عن القرابين (2): تقرب بكبشك رأسه فداءٌ لرأسك

كلمة القربان ككلمات كثيرة؛ تشترك لفظاً ومعنى بين العبرية والعربية، وهي مشتقة من فعل “قرب”. فالقربان هو وسيلة للتقرب من الإله (1)، كوسائل أخرى كثيرة، منها الصوم والصلاة، أو أي طقس ديني آخر؛ فكل الطقوس لا تتعدى كونها وسائل تمثيلية رمزية للتقرب من المتعالي المحتجب في بعض الديانات أو الظاهر المرموز له في ديانات أخرى، غير أن القربان مادي في طبعه، فهو يعد بمثابة هدية عينية للإله المعبود. أما كلمة sacrifice بالإنجليزية، فهي كلمة أصلها لاتيني مركب من sacer وتعني المقدس و facio أو facere وتعني يفعل، وبذلك تعني sacrifice حرفيًّا “الفعل المقدس” أو “فعل الشيء المقدس” (3) (2)، وهي تشير في أصلها للأضحية الدموية، الحيوانية أو البشرية، والفعل المقدس هنا هو التضحية بالروح المذبوحة لإرضاء الإله. ونجد أن كلمة sacrifice تحولت بعد ذلك لتشير للتضحية في جوانب الحياة العامة، وذلك في معنى أشمل بكثير من معناها المقدس القديم.

عرفت الحضارات القديمة، مثل الحضارة السومرية والبابلية والفينيقية واليونانية والرومانية وحتى المصرية القديمة، القرابين، وكانت تقدم لعدة أغراض، منها: إرضاء الآلهة وبالتالي اتقاء غضبها، أو الوفاء بالنذور، أو الشكر على النعم، أو توسل الغفران، أو فقط لمباركة الماشية أو المزروعات أو العائلة، وتنوعت القرابين بين النباتية والحيوانية وحتى البشرية في أحيان أقل.

وكانت القرابين في العصور القديمة يظهر فيها جليًّا إشارات توحي بأنها طعامٌ للآلهة؛ فكانت تُحرق الأضاحي الحيوانية أو البشرية (Sacrifice)، كما تحرق أيضًا التقدمات من الشعير والقمح وخلافه (Offering)، لتتصاعد أدخنتها للآلهة الساكنة في السماء فتشبع، أو تُسكب في الأرض على شكل قربان سائل (Libation) كالنبيذ والحليب والزيت والعسل لتروي ظمأ الآلهة الساكنة في باطن الأرض. وكانت القرابين الحيوانية تؤدى للآلهة إما بحرقها كاملة وهو ما سمي في اليونانية القديمة “بالهولوكوستوس” أو Holokaustos أي الحرق الكامل، أو الحرق الجزئي مع الاستفادة أو التبرع بجزء من الأضحية. (4)

لماذا شعر الإنسان بضرورة تحثه على تقديم القرابين؟

أما إجابةً على السؤال المُلح: لماذا شعر الإنسان بضرورة تحثه على تقديم القرابين؟ نجد أن جميع التصورات التي تبرر وتؤسس لتلك الفكرة أنثروبولوجيًّا لا تتعدى كونها تكهنات، فليس هناك سببًا قطعيًّا قد نُرجئ إليه ظاهرة القرابين في تاريخ الإنسانية. ونجد أن بعض الباحثين اتجه لفكرة أن الأضحية الحيوانية، على سبيل المثال، بدأت بشروع الإنسان القديم في استئناس وتربية الماشية، حيث كانت تُذبح الأضاحي لتأكلها القبيلة في شبه احتفالية اجتماعية تحولت بعد ذلك لطقس مقدس، وأفضل مثال على ذلك هو طقس القرابين الحيوانية في يونان القديمة، ففي ذلك الحدث كانت تذبح الأضاحي، خاصة الخنازير، في إطار طقوس صارمة ثم تُرش دماؤها على المذبح ويأكل منها الفقراء في احتفال بالشواء، ويُحرق الجزء المتبقي من الأضحية بغرض المباركة، وعادة ما كان ذلك الجزء المحروق هو دهون وجلود وعظام الحيوان المذبوح. وفي الحقيقة، لا نجد اختلافًا كبيرًا بين طقس القرابين هذا وبين الطقس المشروح توراتيًّا، والذي سنتناوله بالتفصيل في المقالات القادمة، بل نجد الطقس اليوناني متشابه حتى مع الطقس الإسلامي للأضحية فيما يختص بجزء الاحتفالية وإطعام الفقراء. (5) (6)

