الإسلام في العالم المسيحي: الانتشار من خلال غرف النوم

هناك القليل من التحوّلات في تاريخ البشرية أكثر عمقًا من تحوّل شعوب الشرق الأوسط إلى الإسلام. فبدءً من العصور الوسطى المبكّرة، توسّعت العملية عبر القرون متأثّرةً بعوامل متنوّعة، كالفتوحات، والدبلوماسية، والإقناع، والإكراه، والمصالح الذاتية. إلّا أن هناك عاملًا يُغفل عنه عادةً، لكنه يلعب دورًا جوهريًّا في نشأة مجتمع إسلامي متميّز، ألا وهو الروابط المختلطة بين المسلمين وغير المسلمين.

لمدّة طويلة من الفترة الإسلامية المبكّرة، كان الاختلاط بين المسلمين وغير المسلمين قائمًا إلى حدّ كبير على عدم توازن أساسي في السلطة؛ إذ شكّل المسلمون نخبة أقلّيّة حاكمة، نزعت إلى استغلال موارد الشعوب المغلوبة والتناسل… إلخ، كي تزداد حجمًا وترسّخ جذورها بين السكّان المحليين. في ضوء هذا، كان التحوّل القصري عاملًا أقلّ تأثيرًا في المدى البعيد على التغيّرات الدينية، بالمقارنة مع ممارساتٍ كالزواج المختلط والتسرّي.

تبلورت القواعد المُنظِّمة للعوائل المختلطة دينيًّا في وقتٍ مبكّر نسبيًّا، على الأقل عند الجانب المسلم. حيث يسمح القرآن للرجال المسلمين بالزواج حتى أربع نساء، بما في ذلك نساء “أهل الكتاب” من مسيحيات ويهوديات؛ بينما لا يُسمح للنساء المسلمات بالزواج من رجال غير مسلمين، وبناءً على الأدلّة التاريخية، يظهر الالتزام بالمنع. ينطوي التحريم على فهم للزواج باعتباره شكلًا من أشكال استعباد النساء؛ إذا كانت علاقة المرأة بزوجها كعلاقة العبد بسيّده، فلا يمكن “للمرأة المسلمة” الخضوع لكافر.

بعيدًا عن الزواج، شهدت فتوحات القرنين السابع والثامن أعدادًا هائلة من العبيد المأسورين عبر شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. كانت السبايا غير المسلمات غالبًا ما يُجبرن على الخدمة الجنسية لأسيادهن المسلمين، والعديد من هذه العلاقات نتج عنها أطفالًا.

وبما أنّ الرجال المسلمين كانوا أحرارًا في الاحتفاظ بما شاءوا من الجواري، كانت ممارسة الجنس مع اليهوديات والمسيحيات تعتبر مشروعة، بينما ممارسة الجنس مع الزرادشتيات وغيرهن من غير “أهل الكتاب” محرّمة تقنيًّا. فهم في النهاية اعتبروا وثنيين، ينقصهم كتاب إلهي مقدّس معتبر يكافئ التوراة أو الإنجيل. لكن بما أن العديد من السبايا في الفترة “الإسلامية” المبكّرة جئن من تلك المجتمعات “المحظور الزواج من نسائها”، فقد طوّر الفقهاء المسلمين حلولًا ملائمة. على سبيل المثال، جادل بعض كتّاب القرن التاسع في إمكانية حثّ النساء الزرادشتيات أو حتى إجبارهن على التحوّل، وبذلك يصبحن متاحات لممارسة الجنس.

إعلان

وسواء كانوا نتاج زواج أو استرقاق، فإن أطفال الزيجات المختلطة دينيًّا يعتبرون مسلمين تلقائيًّا. ويحدث أحيانًا تحوّل الرجال المسيحيين بعد بدئهم تكوين أسرٍ بالفعل، وإذا حدث تحوّلهم قبل بلوغ أطفالهم سنّ الرشد القانوني (سبع أو عشر سنوات بحسب مذاهب الفقه الإسلامي)، فعليهم اعتناق إيمان آبائهم، أمّا إذا حدث تحوّل الآباء بعد ذلك السن فيحقّ للأطفال الاختيار. وبإمكان الأمّهات البقاء على يهوديتهن أو مسيحيتهن، حتّى مع تغيير الآباء والأبناء لديانتهم، وهو ما ضمنته لهن الشريعة الإسلامية.

