المعرفة بوصفها أداة للهيمنة: تفكيك الخطاب الاستعماري

في الجزء الأول من كتاب الاستشراق، يستعرض إدوارد سعيد شخصية أرثر جيمس بلفور، الذي كان رئيس وزراء بريطانيا وزعيم الحزب المحافظ، حيث يتناول سعيد خطاب بلفور حول احتلال مصر من قِبل البريطانيين، من خلال موضوعين محوريين: المعرفة والسلطة، فحين يبرر بلفور ضرورة استعمار مصر، يؤسّس منطقه على فكرة أنّ تفوّق بريطانيا نابع من معرفتها بهذا البلد، وبهذا تصبح المعرفة مرادفة للهيمنة وللسيطرة ولرفض أي استقلالية للآخر.

حيث يُصرّح بلفور في خطابه السياسي، قائلًا:

“أليس خيرًا لهذه الدول الكبرى – وأعترف بعظمتها – أن تُمارس عليها حكومة مطلقة من طرفنا؟ أعتقد أنّ هذا خير كبير. والتجربة، في نظري، تُبيّن أنهم يتمتّعون، بهذه الطريقة، بحكومةٍ أفضل من كل ما عرفه تاريخ العالم، وهذه الحكومة ليست امتيازًا لهم فقط، بل هي أيضًا، وبلا أدنى شك، امتياز وفائدة للحضارة الغربية. نحن لا نتواجد في مصر فقط من أجل المصريين، بل أيضًا من أجل مصلحة أوروبا بأسرها. (1)”

يُفكّك سعيد منطق هذا الخطاب على النحو التالي:

– بريطانيا تعرف مصر.

إعلان

– بالتالي، مصر هي ما تعرفه بريطانيا عنها.

– ثم، بريطانيا تعلم أن مصر غير قادرة على حكم نفسها.

ونتيجةً لذلك، تقوم بريطانيا باحتلال مصر، من منطلق “معرفي”.

بهذا الشكل، يُنتج الخطاب الاستعماري جملة: حيث هناك من جهة الغربيون الذين يمتلكون المعرفة، وبالتالي السلطة، ومن جهة أخرى، الشرقيون الذين ينبغي أن يخضعوا للهيمنة في شؤونهم، وثرواتهم، وأرواحهم، ويجب أن تكون تحت تصرف القوى الغربية، بحجة مصلحة الحضارة، ويلاحظ سعيد أن بلفور ومعه لورد كرومر، الذي كان المندوب البريطاني السامي في مصر بين 1882 و1907، لم يكونوا بالضرورة مدفوعين بشر مطلق، بل كانوا يُعبرون عن تصور كوني يدعي الموضوعية في وصف الشرق والشرقيين، لقد ورث هؤلاء السياسيون الاستعماريون تراثًا كاملًا من الاستشراق الغربي الحديث، فاستعانوا بالمعرفة المتراكمة حول طبيعة الشعوب الشرقية، وثقافاتها، ودياناتها، وتقاليدها، واستخدموها في ممارسة السلطة على هذه المجتمعات(2).

بالنسبة لكرومر فالرجل الأوروبي يتمتّع بمنطق صارم ويميل إلى الشكّ ويطلب البراهين قبل أن يقبل بصحة أيّ فرضية، أما الرجل الشرقي كما يتخيله كرومر، فهو يعاني من ضعف في القدرة على التفكير المنطقي، وتسوده العفوية والتسليم، ورغم أنّ العرب القدامى أتقنوا الجدل والمنطق، فإن أحفادهم – بحسبه – يعجزون عن استخلاص النتائج الواضحة من مقدمات بسيطة (3).

كما يصوّرهم كرومر باعتبارهم سُذجًا يفتقرون إلى روح المبادرة، وينقادون إلى الإطراء والتملق، ويُظهرون قسوة تجاه الحيوانات، ويعجزون عن السير باستقامة حتى في الشارع، في المقابل يفهم الرجل الأوروبي النظام تلقائيًا، ويصف الشرقيين بأنهم كذابون أغبياء مرتابون بلا عقلانية في مقابل الرجل الأوروبي الذي يتصف بالعقل، والفضيلة، والنضج، والطبيعة السليمة(4).

