الثبات ضد النمو.. طريقتا التفكير اللتان تشكلان حياتنا (مترجم)

كيف نضبط المونولوج الداخلي الذي يحدد كل جوانب حيتنا، من القيادة حتى الحب؟

“إذا تخيلتَ الأقل، فالأقل هو ما ستستحقه دون شك”، هكذا نصحتْ (ديبي ميلمان) في إحدى أفضل خطب حفلات التخرج على الإطلاق[1]، قائلةً “افعل ما تحب، ولا تبرح حتى تبلغ ما تحب. اعمل بأقصى ما تستطيع، واحلم أحلامًا كبيرة”.

بعيدًا عن عبارات بوليانا [2] المبتذلة، فهذه النصيحة تعكس بالفعل ما يَعلمه علمُ النفس الحديث عن تأثير قناعاتنا عن إمكاناتنا وقدراتنا على سلوكنا وتكهنها بمدى نجاحنا. الكثير من هذا الفهم ينبع من أعمال عالمة النفس في جامعة ستانفورد (كارول دِويك)، الصادرة في كتابها “طريقة التفكير: السيكولوجية الجديدة للنجاح” (Mindset: The New Psychology of Success)، وهو بحثٌ في قوةِ قناعاتنا، الواعية وغير الواعية، وكيف يمكن لتغييرِ أبسطها حتى أن يكون له أثرٌ عميقٌ في كلِ مجالاتِ حياتِنا تقريبًا.

إحدى أكثر قناعاتنا الجذرية التي نعتنقها حول أنفسنا، حسبما اكتشفت (دويك) في أبحاثها، تتعلق بكيف نرى ونستقر مع ما نعتبره “شخصيتنا”، إن العقلية الثابتة تفترض أن الشخصية والذكاء والقدرات الإبداعية هي مواهب ثابتة لا يمكننا تغييرها بأي وسيلة نافعة، والنجاح هو تأكيدٌ لذلك الذكاء الكامن، وقياسٌ لمدى فعالية تلك الهِبات على مقياسٍ ثابت، كما أن السعي الدائم للنجاح وتجنب الفشل مهما كان الثمن أصبح طريقة للحفاظ على الشعور بالذكاء أو المهارة، وفي المقابل فإن عقلية النمو تزدهر مع التحديات، وترى الفشل لا كدليلٍ على عدم الذكاء بل كمنصة انطلاقٍ مُحفزةٍ للنمو ولتوسيع قدراتنا. من هاتين العقليتين [أو طريقتي التفكير]، واللتان تظرهان لدينا منذ عهدٍ مبكر، ينبع الكثير من سلوكنا، علاقتنا بالنجاح والفشل في المجالين الخاص والعملي، وقابليتنا للسعادة.

إن تبعاتِ الإيمان بأن الذكاء والشخصية يمكن تنميتهما، عِوضًا عن كونهما خاصيتين كامنتين غير قابلتين للتغيير، لافتةٌ للنظر؛ حسبما اكتشفت (دويك) في أبحاثها على مدار عقدين على الكبار والصغار، فتقول:

“لعشرين سنة، أظهرت دراساتي أن القناعة التي تتبناها لنفسك تؤثر بشدة على الطريقة التي تقود بها حياتك، يمكنها تحديد إذا كنت ستكون الإنسان الذي تود أن تكونه أو إذا كنت ستحقق الأمور التي تعظِّمها، كيف يحدث هذا؟ كيف يمكن لقناعة بسيطة أن تمتلك القدرة على تحويل سيكولوجيتك، وبالتبعية، حياتك؟

إعلان

الإيمان بأن صفاتك منحوتةٌ في الصخر –عقلية الثبات- تخلق ضرورةً لإثبات نفسك مرارًا وتكرارًا، إنْ كان عندك مقدارٌ محددٌ من الذكاء، أو شخصيةٌ معينة ثابتة، أو صِفةٌ أو خُلُقٌ معين، إذن من الأفضل أن تثبت أن لديك نصيبًا كافيًا منها، من العجز أن تبدو ناقصًا في تلك الصفات الأساسية.