سمح الزواج المختلط والتسرّي للمسلمين- الذين شكّلوا نسبة ضئيلة من السكّان في بدايات التاريخ الإسلامي- بالاندماج السريع مع رعاياهم، وإضفاء الشرعية على حكمهم للأراضي المفتوحة حديثًا، ومساعدتهم على النمو من حيث العدد، كما وكفلا الاختفاء السريع للأديان الأخرى من شجرات أنساب العائلات. في الواقع، ونظرًا للقواعد التي تحكم الهوية الدينية للأطفال، فقد لا تدوم مجموعات القرابة المختلطة لأكثر من جيل أو جيلين. كان هذا الاحتمال بالاندثار تحديدًا هو ما دفع الزعماء غير المسلمين من حاخامات يهود وأساقفة مسيحيين وكهنة زرادشتيين إلى الوقوف في وجه الزواج المختلط، ووضع قوانين تهدف إلى إعاقته. ولأن المسلمين كانوا من النخبة، ممّن تمتّعوا بإمكانية وصول أكبر إلى الموارد الاقتصادية بالمقارنة مع غير المسلمين، لذا فربّما كانت معدّلات الخصوبة عندهم أعلى.

بالطبع، لم تكن النظرية والواقع على خطٍّ واحدٍ دائمًا، فأحيانًا لم تحترم العوائل المختلطة دينيًّا الأحكام التي وضعها الفقهاء. واحدٌ من أغنى الأدلّة على مثل هذه العوائل، هو السيَر الذاتية للشهداء المسيحيين في الفترة الإسلامية المبكّرة؛ وهم جماعةٌ غير معروفة تشكّل موضوع كتابي “الشهداء المسيحيين في ظلّ الإسلام”. أُعدم عددٌ كبير من هؤلاء الشهداء على جرائم كالردّة والتجديف، وعددٌ ليس بالقليل منهم ينحدر من عوائل مختلطة دينيًّا.

وخير مثالٍ على ذلك، هو باخوس الذي استشهد في فلسطين عام 786م (حوالي 150 سنة بعد وفاة النبي محمّد). ولد باخوس، الذي سُجّلت سيرة حياته باللغة اليونانية، لعائلةٍ مسيحية، لكن والده تحوّل في مرحلة ما إلى الإسلام، وبالتالي تغير ديانة أطفاله أيضًا. كانت أمّ باخوس شديدة التعاسة لما وقع، وصلَّت لأجل عودة زوجها إلى «المسيحية»، وأثناء ذلك، يبدو أنّها أطلعت أطفالها المسلمين على العادات المسيحية. توفّي الأب في آخر الأمر، تاركًا باخوس حرًّا كي يصبح مسيحيًّا. ومن ثمّ، عُمِّد ورُسِّم كاهنًا، ممّا أثار غضب وحنق بعض أقاربه المسلمين، فاعتقلوه وقتلوه.

مثالٌ مشابه يطلّ علينا من قرطبة- عاصمة إسبانيا الإسلامية-، حيث استشهد 48 مسيحيًّا ما بين عامي 850 م و859 م، وأُحييت ذكراهم في مدوّنات باللغة اللاتينية. ولد العديد من شهداء قرطبة لعوائل مختلطة دينيًّا؛ لكن مع تطوّرٍ مثيرٍ للإهتمام، إذ عاش عدد منهم كمسلمين في العلن واعتنقوا المسيحية في الخفاء. في معظم الحالات، يبدو أن هذا قد حدث بدون علم آبائهم المسلمين، ولكن في حالة فريدة لشقيقتين، يُزعم وقوعها بموافقة والدهما. فكرة امتلاك المرء لهوية قانونية عامّة كمسلم، وأخرى روحية خاصّة كمسيحي، نتج عنها ثقافة ثانوية فريدة من “المسيحية المستترة” في قرطبة. امتدّ هذا الفعل على مدى عدّة أجيال، يغذّيه نزوعُ بعض “المسيحيين المستترين” للبحث والزواج ممّن يشابهونهم.

أصبح الزواج المختلط [دينيًّا] غير شائع في الشرق الأوسط الحديث. أحد أسباب ذلك هو نجاح الأسلمة طويل الأمد، بحيث أصبح هناك مسيحيات ويهوديات أقلّ في محيطهم للزواج منهن. أمّا السبب الآخر، فهو النجاح الجزئي لتلك الجماعات اليهودية والمسيحية المتواجدة اليوم في العيش وسط بيئات متجانسة بدون المسلمين، أو من خلال وضع قوانين طائفية (خاصّة بطائفة) تعاقب الزواج من خارج [الطائفة] بشدّة. وبعكس عالم اليوم، حيث بالإمكان إغلاق الحدود بين المجتمعات، كان شرق أوسط العصور الوسطى عالمًا من الحدود الملأى بالثغرات المدهشة، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بغرف النوم.

قد يعجبك أيضًا: الله الواحد الكثير: أَمْوَاجُ الألوهة في العَالَم

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا