الشيطان يزور موسكو مراجعة رواية المعلم ومارغريتا لـ بولغاكوف

المعلم ومرغريتا الشيطان يزور موسكو لميخائيل بولغاكوف

يبدو أن علينا أن نشكر بعض الطغاة، لا سيما ستالين! شكرًا مشفوعًا بسيل جارف من اللعنات أيضًا، عسى أن يحمله الشيطان حين يزور موسكو مجددًا‪.‬
هاهو بولغاكوف مؤلف رائعة (المعلم ومارغريتا) يرفع سماعة الهاتف، ومن الجهة المقابلة يأتيه صوت ستالين المعجب بأعماله ومسرحياته المناوئة للثورة البلشفية، تناقض يضاف إلى سلسلة لا متناهية من تناقضات ذاك الطاغية‪.‬
يأتي الرفض صريحًا لبولغاكوف، فلا يسمح له بمغادرة الاتحاد السوفياتي ومازالت تتردد في أذنه تلك المكالمة:

– إنكم يا سيدي تدفنونني حيًّا، حين ترفضون نشر أعمالي.‬
-‪ ‬ستعمل إذا في إدارة مسرح موسكو‪.‬
يغلق بولغاكوف الهاتف، ويفكر مرارًا، كيف له أن يبدع في بلد يعدّ عليه أنفاسه! كيف له أن ينجو من مقصات الرقيب العديدة، دون أن تطيح برقبته، كمصير غيره من الأدباء الذين سحقتهم قبضة الرقيب الحديدية، وجعلتهم عبرة لمن يعتبر‪!‬

في ظل هذا الجو الخانق فكر بولغاكوف بكتابة رواية بأسلوب مختلف؛ بواقعية سحرية سوفياتية في ثلاثينات القرن العشرين، وليحمي رقبته من حبل المشنقة، وظّف بولغاكوف البعد الأسطوري والميثولوجيا الدينية، ليسقط رموزها على واقعه السوفياتي البائس، فأبدع رائعته الخالدة (المعلم ومارغريتا) بعد كتابة أربع مسودات على مدى عشر سنوات. ولكننا لن نغفر لستالين ولا لكل الطغاة -رغم شكرنا المتهكم- فقد أستغرق الأمر ٢٦ عامًا لترى هذه الرواية النور بعد موت صاحبها، وبعد أن بتر منها ١٢٪؜ بمبضع الرقيب السوفيتي! وبعد أكثر من عقدين، أي في عام 1987 نشرت نسختها الكاملة لأول مرة!

تعج الرواية بمشاهد تصويرية بصرية مدهشة، أقرب للعروض المسرحية. كنت أتوقف أثناء القراءة وأتساءل، هل يمكن أن يقاوم مخرج مولع بالتفاصيل تجسيد هذا العمل على شاشة السينما! كيف يمكنه أن يستمر بالقراءة دون أن تتبادر إلى ذهنه خطة تحويل هذه اللوحات التصويرية النابضة بالحب، والموت، والدماء، والغرائبية: من مشهد قطة تقطع تذكرة لركوب الحافلة، إلى مشهد هيلا مصاصة الدماء، إلى مشهد الحفل في حضرة الشيطان فولند، حين يبعث الموتى من قبورهم، ويتراقصون؟! بل هل يمكن أن ننسى عرض السحر الأسود الذي قدمه عزازيلو وفولند وبيهموث على المسرح!!! وكيف أمطرت قبة المسرح روبلات، وتحولت الملابس القديمة إلى آخر صراعات الأزياء، وتدافعت النسوة لاختطاف زجاجات عطور شانيل، وغيرلان، ميتسوكو! وبعد انتهاء العرض، تلاشت تلك الملابس وخرج الجميع عراة‪!!‬

تعكس هذه المشاهد، إدانة واضحة لتلك الأكاذيب التي ادعت أن الاشتراكية قد غيرت من طبائع البشر في حب المال ومحت الجشع‪.‬
تتقاطع الخطوط الزمنية والمكانية التي نسجت بنية الرواية بين القدس وموسكو، القدس في عهد حاكم اليهودية الخامس (بيلاطس البنطي) الذي قدم المسيح للمحاكمة، وأمر بصلبه -حسب الموروث الديني المسيحي- وبين الاتحاد السوفيتي في ثلاثينات القرن العشرين‪.‬

إعلان

تتنقل الأحداث بينهما، ويتصدر المشهد فولند والذي يعني اسمه بالألمانية (الشيطان) وحاشيته التي تمثل رموزًا ميثولوجية دينية: عزازيلو والذي يرمز إلى (عزرائيل: الموت) وبيهموث (القط الضخم) وهو مخلوق أسطوري، ورد ذكره في سفر أيوب، وكوخروفييف، الذي وصفه بولغاكوف بالمشعوذ، والمرتل، والمترجم، والساحر.