الإنسان القديم
جرة يونانية من القرن الخامس قبل الميلاد تصف مشهد لطقس تقديم القرابين وحرقها على المذبح

ولكن نجد أيضًا بعض الباحثين الآخرين ممن أشاروا إلى أن الأضحية الحيوانية ربما بدأت قبل ذلك بكثير مع اتجاه الإنسان القديم لصيد الحيوانات وأكل لحومها، فكان يترك جزءً من تلك اللحوم للحيوانات المفترسة المحيطة به ليتقي غضبها، مع العلم أن معظم آلهة الإنسان البدائي كانت من الحيوانات، ثم تحولت تصوراته في مرحلة تالية لتخيل وجود قوى فوقية، كأشباح أسلافه المتوفين مثلًا، فكانت تتحكم في حياته وتقبل منه تلك القرابين لتساعده وتحميه من المخاطر. وسواءٌ رأى الإنسان البدائي في الحيوانات أو في أشباح الأسلاف آلهة، ففي الحالتين كان عليه تقديم الطعام لتلك الآلهة، فإن كان هو يستمد قوته من طعامه، فبالتأكيد هي أيضًا في مخيلته تحتاج لنفس المصدر لتستمد قوتها. (7)

إعلان

وتفسيرًا للأضحية البشرية، رأى ويل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة» أن الإنسان القديم في وقت الحاجة وشُح الكلأ لجأ لأكل أخيه الإنسان فاستساغه جدًّا، بل ظن أن لحم الإنسان هو قمة أطايب الطعام، وظل ذلك التصور لدى القبائل الآكلة للحوم البشر. وبما أن القربان في شكله الأبسط هو طعام للآلهة، فربما رأى الإنسان أن أفضل ما يقدم للإله المعبود من الطعام هو الإنسان ذات نفسه، وهو أعلى مرتبة في الأضاحي أو الأطعمة، وبذلك ظهر مفهوم الأضحية البشرية، ولأن الطقوس الدينية تبقى لسنوات طوال حتى بعد تغير العادات والتقاليد، ظلت فكرة الأضحية البشرية متلازمة مع الأضحية الحيوانية على الرغم من أن البشر كفوا عن أكل بعضهم البعض. (8) (9)

ولا نجد مثالاً أكثر تعبيراً عن شعور الإنسان القديم بضرورة تقديم الأضاحي البشرية، من العادات الدينية التي ارتبطت بحضارات قارة أمريكا الجنوبية من المايا والأزتيك والإينكا. فنجد مثلا أسطورة الخمس شموس في حضارة الأزتيك التي تحكي لنا عن مجموعة آلهة تتولى القيام بدور الشمس أربع مرات وفي كل مرة يفشل واحد من تلك الآلهة وتفنى بذلك الحياة على الأرض، حتى يأتي الإله الخامس المخلص، الذي يعيد الشمس ويمنح البشرية دمه لتحيا، وبذلك يصبح إلزاماً على شعب الأزتيك تغذية ذلك الإله المخلص بالدماء البشرية ليظل مستجمعاً لقواه في صراعه مع آلهة الظلام التي إن انكسر أمامها تظلم الشمس وتفنى البشرية للمرة الخامسة، وظلت بذلك الحاجة للأضحية البشرية ملحة في أذهانهم لآلاف السنين، بل هي التضحية الأعظم لاستدامة الحياة للبشرية جمعاء..

