجه في الأيام الصعبة التي عاشها بمفرده

ختامًا

مسلسل This Is Us أثبت لنا الواقعية تربح أحيانًا والبساطة قد تكون بوابتك نحو النجاح، لا تحتاج إلى عمل خارق يحتاج المشاهدين معه لفك شفرات ألغازه المعقدة أو دراسة اللوغاريتمات وعالم ما وراء الطبيعة أو حتّى تتبّع الجرائم والمطاردات لكي تفرض نفسك وتضمن نجاحك ولكن ببضع عناصر تقليدية ولكن مميزة في نفس الوقت، مشاهد حوارية قويّة، قصص حب واقعيّة، يمكنك أن تنجح في استمالة كارهي النّوع الدّراميّ قبل حتّى محبيه! أن تحقق نجاحًا كبيرًا يجعل العمل يقفز على رأس أبرز الأعمال الدرامية التليفزيونية، تصنع عملاً يبقى في الذّاكرة طويلاً، يحفر اسمك بالبنط العريض وسط الكبار .. هذا نحن وهذه قصتنا وهذا نجاحنا!

نرشح لك: فلسفة الضياع في مسلسل Lost

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سلمى محمود

تدقيق لغوي: ديما الخطيب

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا