اعتراضات على المستشرقين كما يراها إدوارد سعيد (مترجم)

من المؤاخذات التي أخذها إدوارد سعيد على المستشرقين، هي أنهم كانوا السبب في تكوين صورة سَلبيَّة عن الشَّرْق لدى علماء ومُفكِّري الغَرْب.

بحسب إدوارد سعيد، الاستشراق كان نوعًا من الإسْقَاط على الشَّرْق وسبيلًا للحُكْم عليه، ويقول أيضًا إن المستشرقين تآمروا على تاريخ الشَّرْق وحدَّدوا مصيره لمئات السنين. فطوال هذا المسار من العمل بنى المستشرقون صورة سَلبيَّة عن الشَّرْق. قدم المستشرقون صورة سَلبيَّة عن اللُّغة الشَّرقيَّة، عن الشَّعب ،عن الدِّين وعن الثقافة. انتشرت هذه الصورة التي بنوها بسرعةٍ لدى الشُّعُوب في الغَرْب والتي اتخذت موقفًا نصيًّا تجاه الشَّرق

لقد بنى عُلَمَاء الغَرْب صورة سَلبيَّة عن لُغَة الشَّرق وعن آدابه، فكيف شكَّلوا هذه الصورة عن لُغة الشَّرق وآدابه؟ نجد ذلك في أعمال《فريدريك شليجل-Friedrich Schlehgel》

شليجل: واحدٌ من المستشرقين البارزين، حيث درس الفَلْسَفة السنسكريتيتة في باريس، حاول  فهم وتفسير الشَّرق من خلال مبادئ اللُّغة، لكنه مثل المستشرقين الآخرين، افترض أن الشَّرق ثابتٌ لا يتغيَّر. في عام 1800 أشار شليجل إلى أن الشَّرق يُعَدّ أعلى مصدر للرومانسية، لكن الرومانسية التي يتحدَّث عنها كانت موجودة منذ ألفين سنةٍ، يقول أيضًا: “لُغَتهم كانت لا تملك الجماليَّة بينما كانوا هم متخلِّفين عن الرَّكْب”. وهكذا، أطلق حُكْمًا على الحياة، واللُّغة، والإيمان الدِّينيّ عند الشَّرق، لكنه لم يكن مؤهلًا لإطلاق تلك الأحْكَام. وموقفه اتجاه الشَّرق كان مجرَّد موقفًا نظريًا لا أكثر .

لكن فِكْرة شليجل انتشرت واسعًا في الثقافة الأوروبيَّة وعند المستشرقين وعند من يعتقدون أن اللُّغة والعِرْق لا ينفصمان أبدًا. الشَّرق الجميل كان في فترةٍ كلاسيكيَّة ما في الهند القديم، بينما الشَّرق السيئ باق في الوقت الحاضر في آسيا، أجزاء في شمال إفريقيا، وحيث يتواجد الإسلام. لكن، ليس المفكرون فقط هم من اهتموا بتفسير الشَّرق، إنما أيضًا مؤسَّسات ومُنظَّمات العُلَماء انخرطت في فِكْرة تفسير الشَّرق.

إعلان

مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت كل منجزات المفكرين المستشرقين قد ساعدها الاستعمار الأوروبيّ للشَّرق بأكمله. القوى الاستعماريَّة تمثَّلت في بريطانيا وفرنسا، بينما لعبت روسيا وألمانيا دورًا ثانويًّا. يهتم المستعمرون بقضايا محدَّدة: كالسياسة، التجارة، الدِّين، أو الثقافة، أو العسكر. وفيما يتعلَّق بالإسلام والأقاليم الإسلاميَّة مثلًا: شعرت بريطانيا أن لها مصالحًا مشروعة، كقوَّة مسيحيَّة حامية.

كيف بنى علماء الغَرْب موقفًا سيئًا عن الشَّرْق؟ يمكن أن نستشفَّه من الصور التي شكَّلها المستشرقون الفرديون الذين شغفهم الإسلام. لقد صنف المستشرقون جميع الشرقيين، بالنسبة لهم: شرقيّ واحد هو في البداية شرقيّ ثُمَّ صار كائنًا بشريًّا ثُمَّ عاد شرقيًّا أخيرًا.

بالنسبة للمستشرقين، شرقيّ يعيش في الشَّرْق، يعيش حياة البساطة الشَّرقيَّة، في حالة استبدادٍ وحشيَّةٍ شَرْقيَّة مُشْبَع بشُعُور القدريَّة الشَّرقيَّة. وصف الشَّرْق كله كأنه مثال لشكلٍ معين من الانحراف. المستشرقون دائمًا أمام المنظار كما وصفهم فلوبار في كتاباته. شيءٌ من الشذوذ الذي يمكن أن يكون مثالًا جديدًا لِمَا دعاه كتاب “وصف مصر” بـ “اللذة الغريبة”. وهكذا، عندما يصف المستشرقون شيئًا شاذًا يتعلَّق بالشَّرق يصبح جزءًا من النص، والذي يُوظَّف نهائيًّا للتعريف بالشَّرق كله والشرقيين.

الفرد الشَّرقيّ لا يستطيع أن يُحرِّك أو يزعج المكونات العامة للشَّرق، ومع ذلك يمكنه الاستمتاع بغرابته لحركته الخاصة. على سبيل المثال، يمكن أن نأخذ بوصف فلوبار للمشهد الشَّرقيّ.

لتسلية الجمهور، أخذ مهرج محمد علي امرأة في بازارٍ بالقاهرة ذات يوم، وضعها على منضدة محل، جامعها علنًا بينما صاحب المتجر يُدخِّن غليونه في هدوء.

