ألمانيا.. إمبراطورية المصادفة
هل نعيش الآن في أوروبا الألمانية؟
يتحدث أولريش بيك* في حواره مع محرّرَي موقع أوروبا، ستيورات بروان وكريس جيلسون عن الهيمنة الألمانية على الاتحاد الأوربي وآثار سياسات التقشف المثيرة للانقسام وارتباطها بمفهوم “مجتمع المخاطر”، انتهاءً بالمشاكل الحالية التي تواجهها منطقة اليورو.
كيف هيمنت ألمانيا على الاتحاد الأوروبي؟
حسنًا، لقد تمّ الأمر دون ترتيب، فقد أوجدت ألمانيا “أمبراطورية بالمصادفة”، فلم يكن هناك مخطط مدروس أو نية لاحتلال أوروبا، ولم يكن وراء الأمر أساس عسكري، لذا فالحديث عن التأسيس لرايخ رابع هو محض خيال. بل إنّ ماوراء الأمر أساس اقتصادي -فالأمر يتعلق بالقوى الاقتصادية- فمن المثير حقًا في خضمّ عملية التنبؤ بكارثة أوربية مقرونة بمخاوف انهيار لمنطقة اليورو، أو ربما الأتحاد الأوربي ككلّ، أن يتغيّر مشهد القوى في أوروبا بشكل جذري.
بدايةً، هناك انقسام بين دول منطقة اليورو والدول غير التابعه لمنطقة اليورو. فعلى سبيل المثال، المملكة المتحدة والتي هي عضو في الاتحاد الأوربي وليست من أعضاء منطقة اليورو المتحدة، تفقد بشكل مفاجئ حقّ الفيتو الخاص بها. إنّ محاولة رئيس الوزراء البريطاني إخبارنا بأنه لازال يُحكم قبضته على الوضع الأوروبي المتغيّر هي كوميديا مأساوية. أما الانقسام الآخر والذي يقع ضمن نطاق دول منطقة اليورو هو انقسام هام في القوى بين الدول المُقرضة والدول المُدينة. ونتيجة لذلك أصبحت ألمانيا، صاحبة أقوى اقتصاد، أكثر دولة نفوذًا في الاتحاد الأوروبي.
هل تسبّبت سياسيات التقشف في تقسيم أوروبا؟
في الواقع، لقد تسببت في ذلك بأشكال عدة؛ فلدينا مبدئيًا خطّ جديد للانقسام بين دول أوروبا الشمالية ودول أوروبا الجنوبية، بالطبع فهذا الأمر شديد الوضوح. ولكن الخلفية من وجهه نظر اجتماعية هي أننا نواجه إعادة توزيع المخاطر من البنوك ومن خلال الدول وصولا إلى الفقراء، والعاطلين، والمسنّين. هذا تفاوُت جديد مذهل، ولكننا لانزال نفكر من خلال شعارات وطنية ونحاول تحديد إعادة توزيع المخاطر تحت سياق تصنيفات قومية.
في نفس الوقت، توجَد عقيدتان جوهريتان فيما يتعلق بسياسيات التقشف؛ الأولى تعتمد بشكل كبير جدًا على ما أصفة بالنموذج “الميركفيللي”، وبهذا أعني مزيجًا بين نيكولا ميكافيللي ورئيسة الوزراء الألمانية أنجيلا ميركل. على المستوي الشخصي، تستغرق أنجيلا ميركل وقتًا أطول من اللازم لاتخاذ القرارات: فهي دومًا تنتظر ظهور شكلٍ ما من الإجماع. ولكن هذا النوع من الانتظار يدفع الدول التي تعتمد على قرار ألمانيا إلى التيقُّن بأنّ ألمانيا بالفعل تهيمن على مقاليد الأمور. وعلى الصعيد الاقتصادي، هذا التردد المتعمد هو استراتيجية مثيرة للاهتمام من حيث الطريقه التي تتولى بها الأمور.
العنصر الثاني هو أنّ سياسات ألمانيا التقشفية لا تستند ببساطة إلى المذهب العملي (البراجماتي)، وإنما أيضًا إلى القيم الأساسية. فاعتراض ألمانيا على سياسة الدول التي تنفق أموالًا أكثر مما تمتلك هو قضية أخلاقية، ومن وجهه نظر اجتماعية هي ذات علاقه وطيدة “بالأخلاق البروتستانتية”. فهي تضع مارتن لوثر كينج وماكس فيبر مرجعيّة لها. ولا يتمّ النظر لهذا الأمر كقضية أخلاقية في ألمانيا بل بالأحرى ينُظر إليه على أنه عقلانية اقتصادية. فهم لا يرون الأمر على أنه النمط الألماني لحلّ الأزمة، ولكن يرون أنفسهم معلّمين يوجّهون التعليمات لدول أوروبا الجنوبية في كيفية إدارة اقتصادهم.