ومن هنا، تصبح المعرفة عن الشرق – لأنها وُلدت من قلب علاقات القوة – أداةً لإعادة إنتاج صورة الشرق، والرجل الشرقي، والعالم الشرقي، وفي القرنين التاسع عشر والعشرين ساد في الغرب افتراض عام بأنّ الشرق، وإن لم يكن أدنى منزلة من الغرب، فإنه بحاجة إلى أن يُدرس ويُقوم من طرفه، فهكذا نشأ الاستشراق كعلم يصوغ “الشرق” في قالبٍ محدّد ويضعه في طبقة، أو سجن، أو سجل، لتصنيفه، وتحليله، وضبطه، ومراقبته، وفي نهاية المطاف لحكمه (5).

الموقف النصي والهيمنة الإمبريالية: إدوارد سعيد ونقد الاستشراق من نابليون إلى الإعلام الحديث

كما يُبرز إدوارد سعيد بشكل واضح دور نابليون بونابرت في صياغة العلاقة بين الغرب والشرق، وتحديدًا في علاقته بمصر فلقد سعى نابليون بالفعل، إلى السيطرة الكاملة على مصر، وعندما بدأ سنة 1797 في إيطاليا، في التحضير لحملته العسكرية المقبلة، كان ذهنه منشغلًا بثلاثة عناصر رئيسية: أولًا: وبغض النظر عن التهديد البريطاني، فإنّ انتصاراته العسكرية كانت قد بلغت ذروتها في معاهدة كومبو فورميو، التي أنهى بها حملته في إيطاليا، واضعًا حدًا للحرب بين فرنسا والنمسا، وبما أنّ هذه الجبهة أُغلقت لصالحه، لم يتبق أمامه سوى الشرق ليواصل حصد المجد والانتصارات. ثانيًا: ومنذ سنوات مراهقته، كان بونابرت مولعًا بالشرق، فقد قرأ على سبيل المثال، تاريخ العرب للقسّ أوجيه دي ماريجني، وهي قراءات لخصّها لاحقًا في بعض المخطوطات التي كتبها بنفسه في شبابه، وهكذا غدا غزو مصر بالنسبة له مسألة بديهية لا سيما مع ما يتيحه من فرصة لاكتساب مستعمرة إسلامية جديدة على حساب بريطانيا. ثالثًا: كان نابليون بونابرت يرى أنّ مصر تمثّل مشروعًا قابلًا للتحقيق، ذلك أنه يعرف مصر من الناحية العسكرية والاستراتيجية والتاريخية، وحتى النصية، بفضل قراءاته الواسعة للسلطات الأوروبية، القديمة والحديثة على حد سواء (6).

وقد مثّلت حملة بونابرت على مصر نقطة انطلاق لسلسلة طويلة من الاتصالات بين أوروبا والشرق، ومنذ تلك اللحظة، ارتبط حقل الاستشراق ارتباطًا وثيقًا بالجهود الكولونيالية، فلم يكن نابليون يرى الشرق إلّا من خلال عدسة النصوص الكلاسيكية، أو من خلال كتابات المستشرقين الذين اعتمدوا بدورهم على هذه النصوص نفسها، في رؤية اقتصر بها عن أيّ تواصل حقيقي ومباشر مع الشرق كما هو، فلقد جنّد بونابرت عشرات العلماء لمرافقته في حملته على مصر، واستند من ناحية أخرى إلى أعمال رحالة فرنسيين، وأهمهم الكونت دي فولني خصوصًا كتابه الشهير رحلة إلى مصر وسوريا، حيث اعتبر فولني نفسه عالمًا ميدانيًا دقيقًا، حريصًا على نقل ما يراه دون تحريف، لكن انطباعاته الأولى عند وصوله إلى الشرق كانت مفعمة بالانفعال والاستغراب إن لم نقل الذعر (7).

حيث يُبرز سعيد في هذا السياق العيب البنيوي الذي يتمثّل في تفضيل “السلطة الخطاطية” للنصوص أي سلطتها الصارمة والمنظمة، على التواصل الإنساني المباشر، رغم ما فيه من ارتباك وتعقيد، فالنصوص تمنح شعورًا باليقين والسيطرة، بينما العلاقات البشرية حية، وفوضوية، ولا يمكن ضبطها بسهولة (8).

