مسلسل Succession: تحفة دراميَّة متكاملة ستُغيِّر الشَّاشة الصغيرة إلى الأبد
السُّلْطة والمجد والخلود، دائمًا ما كانت تلك المساعي الثلاثة هي آفة النَّفس البشريَّة منذ فجر التاريخ وستستمر حتى نهايته، هوسٌ لا يوجد قدرٌ كافٍ من الأموال أو النفوذ قادر على إخماده ما إن يتملَّك أحدهم.
الحُبّ والكره، إثبات الذَّات والهزيمة، السَّيطرة والخضوع، الخيانات المُتكرِّرة والنُكْرَان. مشاعر عِدَّة وتناقضات لا حصر لها يعيشها مُطارِد المجد طوال الوقت في سبيل تحقيق مسعاه، إلى الحَدّ الذي قد يتفاجئ فيه لأي درجة من الدُّنُوّ والشناعة قد يصل، ولأي درجةٍ قد يفقد بوصلة أخلاقه.
كل شيءٍ فعلته في حياتي كان من أجل أولادي، أدري أنني أرتكبت أخطاءً جمَّة لكنني حاولت دائمًا استغلال نتائجها لصالحهم لأنني أحبهم.
[لوجان روي]
مرَّت الشَّاشة الصغيرة بمراحل ٍ عِدَّة حتى تصل إلى ما هي عليه اليوم من شعبيَّةٍ وقاعدة مُشَاهَدة كبيرة، فبعدما كان الأمر مُقتصرًا على الأفلام والسينما كمصدرٍ رئيس للترفيه البصريّ، أصبح الآن التليفزيون مُنَافِسًا مساويًا بل أن هناك أعمالًا تتجاوز مشاهداتها وأرباحها أفضل أفلام السنة، “سوبرانوز” و”بريكينج باد” وكذلك “جيم أوف ثرونز”، مع أعمالٍ أخرى اقتحمت عَالَم التَّرفيه على دُفعات وغيَّرت النظرة العامة إلى الأعمال التليفزيونيَّة للأبد وصارت نهجًا لِمَا بعدها، ينطبق الأمر على Succession الذي أرسى مفاهيم ورؤى فنيَّة جديدة خلال أربعة مواسم، كل موسمٍ فيها أفضل من سابقه.
حبكة مسلسل Succession:
محور قصة مسلسل Succession الرئيس يتلخص في أقدم صراعٍ عَرَفه الإنسان، صراع الأولاد على خلافة أبيهم، صراع تكرَّر ويتكرَّر في كل العُصُور والأزمنة وفي مختلف الثقافات حول العَالَم ولن ينضب أبدًا ما دام البَشَر على قيد الحياة.
عائلة روي هي عائلة فاحشة الثراء تمتلك مجموعة إعلاميَّة تُعَدّ الأكبر في أمريكا والعَالَم، يرأسها لوجان روي رجل الأعمال المُخضرم الذي يتمتع بشخصيَّةٍ طاغيةٍ ومهيبة، قلبه لا يعرف الرحمة حتى مع أولاده الذين يتنافسون تارةً فيما بينهم لنَيْل رضاه، وتارةً أخرى يحاولون الانقلاب عليه وإزاحته من على رأس الشركة.
يقتبس صانع العمل چيسي أرمسترونج رؤوس أقلام من حياة رجل الأعمال الأمريكيّ روبرت مردوخ وعائلته، ويبني بها عَالَمه الخاص، إذ القوة والنفوذ هما كل شيء، وبالتالي نجد أنفسنا أمام الكثير من المُعضلات الأخلاقيَّة التي يطرحها المسلسل على المُشَاهِد باستمرار ويترك له بناء رأيه الخاص في الشَّخصيَّات.
رؤية فنيَّة تستحق المُخَاطَرة:
موضوع مسلسل Succession الأساس يتغلغل بعُمقٍ في عَالَم الاقتصاد وإدارة الأعمال والسياسة، ثلاثة أشياء لا يفقه عنها المُشَاهِد العاديّ سوى قشور القشور وكفيلة بأن تجعله ينفر من العمل ككل بمجرَّد سماع ما يدور عنه، أو حتى مُشاهدة الحلقات الأولى التي تأخذنا مباشرةً في صُلْب الصراع بدون مقدمات.
ورغم أن عناصر العمل الرئيسة ثقيلة ويقتصر استيعابها على فئة قليلة من الناس قادرة على الاستمتاع بها، فإنه استطاع تكوين قاعدة جماهيريَّة كبيرة أغلبها غير مُلِمٍ بتلك العناصر، وهنا يأتي دور الإبْدَاع الكتابيّ الذي يتميَّز به هذا المسلسل، الذي استطاع صانعوه كَسْب المُشَاهِد العاديّ لصفهم بأسلوبٍ حواريٍّ مُمْتع مع عُمْقٍ وبناءٍ دراميٍّ يتميَّز بأعلى درجات الواقعيَّة.