هذه الحاشية تمثل ثورة على كل القيم الدينية، فهاهنا سنرى الشيطان وحاشيته بوجه آخر غير الذي أعتدنا عليه، الشيطان وحاشيته هم من سينقذون المعلم ومارغريتا، وهم من سيقتصون من الفاسدين، أصحاب المراكز الإدارية. فهل الشيطان قد أمسى فيه من الخير أكثر من الطغاة! هل شياطين الإنس من الظلمة والفاسدين قد تفوقوا في عبقرياتهم الشريرة على الشيطان نفسه، مما أغضبه وجاء يقتص منهم في موسكو! أبعد هذا الهجاء المبطن هجاء‪!!‬
لكن من هم هؤلاء الفاسدون الذين اقتص منهم الشيطان في زيارته لموسكو؟

لا تكتمل أركان الفساد في الدولة إلا بوجود حاشية متنفذة تسيطر على المناحي الثقافية والفكرية والإعلامية، تبرر للطغاة فسادهم وتضفي شرعية على ظلمهم مُكللةً طغيانهم بأشعار تمجيديه، وعروض مسرحية.
لا يسود الظلم السياسي بمعزل عن الفساد الاقتصادي، حيث تحتكر فئة دون غيرها موارد الدولة، بينما يرفل باقي الشعب في أسمال الشقاء البالية.

تفرغ الشيطان في روايتنا للعصبة الفاسدة ممثلة برئيس الرابطة الأدبية (الماسوليت) السيد براليوز، والشاعر ايفان الذي كان يكتب أشعارًا رديئة في مدح الحزب، ثم تتتالى الأحداث الانتقامية السوريالية (الغرائبية) التي يقوم بها فولند (الشيطان) من مدير المسرح المالي والمدير الإداري والمدير الفني ومدير لجنة السكن، والمسؤول عن الأجانب في موسكو. يعلو صوت حاشية الشيطان منتقدًا أعوان السلطة: “إنهم، إنهم عمومًا باتوا يتصرفون كالخنازير في الآونة الأخيرة، يثملون، يقيمون علاقات مع النساء، عبر استغلال مناصبهم، ولا يقومون بأي شيء لأنهم لا يفقهون شيئًا فيما عُهد به إليهم، إنهم يذرون الرماد في عيون الناس.. ويستخدمون سيارات الحكومة عبثا‪!‬”

تتقاطع أحداث الرواية في موسكو مع أحداثها في القدس، فيشوع الغناصري (يرمز للمسيح) قد صلب ظلمًا، ولم يقف أحد أمام من ظلمه! حتى بيلاطس نفسه يسأل رئيس الكتيبة التي نفذت حكم الصلب: ألم يعترض أحد؟! ألم يسعَ أحد لإنقاذه؟‪!‬
كيف يمكن للجبن أن يصل بالناس إلى هذا الحد‪!‬
كان بيلاطس نفسه مدركًا أن حكمه جائر، وأن يسوع لا يستحق الصلب، ولكنه أيضًا جبن وخاف على مكتسباته، فلا حاجة به ليقع فريسة لمكر اليهود، وأهدر دمًا، كان يثق بطهره وبراءته‪.‬

هل يختلف الأمر حقًا عما حدث في موسكو، حتى وإن كان الفارق الزمني هو ألفي سنة!؟‪ ‬هل نحن أمام فلسفة (العود الأبدي) التي تحدث عنها نيتشه؟ تكرار دائم للخذلان؟
الجبن هو سيد الرذائل بلا منازع، والبطل الوحيد الذي حاول أن يشير للظلم هو المعلم، لكنه أحرق مخطوطة روايته، وهنا تتقاطع أحداث الرواية مع بولغاكوف نفسه، فهو قد أحرق المخطوطة الأولى لروايته، ثم عادت فكرة الرواية تُلِحُّ عليه، فأعاد كتابتها مرارًا، فالمخطوطات لا تحترق كما قال (فولند) فكيف يمكن أن يتجاهل الكاتب فكرة هي محور حياته؟

تبدو في رواية المعلم ومارغريتا مفارقةٌ مدهشة، تعكس فلسفة: (إن بعض الخير يستلزم بعض الشر) وأن لا معنى للخير بدون وجود الشر، فالأشياء تعرف بضدها‪.‬
فمن أنقذ مخطوطة رواية المعلم! إنها مارغريتا، لكن مهلًا، ولنكن أكثر دقة، فالشيطان وحاشيته هم من منحوا لمرغريتا قدرات سحرية، وطارت على عصا خشبية عارية في سماء موسكو، معربدة، ناقمة، بطيش جنوني، وانتقام وحركات صبيانية، حتى وصلت لحفل الشيطان الراقص ورافقته في أمسيته! فهل باعت مرغريتا روحها للشيطان لتلتقي بحبيبها؟ هل الشيطان ها هنا، كان أرحم من البشر! التأويلات مفتوحة على كل المستويات في هذه الرواية. فالنزعة السوريالية في الرواية تفتح آفاقًا لا حصر لها في فك شيفرة النص، وإعادة إنتاجه في المخيال القرائي والسينمائي، فنحن بانتظار فيلم روسي ضخم جديد في عام ٢٠٢١، بعيون المخرج الروسي نيقولاي لبييديف، ليعيد إنتاج الرواية مستفيدًا من التقنيات السينمائية الحديثة‪.‬

قد يكون الشيطان قد زار موسكو سابقًا، لكنه ولا ريب قد استقر في بلادنا مؤخرًا‪!‬
‪‬

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: رائدة نيروخ

تدقيق لغوي: ندى حمدي

اترك تعليقا