ويوضّح سعيد أنّ هناك وضعيتين تعزّزان هذا “الموقف النصي”:

الوضعية الأولى: تحدث عندما يجد الفرد نفسه في مواجهة شيء مجهول نسبيًا، أو مهدّد، أو غير مألوف، في هذه الحالة، لا يستحضر الفرد فقط خبرته السابقة، بل أيضًا ما قرأه مسبقًا عن ذلك الموضوع، وقد أشار العديد من الرحالة في مذكراتهم إلى أنهم، عند وصولهم إلى بلد جديد، لم يواجهوا ما كانوا يتوقعونه، وهذا ببساطة بسبب غياب ما أخبرتهم به الكتب، إذ لم يجدوا “الشرق” كما وصفه الكتاب، بل وجدوا شرقًا مختلفًا، ربما غير قابل للتصنيف أو الإدراك من خلال النصوص وحدها (9).

الوضعية الثانية: ترتبط بـ “نجاح” النص، فالنص الذي يدعي امتلاك معرفة معينة حول واقع ما، يُمنح سلطة الخبير، ومع مرور الوقت لا يكتفي هذا النص بوصف الواقع، بل يُسهم في خلق ذلك الواقع، وبذلك يغدو هذا الواقع ذاته مشروطًا بما ورد في النص، فيدور في حلقة مغلقة (10).

بهذه الطريقة، استند كل من نابليون بونابرت وفرديناند دي لسبس ، الدبلوماسي والمقاول الفرنسي الذي شيّد قناة السويس، إلى معرفة حول الشرق مستقاة من مكتبة الاستشراق المليئة بالأفكار الجاهزة، فلقد تعاملوا مع شرق صامت، موضوع تحت تصرّف أوروبا لتنفيذ مشاريعها، دون أن تكون مسؤولة مباشرة عن السكان الأصليين، فذلك الشرق في نظرهم غير قادر على المقاومة، بل هو مجرد من الفاعلية، ومكون من صور نمطية تم اختراعها لغرض التنميط والسيطرة.

فإعتبارًا من نهاية عصر الأنوار وخلال قرن ونصف على الأقل، كانت فرنسا وبريطانيا الدولتين المهيمنتين على حقل الاستشراق، وقد أتاحت الاكتشافات الفيلولوجية الكبرى – خاصة في النحو المقارن – إمكانية صياغة علم مقارن، استند إلى فرضية أن اللغات تنتمي إلى سلالات، ومنها: اللغات الهندو-أوربية واللغات السامية، كأمثلة بارزة (11).

حيث قد بدأ تقريبًا جميع المستشرقين مسيرتهم العلمية كفيلولوجيين، ومن خلال هذا التكوين اللساني، ظهر الاستشراق منذ بداياته بصورتين (12).

وعي علمي قائم على أهمية اللغات الشرقية بالنسبة للغرب الأوروبي.

نزوع تقسيمي قوي يعمل على تجزئة وتفكيك موضوعاته وتحليلها، دون أن يُغير، بأيّ حال من الأحوال، التصور الجوهري عن “الشرق” بوصفه كيانًا ثابتًا، متحجرًا، متطابقًا، ومختلفًا راديكاليًا.

وفي رأي سعيد، لا تزال هذه المواقف الاستشراقية حاضرة في الإعلام والرأي العام حتى اليوم، فعلى سبيل المثال تُقدم صورة العربي بوصفه راكب للجِمال، وإرهابي، وفاسد، وثروته – التي يُفترض أنها غير مستحقة – تُعد إهانة للحضارة الغربية “الحقيقية”، كما يُفترض ضمنيًا، وبشكل مستتر، أن المستهلكين الغربيين، رغم كونهم أقلية عددية على مستوى العالم، لهم الحقّ في امتلاك أو إنفاق الجزء الأكبر من موارد العالم، حيث هذا التمثيل يكرّس تصوّرًا يرى أن الغربيين هم “البشر الحقيقيون”، بينما يُنقص من إنسانية غيرهم، وبهذا فإن الرجل الغربي، خاصة إذا كان من الطبقة البرجوازية، يرى في امتيازه الإنساني ما يخوله ليس فقط إدارة العالم غير الغربي بل امتلاكه أيضًا، لأنه بحكم التعريف ليس مساويًا لإنسانية غيره من البشر، بل هو مقياسها ومرجعها (13).