وهنا يكمن سؤال محير، هل عندما شرع الإنسان القديم في التغذية على لحوم الحيوانات وأحيانًا البشر، فأصبح يذبحها بلا رحمة ولا شفقة، ويأكلها على الرغم من أنها تشبهه لحد كبير، وَلّد ذلك لديه حاجة لتحويل تلك العملية القاسية لطقس يتميَز بالقدسية وبالتالي الخصوصية والتفرد لإراحة ضميره؟

فنحن نعرف علميًّا أن للإنسان أخلاق تطورية فطرية تمنعه من قتل أشباهه، وليس بالسهل على الإنسان القتل ورؤية الدماء تراق إلا تحت بند أو مبرر وجيه، فتلك الفطرة هي التي ساعدت الإنسان على البقاء والعيش في جماعات، وإلا كان سيساهم بيده في إفناء نوعه. وبناءً على ذلك، ربما كان من الإلزامي في ذهنية الإنسان القديم أن يرتفع بمرتبة ذبح الحيوانات أو الإنسان من البربرية والوحشية ليصل لمرحلة الطقس المقدس؛ حتى يقوم بتلك العملية في إطار شرعي مقبول وبأريحية ودون تأنيب للضمير، على الأخص حين دخل الإنسان في مرحلة أعلى من الرقي الإنساني. فربما الطقوس الدينية التي تحيط بالذبح وضعت لتبرره أو تقننه، أو تضع سلطته في يد الكهانة.

وأدهشني مرة أني استمعت لسيدة نيجيرية تحكي عن طقس الذبح في ديانة الفودو التي تنتمي إليها، والفودو من الديانات البدائية القليلة الباقية، وكان تبريرها للذبح عميقًا جدًّا، فشرحت أن ذلك الطقس ليس بالهين ولا بالبسيط ولا بالوحشي على الإطلاق، وإنما هو أساس الحياة؛ فذلك الحيوان روح يضحي بحياته من أجل إطعامك أو مباركتك أو تكفيرًا عنك، فتمتزج روحه بروحك، بل إن روحه تذهب في هدف مقدس نبيل لتتناسخ وتعود من جديد في جسد طفل وليد. (10) (11)
ومن الملفت للانتباه أن نسمع كلامًا مشابهًا في محاضرة للحاخام إلياهو كين حين يتحدث عن القربان في اليهودية، فيشرح أن الحيوان الذبيح ليس بحيوان عادي؛ وإنما حيوان رُفعت مرتبته وتعظمت مكانته من مجرد كائن سيموت ويفنى إلى كائن مقدس مطهر، يدرك تمام الإدراك الهدف الذي يُذبح من أجله. ولأن الماشية هي الأقرب للإنسان تشابهًا فهي الأقدر على فدائه، فاللحم مقابل للحم، أو لحمك الخاطئ مقابل لحم الحيوان الطاهر الذي يُراق دمه ليطهرك أو يطعمك، وليس في ذلك وحشية؛ بل إعلاء لقدر الحيوان وتكريمٌ له لارتباطه بخدمة الإنسان. (12) الدقيقة 38

وحتى تلك الفكرة على تعقيدها نجدها موجودة في الحضارات القديمة مثل الحضارة السومرية؛ حيث يذكر ويل ديورانت في كتابه السالف ذكره أن في الخرائب السومرية وُجدت لوحة كُتب عليها نذر يقول: “إن الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته” (13) ونجد في نسخة أخرى من نص اللوحة: “إن الحَمَلَ بديلٌ عن الإنسان، يقدم الإنسان الحَمَلَ فداء حياته، تُقدم رأس الحَمَلِ مقابل رأس الإنسان” (14) ونذكر هنا عبارة الحاخام إلياهو كين السالف ذكرها “اللحم مقابل اللحم”، فنجدها تتطابق مع تلك العقيدة السومرية القديمة، بل نجدها شبيهة لجميع تصورات الفداء في المسيحية والإسلام، فالمسيح هو حمل الله، الذبيحة الكاملة (يوحنا 29:1 )، والكبش كان فداءً لابن إبراهيم الخليل (الصافات 107).
ويرى ويل ديورانت أن استبدال الإنسان بالضأن أو الحمل يرجع لعادة تقديم القرابين البشرية، التي حين اندثرت أصبح الإنسان يستعيض عن تقديم نفسه أو أخيه كقربان بتقديم حيوان يفتدي الإنسان، وبذلك تظل عادة القرابين لديه تدور في محور كونها طعام للآلهة، سواء كان بشري أو حيواني. (15)

أما حرق الأضحية فكان في الحضارات القديمة، ومازال، الوسيلة الوحيدة المضمونة لتوصيل القربان للآلهة الغير مرئية؛ فمع الحرق تصعد الرائحة مع الأدخنة للسماء، وتتلقى الآلهة بذلك ما قُدم إليها بشكل أثيري، فتختفي الأضحية من على الأرض رويدًا رويدًا، حتى تحترق عن آخرها، وبذلك تكون قد عبرت كلها إلى السماء؛ وكأننا بحرق الذبيحة استخلصنا خلاصتها أو روحها وصعدنا بها للسماء فأصبحت هي وسيلة الاتصال بين الإنسان والإله المعبود، عن طريقها يتقرب له، وبذلك فهي قربان. ونجد هذا المعنى واضح في طقوس حرق الأضاحي في اليونان القديمة، وفي النص البابلي الخاص بأسطورة جلجامش، وفي نص التوراة أيضًا، فالرب يرضى توراتيًّا حين تصله رائحة شواء الأضحية وبهذا يُتمم طقس القربان، وسأناقش ذلك تفصيلًا في المقالات القادمة. (16)

نقش من الحضارة الرومانية يصف طقس التقدمة والقربان الحيواني، حيث نجد سيدة تحمل في يدها تقدمة من الطعام ونجد ثور يستعد الكاهن لذبحه

ومن الملفت للانتباه هنا أن كلمة “روح” في العبرية هي “روخ” أو ruach، وتعني أيضًا ريح أو هواء أو تنفس (17). وكذلك في العربية، فمادة “ر و ح” في لسان العرب نجد أنها أيضًا تتحدث عن معانٍ مرتبطة بالريح والهواء والتنفس (18)، والروح في نهاية الأمر سواء توراتية أو قرآنية، هي نفخة إلهية. وبهذا يظهر لنا أن النار في حرق القرابين ربما لم تكن إلا وسيلة الإنسان لتحويل القربان المادي لوسيط أثيري أو روحي يصعد مع الهواء للإله المعبود. (19)

وقد نحتد إيمانيًّا بقولنا أن ارتباط القرابين بالحضارات القديمة ثم اليهودية من بعدها هو أمر منطقي ومتسق مع المعتقد الإبراهيمي، إذ أن قابيل (أو قايين) وهابيل عرفا القرابين منذ بدء الخليقة، بل أن البعض يصر أن الرب في الحكاية التوراتية كان هو أول من قام بذبح شاة ليعطي آدم وحواء جلدها ليسترهما به، في الإشارة لآية في بدايات سفر التكوين تقول: “وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلهُ لآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا” سفر التكوين: 3 21

فمن الطبيعي إذًا طبقًا لوجهة النظر الدينية أن تكون القرابين جزءً هامًّا من التصورات البشرية عن الآلهة عبر الزمن، فمصدرها اليهودية كأقدم الديانات السماوية، وبذلك ينتفي الغرض من البحث كليًّا. وليكن يا أخي المؤمن، لكن هذا لا ينفي أن القرابين كانت ومازالت جزءً لا يتجزأ من معتقدات العالم بأسره، وأنها مرت بمراحل تطور، واشتبكت وتشابهت بين الأديان القديمة والأديان الإبراهيمية الثلاثة، أو ما يطلق عليه اصطلاحًا في الشرق الأوسط “الأديان السماوية”، وما يُعرف علميًّا بالأديان التوحيدية أو Monotheistic  Religions، فلفظة السماوية في الحقيقة غير دقيقة ولا تتسم بالحيادية العلمية على كثرة استخدامها، وذلك ببساطة لأن جميع أديان العالم تدعي السماوية، وبذلك يتضح لنا أن كنية السماوية هي كنية إيمانية وليست علمية أو حتى دالة. ولذلك علينا مراعاة الحيادية العلمية حين نتحدث عن ظاهرة متجذرة كالقرابين، والتي يجب دراستها أنثروبولوجيًّا كظاهرة إنسانية عامة وليس من وجهة نظر ديانة بعينها، حتى وإن اتصفت بالسماوية من التابعين لها. (20)