يعترف فلوبار أن هذه فظاعة من نوعٍ خاص: الشَّرْق مُرَاقب، وحساسيَّة الأوروبيّ تتجوَّل في المشرق تتحوَّل الى مُرَاقب. إنهم لا يشاركون أبدًا، تجدهم دائمًا منفصلين، ومع ذلك جاهزون لأمثلة جديدة. لقد أصبح الشَّرْق لوحة حية من الغرابة.

وأصبحت هذه اللوحة الهادئة منطقيًا موضوعًا خاصًا للنصوص، حيث جعل الشَّرْق نفسه حبيسًا للنص وموضوعًا يتناول تحت الملاحظة لدى أساتذة الغَرْب. الإسلام مثلًا اعتبر شرقيًّا لدى مستشرقي القرن التاسع عشر المتأخرين وبداية القرن العشرين.

يناقش كارل بيكر أنَّه بالرغم من أنّ الاسلام وريث التقليد الهيليني، إلا أنه لم يستطع استيعاب وتوظيف التقليد اليوناني والانساني. علاوة على ذلك، إنه نوع من محاولة شَرْقيَّة فاشلة لتوظيف الفَلْسَفة اليونانيَّة بدون الإلهام الإبْدَاعيّ الذي نجده في عصر النهضة في أوروبا. مثلًا، عند لويس ماسينيون ،(ربما أشهر وأبرز المستشرقين الفرنسيين في العصر الحديث). فعند  ماسينيون الإسلام كان رفضًا منهجيًّا للروح المسيحيَّة، بطلهم العظيم لم يكن محمد أو ابن رشد، لكنه الحلّاج الذي تَمَّ صلبه من طرف المسلمين الأرثوذوكس، لأنه تجرأ على صياغة نسخته الخاصة للإسلام. ما لم يتناوله بيكر وماسينيون، هو اختلاف الشَّرْق، لقد تخلصوا من كل شيء وجدوا صعوبة في تنظيمه حسب المفاهيم الغربيَّة. مثل محمد، كان الحلاج بارزًا، لأنه اعتبر نفسه في مقام المسيح.

إن المستشرقين، من رينان إلى غولدزيهر إلى ماكدونالد إلى فون غرونيبوم وغيب وبرنارد لويس ، رأوا الإسلام على أنه “تركيبة ثقافيَّة” بالإمكان دراستها.

غيب أطلق قراءاته وأسماها: “الاتجاهات الحديثة في الإسلام” سنة 1945.  يتهجَّم تهجُّمًا شديدًا على الحضارة العربيَّة، فقال بأن الطلبة العَرْب قد تربوا على مواجهة الاختلاف في الخيال. الأدب العربي والحرفية بين التخيُّل والمنطلق، هم ليسوا عقلانيين مثل الطلبة في الغَرْب، كما يفتقدون إلى الشُّعُور بالقانون، لا يستطيعون التخلُّص من الشُّعُور الحاد بانفصال وتفرُّد الأحداث الملموسة، ومرد ذلك لعزوفهم عن التَّفكير العقلانيّ، والطلبة في الغَرْب يفشلون في محاولة فهمهم. يؤكِّد غيب أن رفض الأساليب العقلانيَّة للتَّفكير وأخلاق النفعيَّة، واللتان لا يمكن فصلهما، تجد لهما جذورًا في المذهب الذريّ والفرديَّة في المخيال العَرْبيّ.

لذلك، فإن أي شخصٍ يريد أن يعرف أو يفهم الإسلام الحديث، سيجد أن التحيُّزات الافتتاحيَّة التي أطلقها غيب تقف عقبة أمامه، هذه التحيُّزات طلبت منا أن ننظر إلى المسلم الشَّرْقيّ كما لو كان في القرن السابع، دائمًا مختلف عن العَالَم الغَرْبيّ. إذا كان الإسلام معيبًا، فإنهم يتصدون لأيَّة محاولة لإصلاحه، لأنهم يؤمنون بأن الإسلام لا يتغيَّر وأي مساس به يعتبر خيانة له. هذا هو في الحقيقة مصير الشَّرْقيّ.

ثماني عشرة سنة بعد ذلك، في 1963، أطلق غيب نظرية أخرى، نظرية في “إعادة النظر في دراسات المنطقة”.  حيث اعترف بأن الشَّرْق في مكانةٍ أهم من أن يترك للمستشرقين. في كتابه “الاتجاهات الحديثة”، يقترح مقاربة بديلة ثانية أو جديدة للمستشرقين تَمَّ الإعلان عنها. صياغة غيب هنا متأنية جدًا. حيث قال: “ما نحتاجه الآن هو المستشرق التقليديّ، بالإضافة إلى المستشرق الاجتماعيّ، يشتغلان مع بعضهما. معًا سيقومان بعمل متعدد التخصُّصات”. لكنه يشعر بأن المستشرق التقليديّ لن يجلب المعرفة القديمة للتأثير على الشَّرْق، سيذكر فقط زملاءه بأن الشَّرْق لا يمكن شرحه عن طريق التَّفكير الغَرْبيّ، إنه مجرَّد وَهْم.

هذه النصوص لا تعطي التاريخ الصحيح للدول الإسلاميَّة، بل تُرغِم القرَّاء أن يعتمدوا على لغة المستشرقين التي لا معنى لها، المليئة بالإعجاب بالحكمة الإستشراقيَّة. لذلك يتشكَّل هذا الصدع الكبير الذي يفصل بين الشَّرْق والغَرْب .

مصدر الترجمة

ترجمة: عبد الحليم بن قاسمية

تدقيق: أمل فاخر

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

ترجمة: عبد الحليم بن قسمية

اترك تعليقا