قراءة في خطاب الكراهية والسرديات الأمريكية

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدأ العربي المسلم يَظهر بشكل متزايد كصورة ثابتة في الثقافة الشعبية الأمريكية، وبشكل أكثر وضوحًا بعد كل حرب من الحروب العربية–الإسرائيلية، وقد امتدّ هذا الحضور أيضًا إلى العالم الأكاديمي، والسياسة، والشؤون الدولية، والأعمال، فأصبح “الإنسان العربي” موضوعًا محوريًا للتمثيل والتخيل، كما يوضح إدوارد سعيد، فيذكر على سبيل المثال واقعة جرت في عام 1967 قبيل اندلاع حرب يونيو عندما عُقد الاجتماع العاشر لطبقة من المفكّرين في جامعة برنستون، وكان الموضوع المختار حينها هو: “الإنسان العربي” وقد تم التطرّق إلى جوانب مثل اللباس، الحلاقة، والخف، لكن بعد اندلاع الحرب أدرك المنظّمون الطابع الإشكالي لاختيارهم، في البداية كان من المتوقع أن يكون الحدث ذا طابع كرنفالي، لكن مع تغيّر السياق أصبح لزامًا على المشاركين الأكاديميين اتّخاذ موقف أكثر جدية، فوجد كل طالب نفسه مضطرًا للاعتراف بشكل مذلّ بالهزيمة التي لحقت بالعرب (14).

وبالتالي انتقل تمثيل العرب من الصورة النمطية للبدو الرحل الذين يمتطون الجمال، إلى كاريكاتور يمثلهم كرمز للهزيمة وانعدام الكفاءة، وبعد حرب يوم الغفران عام 1973 برز العرب بشكل أكثر تهديدًا في الخطاب الإعلامي، فظهرت مثلًا رسومات كاريكاتورية لشيخ عربي يقف بجانب محطة وقود في إشارة إلى أزمة النفط، ورغم ذلك يذكر سعيد أنّ العرب هم في الواقع “ساميون” تمامًا كاليهود، غير أنّ تمثيلهم في الثقافة الشعبية يظهرهم بأنوف معقوفة، وابتسامات خبيثة، تذكر بالصور المعادية لليهود في أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية، وبذلك فإنّ الكراهية التي كانت موجّهة سابقًا إلى اليهود، انتقلت بسلاسة إلى “الإنسان العربي”، وصار يُحمل مسؤولية كل الأزمات مثل أزمة النفط، حيث تُساهم السينما والتلفزيون، بدورهما، في تعزيز هذا التمثيل السلبي للعربي، حيث يُربط بالخلاعة والانحلال وسفك الدماء، ويُصور العربي كتاجر للعبيد، أو راعي للإبل أو مروج للمخدرات، وفي أفضل الحالات كمغامر، وغالبًا ما يُقدم الزعيم العربي في الأفلام على رأس عصابة من اللصوص أو القراصنة، ويقع الغربي الأبيض الرجل والمرأة الشقراء في قبضته، ويتلفظ هذا الزعيم العربي بعبارات مثل: “رجالي سيقتلونكم، لكنهم يريدون أولًا بعض المتعة” (15).

ويُلاحظ أنّ العرب، في هذه الصور يظهرون دومًا في جماعات ضخمة لا كأفراد، مما يعكس خوفًا مستترًا من اجتياح المسلمين أو العرب للعالم، في الاتجاه ذاته تَظهر مقالات كثيرة في الصحافة الغربية تتناول الإسلام والعرب بعنف رمزي، فقد ورد في دليل دراسي صادر عام 1975 عن طلاب جامعة كولومبيا، أنّ “كل كلمة من كلمتين في اللغة العربية تتعلّق بالعنف” ، ويقدّم سعيد العديد من الأمثلة عن هذه الصورة النمطية المتحيزة والمليئة بالأخطاء، كما تظهر في مقالات الصحف والكتب الأمريكية ويلاحظ أنّ العلوم الاجتماعية الأمريكية، في تعاملها مع الشرق تتجاهل الأدب تمامًا، وهذا التجاهل يسهم في اختزال المنطقة وسكانها، وسجنهم في كليشيهات نمطية تُقدمهم كبرابرة (16).

فلقد نشأ الاستشراق الأمريكي من “مدارس لغة الجيش” التي أُنشئت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، وكان الدافع وراء هذا النوع من الاستشراق هو حاجة الحكومة وبعض الشركات لفهم “العالم غير الغربي” خلال الحرب الباردة، وفي سياق التنافس مع الاتحاد السوفييتي، وقد ارتبط هذا الاستشراق بموقف تبشيري يرى في الشعوب الشرقية كائنات قابلة للإصلاح وإعادة التربية، وهكذا في تسلسل العلوم الاجتماعية الأمريكية، تُعامل دراسة اللغات على أنها مجرد وسيلة لبلوغ أهداف سياسية أكبر، فتُوظف دراسة اللغات الشرقية لأغراض استراتيجية، وأحيانًا دعائية بحتة (17).

وفي تحليله للاستشراق المعاصر يُبرز سعيد شخصية المستشرق غوستاف فون غرونباوم، الذي هاجر إلى الولايات المتًحدة مع موجة العلماء الأوروبيين، وكرس دراسته للإسلام حيث في تصوّره الإسلام ليس فقط ديانة بل “ثقافة كلية” تُقدّم من زاوية سلبية واختزالية فيرى سعيد أنّ إسلام غرونباوم الذي قُبل دون نقد من قبل مستشرقين أمريكيين آخرين، لا يختلف عن تصوّر المستشرقين الأوروبيين للإسلام، فغرونباوم يعامل الإسلام كمجال أحادي البعد، يتجاهل التجربة الإنسانية اليومية، ويختزله في بعد بدائي متحجّر وراكد، ويُقارب الإسلام ككل واحد، دون تمييز بين عصوره المختلفة – الوسيط، الكلاسيكي، أو الحديث – ولا بين أماكنه المتعدّدة، وهكذا يُنتج استشراق القرن العشرين تمثيلًا محددًا للإنسان العربي، ففي سياق مقاومته للاستعمار، يُصور الفلسطيني، إما كـ “متوحش بليد”، أو كجماعة بلا أخلاق، ويذهب سعيد إلى القول بأنّ هذا التمثيل يوجه السياسة الإسرائيلية برمتها تجاه العرب (18) .

وفي هذا السياق، ينقل سعيد مثالًا لمقالة كتبها جيل كارل ألوري، أستاذ العلوم السياسية نُشرت عام 1974، بعنوان دال: “هل يريد العرب السلام؟”، في هذه المقالة، يؤكّد ألوري أنه “يعرف” العرب ويزعم أن جميعهم يميلون إلى الانتقام وسفك الدماء، وأنهم غير مهيئين نفسيًا لفهم السلام أو التكيف معه، بل يدعي أنهم يرتبطون فطريًا بعدالة تتناقض مع مفاهيم السلام، ويخلص إلى أنه من الضروري عدم الوثوق بالعرب، بل معاملتهم كما تُعامل “الأمراض القاتلة”، أي بمحاربتهم على الدوام (19).

 

ومن هنا تكشف قراءة إدوارد سعيد للاستشراق عن شبكة معقّدة من علاقات القوة والمعرفة التي ما زالت آثارها ممتدّة حتى يومنا هذا، متجسّدة في السياسات، والإعلام، والتمثيلات الثقافية، حيث نجح سعيد في تفكيك الآلية التي بموجبها تُعاد صناعة الشرق ضمن خطاب مهيمن يستند إلى موضوعية زائفة، حيث يتماهى النص الاستشراقي مع السلطة الإمبريالية، فيصبح أداة لإنتاج الشرق كما ينبغي أن يكون لا كما هو فعلاً، وهذا الانكشاف يقودنا إلى تساؤل جوهري: هل الاستشراق مجرد خطاب بائد ارتبط بمرحلة تاريخية معينة، أم أنه بنية مستدامة تجد لنفسها تجليات جديدة في السياقات المعاصرة؟