أما ذكر القرابين في التوراة فيبدأ من سفر التكوين، حيث تقبل الرب يهوا قربان هابيل الراعي ولم يتقبل قربان قابيل المزارع، فقتل المزارع الشرير الراعي الطيب، (21) ولا تختلف القصة الإسلامية كثيرًا. وقد يستوقفنا هنا حقيقة أنثروبولوجية موثقة حفريًّا وهي أن الإنسان لم يعرف الزراعة أو حتى الرعي إلا في عصور متأخرة من تاريخ البشرية، بالتقريب منذ عشرة آلاف سنة، فقد بدأ الإنسان الحالي أو الهوموسابيان منذ حوالي مائتي ألف عامًا ويزيد حياته بجمع الثمار (22)، ثم في مرحلة لاحقة الصيد، ثم في مرحلة متأخرة اكتشف الزراعة والرعي. (23) أي أن الهوموسابيان قضى ما يزيد عن مائة وتسعين ألف عامًا من تاريخه الإنساني من دون أن يعرف شيئًا عن حرفتي الزراعة والرعي. (25) (24)

صورة متخيلة لتقديم القرابين في الهيكل اليهودي وحرقها على المذبح

كيف إذًا نتعامل مع تلك الحقيقة بالمقارنة بالنصوص الدينية التي تخبرنا أن البشرية انسلت من أبناء عائلة كانت تعرف الرعي والزراعة من يومها الأول، بل أن أول جريمة قتل حدثت في تاريخ البشرية كانت بين راعٍ ومزارع؟! ولذلك نجد أن الكثير من الاتجاهات الدينية أصبحت تعتمد التأويل الرمزي في التعامل مع تلك النصوص المؤسسة للديانة الإبراهيمية؛ لصعوبة دمجها مع الكثير من الاكتشافات العلمية. علمًا بأننا نجد أيضًا بعض التأويلات التحليلية لتلك القصة التي تتحدث عن صراع الراعي والمزارع، والتي تشبه لحد كبير الأسطورة السومرية لإيميش الراعي وأنتين المزارع حين أحدما عند الإله إنليل، ففضل الإلهُ المزارعَ على الراعي، وها هو النص التوراتي يفضل الراعي على المزارع؛ وذلك ربما لأن القبائل العبرية أصلها رعوية، ووجهة النظر تلك مشار إليها في كتاب مغامرة العقل الأولى للكاتب فراس السواح. (26)

نجد في الختام وبعد تلك الرحلة القصيرة في الزمن الإنساني الطويل أن ظاهرة القرابين ربما هي إنسانية أكثر منها عقائدية مرتبطة بهذا الدين أو ذاك، بل نجدها تتمحور كلها حول محاولة للتقرب من المتعالي المحتجب بتحويل المادة المقدمة لرمزية أثيرية تصل للسماء، فيُرضى عن المساكين ممن يبتغون العون والسند والعناية. هي ظاهرة نابعة من نوازع إنسانية واحدة، منها الخوف من المجهول، التوق للأمان النفسي الذي قد يتولد عن توهم التحكم في الغيبيات، رغبة في إصباغ القتل بصبغة مقبولة وجدانيًّا لإسكات الضمير المعذب، محاولة للتواصل مع من في السماء، أو حتى ظاهرة اجتماعية احتفالية مرتبطة بالالتفاف حول الطعام. كلها أهداف متكررة مرتبطة بالتجربة الإنسانية، تعامل معها الإنسان بطريقة متشابهة، فتولد عنها شعور إنساني متقارب، ذلك الشعور الذي تشعر به حين تتقدم بقربانك، بأضحيتك أو تناولك.

عن القرابين (1): اليهودي والديك

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: تسنيم محمد غالي

اترك تعليقا