المسلسل بالكامل أُخرِجَ بطريقة الـ Mockumentary التي تجعل المُشَاهِد جزءًا من كل مشهد وكأنه بالغرفة معهم، بحركة الكاميرا السَّريعة والمستمرة بين الشَّخصيَّات، واصطياد ردود الأفعال، ولغة الجسد على كل كلمة وحوار يدور، فهذه الطريقة تُضيف طابعًا واقعيًّا كبيرًا للعمل.
ولذلك يُعَدّ بطل المسلسل وعامل نجاحه الأوَّل هو أسلوب كتابته للشَّخصيَّات والحوارات والسيناريو، أسلوب كتابي لا تُعَدّ مبالغة على الإطلاق وصفه بالعبقرية، أسلوب في نسقٍ تصاعديٍّ من أوَّل حلقة من موسمه الأوَّل وحتى آخر حلقة من موسمه الرابع، مستوى إبْدَاع كتابيّ يستمر في مفاجئتك كلما ظننت أنه أنهى ما في جَعْبته، إبهار مستمر ومُتجدِّد طوال الوقت.
وعلى الرَّغم من أن الطابع الدراميّ هو السَّائد على العمل، فإن الكوميديا لها دور كبير جدًا في الأحداث، إذ إنها جزءُ أساس في الحوارات وفي تركيب الشَّخصيَّات، وليست مجرَّد مَزْحة تُطْلَق بين الحين والآخر لتخفيف الأجواء.
الشَّخصيَّات والتَّمثيل:
يتميَّز مسلسل Succession بعناصر قوة عديدة، ويأتي التَّمثيل على رأسها، فاختيار الممثِّلين كان في محله، كل مُمثِّلٍ سواء كان رئيسًا أو ثانويًّا أو حتى على الهامش تشعر وكأنه وُلِدَ من أجل تمثيل هذا الدور، بل وتشعر بأنه لا يُمثِّل على الإطلاق، وهذه هي شخصيَّته في الحياة الواقعيَّة، ما ينعكس على جودة التَّمثيل والأداء الخاليين تمامًا من الافتعالات والمونولوجات التي لا قيمة لها سوى التَّحفيز الرَّخيص للمشاعر.
كل شخصيَّةٍ كُتِبَت بعنايةٍ لدرجة تصل إلى الكمال الإبْدَاعيّ والفنيّ، كل شخصيَّة تتمتَّع ببناءٍ دراميٍّ قويٍّ وتعقيدات لا حصر لها، تجعل من كل حدثٍ مُلائمًا لتلك الشَّخصيَّة مهما كان ذلك الحدث صادمًا، إلا أنه بإعادة التَّفكير قليلًا ستجد أنه مُتوقَّع وبشكلٍ كبير.
تختلف كل الشَّخصيَّات عن بعضها اختلافًا جذريًّا، وفي الوقت نفسه تستطيع وضع يدك على أوجه تشابه فيما بينها لا حصر لها، وساهم ذلك في جعل المُتابعين ينقسمون لأحزابٍ تتعاطف مع تلك الشَّخصيَّات وتُعارضها، الأمر الذي لم يستغله صُنَّاع العمل بمُحاباة الشَّخصيَّات المُفضَّلة جماهيريًّا، بل استمروا في رواية قصتهم حتى الوصول إلى واحدةٍ من أفضل النهايات في تاريخ المسلسلات التليفزيونيَّة.
الموسيقى التصويريَّة:
نيكولاس بريتل كَتَبَ الموسيقى في Succession وجعل لها شخصيَّةً مُستقلة بذاتها، تمتلك ملامح تنعكس على العمل بشكلٍ كبير وتُعطيه طابعًا خاصًا وفريدًا، كل مقطوعةٍ مُلائمة للمشهد الذي تُعزَف فيه وتُجسِّده بطريقةٍ رائعة خالقة لوحة فنيَّة بديعة الجَمَال.
مقطوعة تتر المسلسل مُتناقضة بين الموسيقى الكلاسيكيَّة والحديثة، لكنها مُتَنَاغِمَة في الوقت نفسه، وتُعَدّ أبلغ تجسيدٍ لكل شخصيَّات العمل التي في صراعٍ دائمٍ مع ذواتها ومع من حولها.
لا يحدث كل يوم:
درجة الإتْقَان مع الإبْدَاع في النَّسق التصاعديّ وصولًا إلى النهاية التي زيَّنت هذه التحفة الفنيَّة، هو شيء لا يحدث كل يوم، مثل هذه الأعمال التي تُلامِس الكمال من الصعب جدًا إعادة تشكيلها في أعمالٍ أخرى، ولكنها حتمًا سيكون لها تأثيرٌ كبيرٌ في ما هو قادم.
مسلسل Succession تجربة مختلفة تمامًا عن أي شيءٍ آخر، تجربة بُنِيَت على مُخَاطراتٍ كبيرة واستحقت حَصْد نجاح الخروج عن المألوف وكَسْر التابوهات المُعْتَادة.
تدقيق لغوي: أمل فاخر