فيتّضح أنّ نقد سعيد لا يستهدف فقط تفكيك الخطاب الكولونيالي الكلاسيكي، بل يتحدّى أيضًا الطرائق التي يستمر فيها الغرب، وإن بوسائل أكثر حداثة في ممارسة أشكال من الهيمنة المعرفية والثقافية على الشرق، فالإعلام العالمي، والسياسات الخارجية، وحتى العلوم الاجتماعية الحديثة، لا تزال في كثير من الأحيان تعيد إنتاج الصور النمطية ذاتها التي كشف عنها سعيد، وإن كانت بصيغ وأطر جديدة أكثر مراوغة.

وهنا تزداد آلية هذا التحليل تعقيدًا حين نُقاربها عبر عدسة زيجمونت باومان، الذي أعاد التفكير في الحداثة بوصفها مشروعًا لم ينتهِ بل ذاب في أشكال جديدة أكثر سيولة ومرونة، فيرى باومان في كتابه” الحداثة والإبهام”، أنّ الخوف أصيح أحد المحركات الأساسية في العالم المعاصر، حيث تُختزل جماعات بأكملها – كما هو الحال مع المسلمين والعرب – إلى تهديدات أمنية، أو مشكلات ثقافية، أو حتى عوائق أمام التقدّم العالمي ، وهنا نجد صدى عميقًا لأفكار سعيد حول تمثيل العربي والمسلم في الإعلام الغربي، لكن بفارق جوهري: فبينما كان الاستشراق الكلاسيكي يقدم الشرق بوصفه كتلة ساكنة جامدة تحتاج إلى الغرب كي ينقذها، فإنّ الاستشراق المعاصر يُعيد تقديم هذا الشرق ككيان فوضوي، مائع، يهدّد استقرار الغرب، ويبرّر بالتالي استمرار سياسات الهيمنة ضده.


مراجع

1 – إدوارد سعيد ،” الإستشراق”، ص47-48

2 –  رابعة عبد الكافي ،”تمثيل الغرب في كتاب الإستشراق لإدوارد سعيد نظرية أم خطاب إيدلوجي”، إدوارد سعيد من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف، محمد الجرطي (محرر ومترجم)، (ميلانو، منشورات المتوسط، 2016) ص62

3 –  المرجع السابق ذكره، ص63

4  – إدوارد سعيد “الإستشراق”،ص55

5  – المرجع السابق ذكره، ص360-361

6 – إيف كلفارون،”إدوارد سعيد : الإنتفاضة الثقافية”، محمد الجرطي ( مترجم) ، (دمشق ، صفحات للدسات والنشر والتوزيع،2017) ،ص137-139

7- المرجع السابق، ص139

8 – James Clifford,” The Predicament of Culture: Twentieth-Century Ethnography, Literature, and Art” (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1988), p.218

9  – ibid,p219

10 – ibid,p220-221

11  – عبدالله عبد الرحمن الوهيبي،”الإستشراق الجديد:مقدمات أولية”،(الرياض، أفاق المعرفة، 2021) ص50-52

12  – المرجع السابق، ص53

13 – إدوارد سعيد ، ديفيد بارساميان ،” الثفافة والمقاومة”،علاء الدين أبو زينة (مترجم)، (القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2007)، ص112

14  – إدوارد سعيد، ” الإستشراق”، ص318

15  – رشيد خالدي،”إدوارد سعيد والمجال الأمريكي العام”،الحق يخاطب القوة : إدوارد سعيد وعمل الناقد، بول بوفيه (محرر)، فاطمة نصر (مترجم)، (القاهرة، سطور،2001)، ص205-207

16  – إيف كلفارون ، مرجع سبق ذكره ، ص143

17  – إدوارد سعيد “الإستشراق”، ص321

18  – رشيد خالدي ، مرجع سبق ذكره ، ص212

19  – Said, Edward W. “The Arab Mind.” Commentary 57, no. 5 (May 1974): p.4-6.

https://www.commentary.org/articles/reader-letters/the-arab-mind/

إعلان

اترك تعليقا