لقد رأيت أناسًا كثيرينَ مشغولين بإثبات أنفسهم –في الفصل الدراسي، في أعمالهم، وفي علاقاتهم، كل موقفٍ يتطلبُ منهم إثباتَ ذكائهم، شخصياتهم، وخُلُقهم، كلُّ موقفٍ يتمُّ تقييمه: هل سأنجح أم أفشل؟ هل سأبدو فَطِنًا أم أحمقًا؟ هل سيتم قبولي أم رفضي؟ هل سأشعر كفائز أم كخاسر؟

هناك عقلية أخرى حيث تلك الصفات ليست مجردَ مجموعةِ أوراقٍ تُعطى إياها وعليك العيشُ معها، محاولًا على الدوامِ أن تُقنعَ نفسكَ والآخرينَ بأنك تمتلك تسلسلاً ملكيًا[3] بينهما تتوجسُ داخلَكَ بأنها ليست سوى مجموعةٍ عاديةٍ [من الأوراق]، في هذه العقلية مجموعةُ الأوراقِ التي تُمنَحُ إيّاها هي مجردُ نقطةِ انطلاقٍ للتقدمِ والنمو، عقليةُ النموِّ هذه مبنيةٌ على قناعتك أن قدراتك هي أشياءٌ تستطيع إثراءها بمجهوداتك، وعلى الرغم من أن الناسَ ستختلفُ بكلِ الأشكال الممكنة –في مقدراتهم أو مواهبهم أو ميولهم الأولية- فإن الجميع يمكنه التغيّر والنمو بطريق الممارسة والخبرة.

هل يعتقدُ أصحابُ هذه العقليةِ أن أيَّ شخصٍ يمكنه أن يصبح أي شيءٍ يريد؟ أن أي شخص بحافزٍ كافٍ أو تعليمٍ مناسبٍ يمكنه أن يكون أينشتاين أو بيتهوفن؟ كلا، لكنهم يعتقدون أن قدراتِ الإنسانِ الحقيقيةَ مجهولةٌ (ولا يمكن معرفتها)؛ يعتقدون بأنه من المستحيلِ التنبؤُ بما يمكنُ تحقيقهُ بسنوات من الشغف، والعمل الدؤوب، والتدريب.”

في القلب مما يجعل “عقلية النمو” ساحرة، حسب (دويك)، هو أنها تخلق شغفًا للتعلّم، بدلًا من حاجةٍ للشعورِ بالقبول، سِمَتها المميزة هي القناعةُ بأنَّ القدراتِ البشريةَ كالذكاءِ والإبداعِ، وحتى المهاراتِ العاطفية كالحب والصداقة، يمكن صَقلُها بالجهدِ الدؤوبِ والتدريبِ المتواصل، الأشخاص ذوو هذه العقلية لا يُحبَطون بالفشلِ وحسب، بل لا يرَونَ أنهم فشلوا في هذه المواقفِ أصلًا، هم يرَونَ أنهم تعلّموا. تقول (دويك):

لماذا تُضيعُ الوقتَ مُحاولًا، المرةَ بعدَ المرة، أن تُثبتَ مدى عظمَتِك، في حين أنه بإمكانكَ أن تتحسن؟ لماذا تُخفي عُيوبَك عِوضًا عن التغلبِ عليها؟ لماذا تبحثُ عن أصدقاءَ أو شركاءَ ليرفعوا فقط من معنوياتك بدلًا من أولئك الذين يتحدونك لتنمو؟ ولماذا تتجهُ فقط للمُجرَّبِ والمعلوم، عوضًا عن التجاربِ التي ستُوسِّعُ آفاقك؟ إن حب توسيع آفاقِك بل والتمسك بذلك، حتى (أو بالأخص) عندما لا تسير الأمور على ما يرام، هو السمةُ المميزةُ لعقليةِ النمو، هذه هي العقلية التي تسمحُ للناسِ بالازدهارِ أثناءَ أكثرِ الأوقاتِ صعوبةً في حياتهم.

