حرية الفتيات بين الواقع والسجن الاجتماعي | سارة عبد النبي
تحدّث أحدهم ذات مرة عن تجربته في السجن، عن افتقاده للتمشية المطولة والذهاب للكثر من الأماكن، وعن حرية الحركة والتنقّل كما يريد، لقد روى كيف قيّده السجن، بعيدًا عن الحياة التي يراها متأخرًا بمقدار يوم من خلال الجرائد التي تصل للسجن متأخّرة، وعن الكتب التي بدأ باكتشافها وقراءاته التي زاد معدلها بسبب وفرة وقته، فكان كمن يرى العالم دون عيشه.
مما دفعني للتساؤل كيف تختلف حياته عن حياة فتاة من طبقة متوسطة في أسرة محافظة مصرية؟
«أنا حرة» كان عنوانًا لفيلم شهير بطولة لبنى عبدالعزيز وكتابة احسان عبدالقدوس، بسيناريو لنجيب محفوظ، وقد عشنا مع «أمينة» محاولاتها للتحرّر من سلطة عمتها وزوج عمتها وشارع الجنزوري بأكمله، متّخذة في سبيل ذلك كل الوسائل الممكنة من التعليم والعمل لتملك نفسها وقرارها في النهاية.
هل كانت أمينة لتصدّق أنها في الزمن الحالي قادرة على الحصول على التعليم والعمل معًا لدن دون التمتّع بالحرية التي أرادتها؟
اليوم، وفي محيطي، أصبح التعليم الجامعي للفتيات ضرورة لا نقاش فيها، وصار العمل أمرًا شائعًا على عكس عصر أمينة، لكن جملتها الشهيرة «أنا حرة» التي ردّدتها كثيرًا خلال الفيلم أصبحت من الكلام المحرم، الهرطقة بين الأسر المحافظة.
لازالت تنشأ فتيات الأسر المحافظة في جوٍّ فيه شيء من الصرامة فيما يخصّ المظهر الاجتماعي لأسرة بها فتيات، فمواعيد العودة محددة في كثير من الأسر، وشكل الملابس يحدده الأهل، حتى نوعية العمل المسموح به بما يليق بسمعة العائلة ودرجة محافظتها .
ويكون السفر مع الأصدقاء لمدينة أخرى بند حلمًا بعيد المنال بالنسبة لهن، والحجة على الرفض هي «لما تتجوزي ابقي سافري مع جوزك» حتى التمشية بلا هدف رفاهية لا تحصل عليها الكثيرات، إذ يختلسنها في الطريق من وإلى المشاوير المعروفة الموافق عليها من قبل الأسرة، مسموح بالطبع بالهواتف الذكيو ومشاهدة العالم ومعرفته من خلال الكتب ربما ، لكن دون خوض غمار التجربة الحقيقية، تماماً كما المسجون يشاهدنها متأخرة أحيانًا.
فكان من العادي أن أسمع فتيات لم يجرّبن السينما أو المتحف أو معرض الكتاب بسبب سكنهن البعيد، يرين زيارة المدن في نفس البلد مثل حلم قد يتحقّق أو لا.
للحرية معنى، فهي ليست فقط رؤية الشارع أثناء خطوط السير المعتمدة للفتاة، وإنما قدرة المرء على الاختيار وتحمّل النتيجة، قدرته على التغيير من شيء يخصه، أو كما قالت أمينة «علشان توافق لازم يكون من حقك متوافقش»، فكي تكون حرًا يجب أن تملك الحق في الرفض أو القبول لا مجرد التعايش مع الوضع المفروض.
وعلى غرار جملة أمينة السابقة، فلكي توافق الفتيات على حياتهن ويعتبرنها اختيارًا قائمًا على حرية إرادتهن، يجب أن يملكن اختيارات من البداية، ما بين أن يبقين في كنف العائلة بعد سن الرشد، أن يرتدين هذا ويعملن هناك ويدرسن ذلك، لكن هل يحدث هذا في معظم الأسر المحافظة؟
في الفيلم، سعت أمينة خلف الحصول على حقها في الرفض والقبول، فقبلتها الأولى نحو الحرية كانت صديقتها الأجنبية ونمط عيشها الغربي، الذي شعرت – بحكم حرمانها – وكأنه هو الحرية الحقة، وما إن رفع زوج عمتها وعمتها أيديهم عنها حتى وجدت توازنها وبوصلتها وتمكنت أمينة من اختيار نمطها الخاص، ذلك النمط الذي كان بإمكانها عيشه بموافقة العائلة، لكن الحرية كانت في اتّخاذها للقرار بغض النظر عن تماشيه مع ما تراه العائلة أم لا.
تحسنّت الكثير من أوضاع الفتيات اليوم وإن كان بعضها ظاهريًا، لكن هذا التحسّن لم يرقى بعد ليكون حرية، إنه مجموعة أعراف وتقاليد جديدة اصطبغ بها المجتمع، فالتعليم والعمل الذي نادت به أمينة لم يعد طريق الحرية، بل أصبح مراحل طبيعية في حياة المرأة، دون أن تملكن القدرة على الرفض والقبول، كمن يسير في اتجاه ما مدفوعًا بزحام الناس.
لم يختلف السجن كثيرًا عن التربية المحافظة للفتيات، تقييد الحركة والسفر من سماتها الأشهر، ثم يأتي التعليم الذي لا يشكل فارقًا عظيمًا في امتلاكها لذاتها سوى ربما في الارتقاء اجتماعيًا من خلال زوج مكافيء تعليميًا، ومرتّب العمل كسجائر السجن، يكفي للحصول على القليل من متع الدنيا الاستهلاكية، لأنّ بعضها الآخر تهربه الفتيات كما يهرب المساجين أشياءهم، كتب بعناوين مثيرة مثلًا.
ربما يكمن الفرق فقط أنّ المسجون يعلم أنه مسجون، لكن فتاة في أسرة محافظة ربما لن تعلم أبدًا بسجنها وسجانها.
يرين الحياة كما يراها المسجون، من خلف قضبان العائلة، يمنين أنفسهن بالحرية ربما، وحين آخر يغضبن، يتهمن الأخريات اللاتي منّ عليهن المجتمع بالحرية، بالفسوق وعدم وجود رجل في البيت وغيرها من جمل الوصم المتعارف عليها، ويمرّ العمر، من دون ربما أن يجربّن الحرية أو يتمتّعن بها قط، ربما يخفن منها ويعدن لسجنهن المعروف بأنفسهن معترفين بقيمة السجان في النهاية، أو ربما يندفعن نحوها كما اندفعت أمينة نحو الرقص في البداية، ولكل رقصتها للحرية، دون أن يجدن بوصلتهن في الحياة.
لا تسير الحرية على قدمين، إنما تُحمل على أكتاف من هن مثل «أمينة»، تحتاج حرية الفتيات في تحديد مصائرهن إلى تراكم الكثير والكثير من المحاولات الأدبية والسينمائية والخطب والحيوات الملهمة لترسيخ أهمية حرية الاختيار، فتكسر الواحدة تلك الحلقة المفرغة وتمنح لأبنتها حرية الاختيار، فتصبح التمشية وقطع المسافات وإن كانت طويلة؛ حقًا أصيلًا لا يحتاج إلى إذن.