قهوة الفيشاوي

بينما تسير بين حارات ضيقة، في حي الحسين، -أشهر وأعرق وأقدم أحياء القاهرة القديمة- وفجأة، تسمع صوتًا لموسيقى على العود الشرقي تأخذك معها إلى حيث تجد نفسك أمام مقهى “الفيشاوي” الذي يقع في شارع ضيق في سوق خان الخليلي بالقاهرة الفاطمية، تحيط بالمقهى محلات العطور والبازارات ومطاعم الأكل المصري، وسواء كنت جالسًا على المقهى أو في طريقك للجلوس عليه، فقبل أن تشم رائحة الشيشة والنعناع الأخضر، ستشم أيضًا رائحة البخور العربي الذي يباع في المحلات المجاورة، وسوف تجذبك ألوان الملابس المزركشة على واجهات المحلات كنوع من العرض والترويج، وسيلفت انتباهك ذلك التناسق بين مئات (المسابح) داخل واجهات المحلات.

بداخل المقهى، تجد “الفيشاوي الكبير” ينظر إليك ويرحب بك، من خلال صورة ضخمة -وضعت في إطار- وهو يمتطي جوادًا يختال به فخرًا، حيث يومئ “الفيشاوي” إلى ناظره بالنظر في مرآة عتيقة تأخذ جانبًا كبيرًا من المقهى، أبدع صانعها في تزيينها بالأرابيسك النادر، تشد الناظر إليها فيتأملها من جوانبها الأربعة، ولكل جانب منها عبق كلاسيكي مميز يعكس شكلًا آخر لمرآة أخرى وضعت في آخر الممر، توهم الجميع أن هناك ممرًا آخر، حتى تصطدم بها فتتوقف لتتأملها، فهي عبارة عن أثر تاريخي يندر وجوده، جميل في تأمله رائع في تصميمه.

تلتفت يمينًا أو يسارًا، فتجد أمامك مشربية خشبية، ومقاعد بنيّة اللون، وموائد خشبية مرصعة بالصدف والأرابيسك، وبعض الركنات التي يكسوها فرش عربي أصيل، ومُعلق بالسقف نجف ومرايات مبرّزة بالخشب، يحكي كل جزء أصالة وعراقة المقهى.

بالإضافة إلى غرفة صغيرة أشبه بمتحف أو أثر معماري، اعتاد الجلوس بها الأديب نجيب محفوظ، تحوي بداخلها مرآة ثلاثيةٌ فريدة، وساعة حائط كبيرة، يرجع تاريخها إلى العصر التركي، إلى جانب راديو أثري قديم، بالإضافة إلى نجفة ضخمة -يرجع تاريخها إلى عام 1800م- تزين هذه الغرفة، ولا يستطيع أحد دخول الغرفة أو الجلوس بها، إلا لمن اعتاد التردد عليها.

وفي أعلى سقف الغرفة تجد قناديل تفنَّنَ الصانع في إبداعها، وأضفت على الغرفة مزيدًا من الرهبة والإحساس الرفيع بالأصالة في الصنع والجمال في الرؤية.

إعلان

في قهوة الفيشاوي ترى الناس على اختلاف أجناسهم يجلسون وأمامهم صينية نحاس وعليها برادٌ نحاسيّ أزرق تفوح منه رائحة الشاي بالنعناع الأخضر الطازج، ودخان الشيشة “الأرجيلة” التي يشتهر بها المقهى العريق.

عند وصولك إلى هذا المكان تتنفس عبق التاريخ، وترتسم في مخيلتك صورة الأديب العالمي “نجيب محفوظ”، فالأديب أحبَّ المكان، وكتب فيه الكثير من مُسوّدات كُتبه ورواياته. فللأديب مكانة خاصة في المكان، وللمكان قداسة عند الأديب.

البداية كانت منذ أكثر من مائتي وأربعين عامًا وتحديدًا في عام 1797م ـوفق معظم التقديرات-. حيث كان هناك رجل يُدعى الحاج “فهمي الفيشاوي”، والذي لُقّب آنذاك بـ”فتوة الجمالية”، بدأ في تقديم القهوة  فقط إلى أصدقائه والزائرين لمنطقة الحسين في زقاق حي خان الخليلي مساء كل يوم بعد صلاة العشاء، ببوفيه صغير، حتى استطاع أن يشتري المتاجر المجاورة له، ويحولها إلى مقهى كبير ذي ثلاث غرف.