هذه الفكرة بالطبع ليست جديدة؛ في الواقع إنها غذاءُ كل كتب مساعدةِ الذات وعبارات “يمكنك فعل أي شيء تريد!” المبتذلة، إن ما يجعل عملَ (دويك) مختلفًا هو أنه مبنيٌ على دراسةٍ جادة عن كيفية عمل العقل –بالأخص العقل النامي-، ولا يحدد فقط الدوافع الرئيسية لتلك العقليات بل وكيف يمكن إعادة برمجتها.

 

(دويك) وفريقها اكتشفوا أن الأشخاص ذوي عقليات الثبات يرَون الخطرَ والجهدَ كنتيجةٍ لنقائصِهم، تكشفُ كيفَ قصّروا بشكلٍ ما، لكنّ العلاقة بين نوعِ العقلية والجهد هي كطريقٍ ذي اتجاهين.

الأمر ليس فقط أن بعض الناس بطبعهم يعرفون قيمةَ تحدي أنفسِهم وأهميةَ العملِ والاجتهاد، أبحاثنا تُظهر أن هذا يأتي مباشرةً من عقلية النمو، عندما نُعلِّم الناسَ عقلية النمو، بتركيزها على التنمية فإن هذه الأفكارَ عن التحديات والجهد تأتي بالتبعية.

حينما تبدأ بفهم عقليات النمو والثبات سترى بالضبط كيف يؤدي أمرٌ ما إلى الآخر، كيف لقناعةٍ بأن صفاتَك منحوتةٌ في الصخر أن تؤدي إلى جمعٍ من الأفكار والأفعال، وكيف لقناعةٍ بأن صفاتك يمكن صقلها وتنميتها أن تؤدي إلى مجموعة أخرى من الأفكار والأفعال، آخذةً إياك نحو طريقٍ مختلفٍ تمامًا.

إن طرقَ التفكير تغيّرُ ما يعملُ الناسُ من أجله وما يرَونه نجاحًا، إنها تُغير تعريفَ وأهميةَ ووقْعَ الفشل، إنها تُغيِّرُ أعمقَ معانيَ الجهدِ والعمل.

تستشهدُ (دويك) باستبيانٍ لـ143 باحثٍ في الإبداع، والذين اتفقوا أن الصفة الأساسية التي يرتكزُ عليها الإبداعُ والإنجازُ هي بالضبط سمةُ الإصرارِ والمثابرةِ رغم الفشل التي تُعزى لعقلية النمو. تكتبُ (دويك):

عندما تدخل إلى عقليةٍ ما، فإنك تدخل عالمًا جديدًا في أحد العوالم؛ عالم الصفات الثابتة، حيث النجاحُ هو إثباتُ أنكَ ذكيٌّ أو موهوب، لإثباتِ نفسك. في العالمِ الآخَر؛ عالم الصفاتِ المتغيّرة، النجاحُ متعلقٌ بالمغامرةِ وتعلمِ أشياءَ جديدة، لتنمية نفسك.

في العالم الأول، الفشل هو التعرض لانتكاسة؛ الحصولُ على درجةٍ ضعيفة، خسارةُ بطولةٍ ما، الرفدُ من العمل، هو يعني أنك لست حَذِقًا أو موهوبًا. أما في العالم الآخَر، الفشلُ هو عدمُ التحسّن؛ هو عدمُ القيامِ إلى الأمور التي تقدّرها؛ الفشل يعني أنك لا تستوفي إمكاناتِك.

في العالمِ الأول، المجهودُ شيءٌ سيء، مثلَ الفشل، إنه يعني أنك لست ماهرًا أو موهوبًا، فلو كنت كذلك لما احتجت لبذل الجهد. في العالم الآخَر، الجهد الدؤوب هو ما يجعلك ماهرًا وموهوبًا.

لكنَّ أكثرَ أبحاثها لفتًا للانتباه، والذي أثرى نظرياتٍ حالية حول لماذا “التواجد أهم من الثناء” في تعليم الأطفال كيفية تنميةِ علاقةٍ صحيةٍ مع مفهوم “الإنجاز”، يستكشفُ كيف تُولدُ هذه “العقليات”؛ إذ يتبدّى أنها تتكوّن في مرحلةٍ مبكرةٍ من الحياة. في إحدى دراساتها المحورية، منحَتْ (دويك) ورفقاؤها أطفالًا ذوي أربعِ سنواتٍ الخيار: يمكنهم أن يقوموا بإعادةِ تركيبِ لعبةِ جيغسو (Jigsaw) سهلة، أو أن يجرّبوا واحدةً أصعب، حتى أولئك الأطفالُ الصغار توافقوا مع خصائصِ إحدى العقليتين؛ أصحاب عقلية الثبات فضلوا البقاء في الجانب الآمن واختاروا الأحجيةَ الأسهل والتي ستثبت لهم قدراتهم الحالية، مُوصِلين للباحثين إيمانهم بأن الأطفال الأذكياء لا يخطؤون، أما أصحاب عقليةِ النمو ظنّوا أن الاختيارَ غريبٌ ابتداءً، متسائلينَ لمَ سيفضِّلُ أحدٌ إعادةَ تركيبِ الأحجية نفسها مرَّة أخرى إذا لم يكن يتعلم شيئًا جديدًا! بعبارةٍ أخرى الأطفالُ ذوو العقلياتِ الثابتة أرادوا أن ينجحوا ليظهروا بمظهرِ الأذكياء، في حين أن ذوي عقلياتِ النمو أرادوا أن يجربوا شيئًا جديدًا، فتعريفهم للنجاح كان أن يصيروا أذكى.

تذكر (دويك) تعليقَ إحدى طالبات الصف السابع، والتي صوَّرتِ الفارقَ بشكلٍ رائع:

أظنُّ أنّ الذكاءَ شيءٌ عليك أن تعمل من أجله، إنه لا يٌمنَحٌ لكَ عبثًا، معظمُ الأطفالِ لن يرفعوا أيديهم للإجابة على سؤالٍ إن لم يكونوا متيقِنينَ من الإجابة، لكن ما أفعله في العادة هو رفعُ يدي، فحتى لو كنتُ مخطئةً فسيتم تصحيح خطئي، أو سأرفع يدي وأسأل “كيف يمكن أن تُحل هذه المسألة؟” أو “أنا لم أستوعب هذا، هل يمكنكِ مساعدتي؟” بمجردِ فعلِ هذا فإني أزيد من ذكائي.

الأمورُ ازدادت إثارةً عندما أحضرتْ (دويك) أشخاصًا إلى مختبرِ كولومبيا للموجات الدماغية لدراسة سلوك أدمغتهم حينما يجيبون على أسئلةٍ صعبة وحين يحصلون على تعقيبٍ على أدائهم، ما اكتشفَتْه (دويك) هو أن أصحابَ العقلياتِ الثابتة كانوا متحمسين فقط لسماع تعقيبات تتعرضُ بشكلٍ مباشرٍ لأدائهم الحالي، بينما تغافلوا عن المعلومات التي يمكن أن تساعدهم في التعلم والتحسن، بل إنهم لم يُظهِروا رغبةً في معرفةِ الإجابةِ الصحيحة عندما أجابوا إجابة خاطئة على سؤال، لأنهم قاموا بضمها مباشرةً إلى قائمة الإخفاق، في حين أصحاب عقليات النمو في المقابل كانوا مُتلهفينَ للمعلوماتِ التي تُمكنُهم من توسيعِ مداركهم وقدراتِهم الحالية، بغضِّ النظرِ عن كونِ إجاباتهم صحيحةً من عدمِه، بمعنىً آخر فإن أولويتهم كانت التعلّم، لا مصيدةَ الفشل أو النجاح.

 

 

هذه الاكتشافاتُ مهمةٌ للغاية في التعليم وكيف نقيس الذكاءَ –كثقافة جمعية-، في دراسةٍ أخرى لمئاتِ الطلبة، أعطتْ (دويك) ومعاونوها عشرَ مسائلَ تتسمُ بالصعوبةِ من اختبارِ قياس ذكاء (IQ) غيرِ شفهي، ثم أثنَوا على الطلابِ لأدائهم –أغلبهم أدّوا المسائل بشكلٍ جيد-، لكنهم قدموا نوعين من الثناء: بعض الطلبة قيل لهم “رائع! لقد حصلت على إجاباتٍ صحيحة عديدة، وهذه درجة مرتفعة بالفعل! لا بد أنك ماهرٌ في هذا!”، بينما قيل للبعض الآخر: “رائع، لقد حصلت على إجاباتٍ صحيحة عديدة، وهذه درجة مرتفعة بالفعل! لا بد من أنك عملتَ باجتهادٍ لهذا!”، بتعبيرٍ آخر البعض تم مدحهم لـقدرتهم والبعضُ مُدِحوا لـمجهودهم، هذه النتائج -حتى هذه اللحظة- كانت غير مفاجئة، لكنها كانت مقلقة.