هذا يخلق انقسامًا أيدولوجيًا لأنّ تلك الاستراتيجة لا يبدو أنها تؤتي ثمارها حتى الآن، ونحن نرى أشكالًا عدة من الاحتجاجات، على سبيل المثال، اليونان أحدثها. ولكن من ناحية أخرى، يتواجد في أوروبا فصيل ليبرالي معاصر ذو أهمية شديدة ونفوذ مازال يعتقد بأنّ سياسات التقشف هي الحل للأزمة الحالية.
هل تعدّ أزمة منطقة اليورو دليلًا على أننا نحيا في مجتمع مخاطر؟
نعم، أنا أرى الأمر هكذا. ففكرتي عن مجتمع المخاطر يمكن أن يُساء فهمها بسهولة، لأنّ مصطلح ” مخاطرة ” يعني فعليًا أننا نقع تحت طائلة موقف بعينه نحاول من خلاله أن نتماشى مع مبدأ اللايقين في النجاة منه، ولكن بالنسبة لي مجتمع المخاطرة هو الوقوع تحت طائلة موقف لا نستطيع من خلاله التماشي مع اللايقين والتبعات التي ننتجها من خلاله في المجتمع.
أضع فارقًا بين الحداثة الأولى وبين وضعنا الحالي. الحداثة الأولى والتي دامت في حدود القرن الثامن عشر حتى ما يقارب الستينات أو السبعينات، كانت فترة فيها مساحة كبيرة للتجريب وكان لدينا الكثير من الأجوبة على الشكوك التي صنعناها؛ نماذج الاحتمالات، آليات التأمين وغيرها. ولكن بسبب تفوّق الحداثة حينها صنعنا الآن تبعات لا نمتلك لها أية أجوبة مثل التغير المناخي والأزمة المالية.
تعتبر الأزمة المالية مثالًا علي انتصار تأويل محدد للحداثة: تُصدر الحداثة الليبرالية الجديدة، بعد انهيار النظام الشيوعي، فكرة أنّ السوق هو الحل وأنه كلما ازداد دور السوق كلما كان ذلك أفضل. ولكن الآن نرى أنّ هذا النموذج يسقط، وفي الوقت ذاته ليس لدينا أية أجوبة لسبب سقوطه.
علينا أن نميز بين مجتمع المخاطر ومجتمع الكارثة. مجتمع الكارثة هو مجتمع شعاره “بعد فوات الآوان”، حيث نستسلم للذعر النابع من اليأس. وعلى النقيض، ينطوي مجتمع المخاطر على التنبؤ بحدوث كوارث في المستقبل للحيلولة دون وقوعها. هذه الكوارث المحتملة لا يفترض حدوثها، فقد ينهار النظام المالي، أو قد تمثل التكنولوجيا النووية تهديدًا للعالم بأسرة -فليس لدينا أساس للتجريب. لم تعد عقلانية حساب المخاطر تُجدي بعد الآن. لذا نحن نتنبأ بأمر ليس من المفترض حدوثه والذي يعد حالة جديدة تمامًا..
خذ ألمانيا كمثال. فإذا نظرنا إلى انجيلا ميركل نجد أنها منذ بضعة أعوام قليلة لم تصدق أن اليونان تواجه مشكلة كبيرة أو أنها بحاجة للتعامل معها كقضية. أما الآن فنحن في موقف مختلف كليًا لأنها تعلمت أنك إذا نظرت في عمق كارثة محتملة فإنّ أمورًا جديدة تصبح فجأة ممكنة. تجد نفسك تفكّر فجأة في مؤسسات جديدة، أو حول الميثاق المالي أو الاتحاد المصرفي لأنك تتنبأ بكارثة من غير المفترض حدوثها. هذه قوة حشد هائلة لكنها متناقضة للغاية؛ لأنه يمكن استغلالها بطرق شتى. يمكن استخدامها لتطوير رؤية جديدة لأوروبا أو يمكن استغلالها لتبرير الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
كيف ينبغي لأوروبا أن تحلّ أزماتها؟
أودّ أن أقول أنّ أول ما يتعيّن علينا أن نفكر به هو الغرض الفعلي لوجود الاتحاد الأوربي. هل هناك أي غرض؟ ولماذا أوروبا وليس العالم كله؟ لماذا لا يقوم الأمر وحده في ألمانيا، أو المملكة المتحدة، أو فرنسا؟
أعتقد أنّ هناك أربع اجابات في هذا الصدد
الأولى ترجع إلى أنّ الاتحاد الأوربي يدور حول مسألة الأعداء الذين أصبحوا جيرانًا، وهذا في سياق التاريخ الأوروبي يشكل معجزة فعلية. الغرض الثاني من الاتحاد الأوروبي هو الحيلولة دون ضياع الدول في خضمّ السياسية الدولية. بريطانيا وألمانيا قبل الأتحاد الأوربي هما بريطانيا ضائعة وألمانيا مفقودة. فأوروبا هي جزء مما يجعل هذه الدول هامة من المنظور العالمي.
النقطة الثالثة هي أننا يجب ألا نفكّر فقط حول أوروبا الجديدة، بل أيضًا حول كيفية أن على هذه الأمم الأوربية أن تتغير. هذه الدول الأوربية هي جزء من العملية، وأودّ أن أقول أنّ أوروبا على وشك إعادة تعريف المصلحة الوطنية بطريقة أوروبية. فأوروبا ليست عقبة في طريق السيادة الوطنية، ولكنها تمثل الوسائل الضرورية لتحسين تلك السيادة. القومية هي الآن عدو الأمة، لأنه فقط من خلال الاتحاد الأوروبي يمكن لهذه الدول تحقيق سيادة حقيقة.
النقطة الرابعة هي أنّ الحداثة الأوربية والتي تم نشرها حول العالم تُعد مشروعًا انتحاريًا؛ فقد أنتجت كلّ أنماط المشاكل الجوهرية مثل التغير المناخي والأزمة المالية. الأمر يشبة قليلًا شركة للسيارات صنعت سيارة بدون فرامل، وبدأت تلك السيارة تتسبّب في وقوع الحوادث، ستستعيد الشركة هذه السيارات لإعادة تصميمها، وهذا بالضبط ما يجب أن تقوم به أوروبا نحو الحداثة. إعادة تشكيل الحداثة هو الغرض الذي يجب أن ينصرف إليه اهتمام أوروبا.
بالنظر إلى هذه النقاط الأربع مجتمعة فإنها تشكل ما يمكن أن نقول عليه رواية كبيرة عن أوروبا، ولكن هناك قضية أساسية مفقودة في هذا المخطط.. حتى الآن تدبّرنا في أمور كثيرة منها المؤسسات، القانون، والاقتصاد، ولكننا لم نسأل ماذا يمثل الاتحاد الأوربي للأفراد؟ وماذا يستفيد الأفراد من المشروع الأوربي؟
بدايةً، أود أن أقول وبتعبير أقرب إلى الجيل الجديد. المزيد من أوروبا هو مزيد من الحرية. هذا لا يعني فقط حرية الحركة للأفراد عبر أوروبا ولكن أيضًا أن يتفتح وعيك وأن تحيا في مساحة تستند بشكل أساسي إلى القانون.
ثانيًا، يواجه العمال الأوربيون والطلاب أيضًا شكلًا من أشكال اللايقين الوجودي في المستقبل والذي يحتاج أجوبة. يفتقر نصف أفضل جيل متعلم للتاريخ الأسباني واليوناني إلى عدم وجود أي آفاق مستقبلية أمامهم.
إذن ما نحتاجه هو رؤية لأوروبا الاجتماعية؛ بمعنى أن يتمكن الفرد من رؤية عدم ضرورة وجود أمان اجتماعي بقدر أهمية وجود يقين أكبر في المستقبل.
أخيرًا، نحتاج إلى إعادة تعريف الديموقراطية من القاع إلى القمة. نحتاج أن نسأل كيف للفرد أن ينخرط في المشروع الأوروبي. وبخصوص هذا الصدد، لقد قمت بإعداد بيان توضيحي بالتعاون مع دانيال كوهين بنديت باسم “نحن أوروبا”، والذي أطرح من خلاله أنّ كلًّا منا يحتاج إلى عام خالٍ من الالتزامات لكي يقوم بتنفيذ مشروع في دولة أوروبية أخرى مع مواطنين أوربيين من أجل أن نقيم مجتمعًا مدنيًّا أوروبيًا.