الغرفة الأولى: غرفة “الباسفور”، وهي مبطنةٌ بالخشب المطعم بالأبنوس، ومليئةٌ بالتحف والكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، وأدواتها من الفضة، والكريستال، والصيني، وهذه الغرفة كانت مخصصةً للملك “فاروق” للسهر فيها خلال شهر رمضان الكريم.

والغرفة الثانية: غرفة “التحفة”، وهي مزينة بالصدف، والخشب المزركش، والعاج، والأرابيسك والكنب المكسو بالجلد الأخضر، وهي الغرفة الخاصة بالفنانين.

والغرفة الثالثة: غرفة “القافية”، وتلك الغرفة كانت لعامة الناس، وفي الخميس الأول من كل شهر في أوائل القرن العشرين اعتادت “صالة القافية” بـ”مقهى الفيشاوي” أن تستقبل العديد من الأشخاص من مختلف أنحاء مصر القديمة، يتجمعون في حلقات -على أن يتركوا مساحةً كبيرةً في وسط الصالة خالية من المناضد ومن الأشخاص- لعقد المباريات الثقافية “المنتظرة” التي يخوضها شخصٌ يمثل كل حي من أحياء مصر القديمة “الحسين، والجمالية، والسيدة زينب، والروضة وغيرها”، ومن سمات المتسابق: خفة الظل، وسرعة البديهة، وطلاقة اللسان، والسخرية، والفائز في هذه المباريات هو من يستطيع مواصلة المباراة الكلامية في كل ما يخص الشعر والأدب الساخر، محتفظًا بشغف الجمهور إلى نهاية تلك المباراة الثقافية والأدبية.

ويتحدث الأديب الكبير نجيب محفوظ عن ذكرياته مع القهوة، حيث كتب “محفوظ” في مجلة الهلال عام 1964م، عن أثر الأحياء التي عاش فيها على أحداث وشخصيات رواياته، لافتًا إلى أنّ أكثر مكان استلهم فيه أفكاره، وحوادث رواياته هو “مقهى الفيشاوي بالحسين”.

وأوضح محفوظ أن قهوة الفيشاوي هي المكان الذي كان يلتقي فيه بأصدقائه الخصوصيين، وهي بعد ذلك مكان التقاء المثقفين والصحفيين والأدباء، وهي المكان الذي كان يستطيع أن يجلس فيه وحيدًا؛ يتأمل من يمرون بالشارع أمامه، وهي في بعض الأحيان المكان الذي كان يرتاده؛ لكي يدخن الشيشة التي لا يستطيع تدخينها بالمنزل. قائلًا: “كان بإمكاني أن أمكث يومًا كاملًا مع الشيشة”.

أما عن أعماله الأدبية، فيقول: “أعمالي الأدبية لا أستطيع كتابتها إلا على مكتبي، لكني كنت أتوصل إلى بعض أفكارها أثناء جلوسي على القهوة، وكنت أنتظر حتى عودتي إلى البيت لأدونها، وأكثر مكان استلهمت فيه أفكار وحوادث رواياتي كانت مقهى الفيشاوي، فكان “المقهى” ملهمًا لي في رواياتي عن الحارة المصرية”، بل إن شخصية الحاج “فهمي” كانت هي نفس شخصية “سي السيد” في ثلاثية نجيب محفوظ.

ورغم تعدد المقاهي في خان الخليلي، والقاهرة الفاطمية، وحي الحسين، يظل مقهى “الفيشاوي” الأكثر رواجًا بين السائحين العرب والأجانب.

ويمر الزمان والمقهى قابع في مكانه كشاهد على العصور التي مضت، وعلى مرور الزمن ومر الأيام والشهور، فهنا عاش الجد والأب والابن، وسيعيش الأحفاد وربما أبناؤهم، وهنا اختلط الماضي بالحاضر في صورة حضارية شهدت الثورات ومرّت بالحلقات الثقافية التي نظّمها الرواد، وعلى أحد كراسيها مكث أديب الوطن العربي وراويته الأكبر ليكتب حكايات الناس العاديين الذين عايشهم وشاهد حالهم، ليترك المقهى بصمته في أجمل لوحة حضارية بحي الحسين.

المصدر:
موقع هيئة تنشيط السياحة المصرية

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ولاء عبد الهادي

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

الصورة: أمنية عبدالقادر

اترك تعليقا