الثناءُ على الموهبة دفعَ الطلاب مباشرةً نحو عقليةِ الثبات، وأظهروا جميعُهم علاماتٍ لها أيضًا: عندما منحناهم الاختيار، رفضوا تجربةَ مهمةٍ جديدةٍ صعبةٍ يمكنهم التعلم منها، لم يريدوا تجربة أيِّ شيءٍ يمكنه كشفُ نقاطِ ضعفِهم أو دفعُهم للشكِ في قدراتهم.

على النقيض من ذلك عندما تم الثناء على الطلاب لمجهوداتهم، أراد 90% منهم تجربة مهمة صعبة يمكنهم التعلم منها.

الجزءُ الأكثر إثارةً، على العموم، هو ما تلا هذا: أعطتْ (دويك) ومعاونوها الطلابَ مجموعةً أخرى من مسائلَ أعقدَ في المستوى، والتي لم يحلَّها الطلابُ بشكلٍ جيد كما مع سابقَتِها، فجأةً ظنَّ الأطفالُ الذين تم الثناءُ على مواهبهم أنهم، في نهاية الأمر، ليسوا أذكياء أو موهوبين كما تصوروا. تصف (دويك) هذا بشكلٍ مؤثر:

إذا كان النجاح يعني أنهم أذكياء أو موهوبون، إذن فما دونَ النجاحِ معناهُ أنهم يعانونَ من قصور.

لكن مع الأطفال الذين تم الثناءُ على مجهوداتهم، كانت الصعوبةُ مجرد إشارةٍ إلى أنهم في حاجةٍ لبذلِ المزيدِ من الجهد، لا علامةً على إخفاقهم أو انعكاسًا لذكائهم المتدني، والأمر الأهم هو أن كلا العقليتين أثّرا على مستوى استمتاعِ الأطفال؛ استمتع الجميع بالمجموعةِ الأولى من المسائلِ السهلة، التي أجاب عليها أغلبهم بشكلٍ صحيح، لكن مع كون المسائلِ أكثرَ صعوبة، الأطفال المُثنى على مواهبهم لم يعودوا يشعرون بأيةِ متعة، بينما الأطفال المُثنى على مجهودهم لم يستمروا بالاستمتاع بالمسائل الأصعب فقط، بل حتى وصفوها بأنها كلما زادت تعقيدًا زادت متعة، بل إن هؤلاء تحسَّن مستواهم مع تقدُّمِ صعوبةِ المسائل، في حينِ ظلَّ مستوى الأطفالِ الآخرين في انحدار، كما لو أنهم أٌثبطوا بسبب قناعة “إما النجاح وإما الإخفاق” خاصتهم.

الأمر يزداد تحسنًا -أو سوءًا، بالاعتماد على طريقة رؤيتك له-، النتيجة الأكثر إثارةً للقلق جاءت بعد إتمام أسئلة الـIQ، حين طلبَ الباحثونَ من الأطفالِ أن يكتبوا رسائلَ لأقرانهم ليحكو تجربتهم، مع مساحةٍ لذكرِ نتائجهم في المسائل، لصدمةِ (دويك)، الأثرُ الأكثرُ تدميرًا لعقليةِ الثبات كان عدم الأمانة؛ 40% من الأطفال الذين مٌدحوا لقُدراتهم ومواهبهم كذبوا بشأن نتائجهم، حيث ضخّموها لكي يظهروا أكثرَ نجاحًا. تكتب (دويك) في انزعاج:

في عقلية الثبات، النقائصُ معيبة -بالذات عندما تكون موهوبًا-، ولذلك كذبوا بشأنها ليمحوها، الأكثرُ إثارةً للقلق هو أننا جلبنا أطفالًا عاديين وحولناهم لكذابين، بمجرد إخبارنا لهم أنهم أذكياء أو موهوبون.

هذا يوضح الفارقَ الرئيس بين كلا العقليتين: لأصحابِ عقليةِ النمو؛ النجاحُ الشخصيُ هو اجتهادك بأقصى ما تملك لتكون أفضل ما يمكنك، في حينِ أنه لأصحابِ عقلية الثبات؛ النجاحُ هو ببساطة فرضُ تفوقِهم، هو أن تصبح ذلك الشخصَ الأهمَّ من الآخرين، لأولئك؛ فإن الانتكاسات تمثل عقوباتٍ ووصماتِ عار، أما للأوَّلين فإنها جرسُ إنذارٍ مُلهمٌ ومُعلّمٌ.

لكن إحدى أكثر التطبيقاتِ النابعةِ من هذه الدراسةِ تأثيرًا لا تقعُ في نطاقِ الأعمال أو التعليم، بل في نطاق الحب؛ وجدت (دويك) أن الناسَ يٌظهرون نفسَ تقسيمةِ الأحكام في علاقاتهم الشخصية، حيث أصحابُ عقلياتِ الثبات اعتقدوا أن شريكهم المثاليَّ سيضَعُهم على قاعدةٍ -كالتمثال- ثم يجعلهم يشعرون بالكمال، في حينِ أن أصحابَ عقليةِ النمو يُفضّلون شريكًا يُمكنه ملاحظةُ عيوبِهم وأن يساعدَهُم للعملِ عليها، شخصًا يُشجعهم على تعلُّم أمورٍ جديدة ليكونوا أُناسًا أفضل. إن عقلية الثبات كما يَتضح هي جِذرُ العديدِ من أكثرِ أساطيرنا المجتمعية المُمْرضة عن “الحب الحقيقي”.

عقلية النمو تُخبرك أن كل هذه الأمور يمكن تحسينها، كلُ شيء، بما فيهم أنت وشريكُك وعلاقتكما، قادرٌ على التحسّنِ والتغيُّر.

مع عقلية الثبات، ما يكون مثاليًا هو انسجامٌ فوريٌ، تام، ودائم؛ كأنه كان مصممًا ليبقى، على طريق “وعاشا بعدها معًا بسعادةٍ إلى الأبد”.

إحدى المُعضلات هي أنّ أصحابَ عقليةِ الثباتِ يَتوقّعون أن يحدث كلُ شيءٍ جيدٍ تلقائيًا، لا أن كِلا الطرفين سيعملُ جاهدًا لمساعدةِ نفسَيهما أو لحلِ مشاكلهما أو اكتساب مهاراتٍ ما؛ بل إن كل هذا سيحدثُ بشكلٍ سحريّ بواسطةِ حبّهما، مثلما حدثَ مع (الجميلة النائمة) التي انتهى سُباتها بقبلةٍ من الأمير، أو مثلما حدثَ لـ(سندريلا)، التي تحولت حياتها فجأة عن طريق أميرها.

هذا أيضًا ينطبق على خرافة “قراءة الأفكار”، حيث يعتقدُ ذوو عقليةِ الثبات أن الشريكين المثاليين يجب أن يتمكنا من قراءة أفكارِ بعضهما البعض، وإنهاءِ عباراتِ الطرفِ الآخَر، وتذكرُ دراسةً دعتْ أُناسًا للتحدثِ حول علاقاتهم:

أصحاب عقليات الثبات شعروا بالتهديد وبالعدوانية بعد الحديث حتى عن أصغر العيوب في علاقتهم مع شريكهم، حتى أصغر العيوب هددت اعتقادهم بأنهم يتشاركون آراء ورؤى الآخر جميعَها.

لكن أكثر الخرافات حول العلاقات العاطفية ضررًا هي الإيمانُ بأنها إن احتاجت لبعضِ الجُهد فإن شيئًا ما خطأٌ تمامًا، وأن أي اختلافٍ في وجهات النظر أو الآراء هو مؤشرٌ على نقائصٍ في شخصيةِ الطرفِ الآخَر. تُقدمُ (دويك) اختبارًا لتَقصّي الواقع:

كما أنه لا توجد إنجازاتٌ دون انتكاسات، فلا توجد علاقاتٌ دون نزاعات ومشاكلٍ على طولِ الطريق.

حين يتحدث أصحابُ عقلية الثبات عن نزاعاتهم فإنهم يَتّسِمون بإلقاءِ اللوم، أحيانًا يلومون أنفسهم، ولكن غالبًا ما يلومون شريكهم، بل ويَربطون اللومَ بصفةٍ ما -[يربطونه] بعيبٍ شخصيّ.

ولكن الأمر لا ينتهي هنا، حين يلومُ الناس شخصيةَ شريكهم على المشكلة، فإنهم يشعرونَ بالغضبِ والاشمئزازِ تُجاهه.

ويستمر الحال على ما هو عليه، بما أن المشكلة نابعة من صفاتٍ ثابتة، فلا يمكن حلّها، إذن فحين يلاحظ أصحاب عقليات الثبات عيوبًا في شركائهم فإنهم يضجرون منهم ويُمسون غيرَ راضينَ عن العلاقةِ كلها.

أصحاب عقلية النمو، في المقابل، يمكنهم تقبّل عيب شريكهم دون تلاوم، والاحتفاظ بإحساس أنَّ علاقتهم بنّاءة، إنهم يرون النزاعات على أنها مشاكل في التواصل، لا مشاكل في الشخصية أو الخُلُق، هذا السلوك يظلُّ ملازمًا لهم في صداقاتهم كما في علاقاتهم بآبائهم أيضًا. تُلخص (دويك) اكتشافاتِها فتقول:

حين يبدأُ الناس في علاقةٍ فإنهم يتعاملون مع شريكٍ مختلفٍ عنهم، في حين أنهم لم يتعلموا كيف يتعاملون مع الاختلافات، في العلاقة الصحية فإنهم يُنَمُّون هذه المهارات، وبينما هم يُحسّنونها فإن كلا الطرفين يتحسن والعلاقة تتعمق، لكن لكي يحدث هذا فالناسُ بحاجةٍ إلى أن يشعروا أنهم في نفس الجانب، وريثما تَنتُجُ لديهم حالةٌ من الثقةِ المتبادلة يُصبحون مهتمين فعلًا بتحسين بعضهم البعض.

خلاصةُ القول هو أن العقلية/ طريقة التفكير هي عملية تفسيرية عمّا يدورُ من حولنا، في عقلية الثبات فإن هذه العملية محدودة بحواراتٍ داخلية مستديمة من إطلاق الأحكام، تستعملُ كلَ معلومةٍ متوفرةٍ كدليلٍ مؤيدٍ أو معارضٍ لأحكامٍ مُعممة من قَبيل كونك شخصًا جيدًا، أو إذا كان شريكك أنانيًا، أو إن كنت أفضل من الشخصِ الجالسِ بجوارك، على الجانب الآخر فمع عقلية النمو تلك الحوارات الداخلية ليست لإطلاق الأحكام، بل إنها تصدر عن نَهَمٍ للتعلّم [والتحسن]، باحثةً عن كل المدخلاتِ التي يُمكن تطويعها في سبيل التعلم والسلوكيات البنّاءة.

في بقية كتابها “طريقة التفكير” تستكملُ (دويك) استكشاف كيف تَتكونُ هذه العقليات الأساسية، وما هي سِماتها المميزة في بيئات مختلفة من الحياة، وكيف يمكننا إعادة ترتيب عاداتنا الذهنية كي نتبنى عقلية النمو المثمرة والمساعدة على النمو.

 

[1] خطاب تخرج جامعة ولاية سان خوسيه عام 2013 (رابط) 
[2] مبدأ بوليانا: ميلُ الناس لتذكر العبارات الجيدة والمريحة أفضل من تلك المزعجة.
[3] في لعبة البوكر، Royal Flush هو تسلسلٌ متتابع من 5 أوراق تنتهي بالواحد (Ace)، وتعتبر أفضل التسلسلات في اللعبة.

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

إعداد: زياد حسنين

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا