آني إرنو «نصوص»: سعيًا نحو ما خلف ذاتية «الأنا»
تبدو صياغة تأريخٍ لنصوصي، بالنسبة لي، عمليةً جُزافيّةً كأن أعيد خلق حياتي من جديد. كيف لي أن أوصِّف مقاربةً مبهمة، مداخلها ومخارجها ومنعطفاتها عصيّةٌ على فهمي؟ لكن، وبما أن كلّ نصٍّ من هذه النصوص هو شكلٌ من أشكال التعبير عن خاطرةٍ ما، فليس بمقدوري تجاهل نداء الرغبات. وبعد إزاحتي للإشكالية الأكبر، يراودني الشكّ في وجود سببٍ آخر خلف إحجامي ونفوري من العودة القهقرى غير اضطراري لتسليط الضوء على عملية ولادة كتبي بوصفها حدثًا لمّا يعد بالنفع عليّ، «أنا» التي أسّطره، هذه «الأنا» التي ما تزال مجهولةً ومستغلقةً على فهمي. لكن هل من الممكن أن تكون عملية إعادة خلق «أناي» ذات نفعٍ لغيري من الناس، أو ناجعةً من وجهة نظرٍ تأريخية بحتة؟ هذا سؤالٌ ليس بمقدوري الإجابة عنه!
عندما هممت بكتابة عملي الروائي «تطهير»، ما كانت غايتي تسليخ كلّ جدران حياتي الماضية، وإنما إظهار بعدٍ وحيد من أبعادها، ألا وهو مرحلة الانتقال من مجتمعٍ تحكمه ثقافة العمل، إلى مجتمعٍ تحكمه ثقافة العلم، أقصد بذلك حياتي الجامعية. أذكر أن لفظتيّ «أنا» و«هي» قفزتا على الفور إلى مخيلتي. رسمت لنفسي حينذاك العديد من الوجوه، وبمحض الصدفة البحتة صرتُ أنا «أنا» بدلًا من «هي»، إذ يبدو أن نصيبي توافق مع رغباتي!
ما من شكٍّ في أن الشكل الأدبي الذي رغبته حينها هو الرواية، وعليه كتبت قصة «دينيس ليسور»: فتاةٌ عشرينية تخضع لعملية إجهاض في حرمها الجامعي في فترة الستينيات، مستعيدةً أحداث ماضيها من طفولتها ويفاعتها وصولًا إلى الحدث المحوريّ. إنه بناءٌ روائيٌّ كلاسيكي خرج بشكله التقليدي وبتركيبه العفوي واللا-واعٍ لأسباب عدّة؛ منها تشكيكي المصون في هوية «الأنا» التي أحملها معي، أي هويتي ككاتبة، حتى إن لم أكُ واثقةً على الإطلاق في أن الرواية ستلقى طريقها إلى النشر!
الوهم يحصّننا، فهو حيّزٌ ملتبسٌ ومنيع، إذ ليس بمقدور أيٍّ كان أن يشير إلى «دينيس ليسور» على أنها أنا، بل من الأسهل عليّ أن أقول: «كانت دينيس تمقتُ والديها» بدلًا من القول: «أنا أمقت والديّ»!
الكتابة فعل تحرّرٍ في غاية المتعة. فقناع الوهم يحجب من البصيرة كلّ أشكال الرقابة، مما مكّنني من كسر كلّ التابوهات وتشريح كلّ الكودات غير المحكية كالعلاقات العائلية والجنس والتعليم بصورةٍ ضاريةٍ وتهكّمية.
آنذاك، كانت الكتابة الأدبية من وجهة نظري تُختزَل بشكلها الروائي، إذ كان عليّ تحويل واقعي الذاتي إلى شكلٍ من أشكال الأدب، فالطريقة الوحيدة ليكون واقعي صِرفًا وحنيفًا هي بتحويله إلى مادةٍ مكتوبة، وإلّا لكان مجرد تجربةٍ فرديةٍ عوراء. وجاءت الرواية بوصفها شكلًا أدبيًّا شاملًا لكلّ أشكال الأدب الأخرى، فاخترته بكلّ عفوية!
وقد كتبت كتبًا ثلاثة بناءً على هذه الفكرة. لم يراودني هذا التساؤل حيال شكليّة الأدب إبّان روايتي الثالثة: «امرأةٌ محنَّطة»، إذ تقرُّ صفحة الغلاف بأن العمل هو عملٌ روائي و«الأنا» في هذا الكتاب مجهولةٌ، مما يلقي الكثير من الظلال حيال هوية الكاتب الحقيقية. وعلى جانبٍ آخر، بُنيَ السرد من خليطٍ من الذكريات، من بداءة الطفولة وصولًا إلى مصيرٍ غامضٍ ولا-نهائي، فمصطلح «محنّطة/ Frozen» قد يعني الكاتب كما قد يعني راوي الحكاية. واتضحت لي حالة هذا الكتاب المتذبذبة عند لقائي بقرّائها الذين غالبًا ما ربطوا تجارب البطلة بتجاربي الشخصية، وغالبًا ما أجبت: “لستُ «أنا» المعنيّة وإنما «هي» البطلة”!
فنُّ السيرة الذاتية دفاعًا عن الهوية:
إحدى المفارقات كانت هجراني لفنّ الرواية عندما قررت الكتابة عن شخصٍ آخر غيري أنا، عندما قررت الكتابة عن أبي. لم تكن تلك عمليةً مُباغتة، فقد استغرقت كتابة العمل سنونًا، دفعتني لمساءلة فعل الكتابة بحد ذاته، ومساءلة دورها ومضامينها بوصفها شكلًا أدبيًّا. وتوصّلتُ حينها إلى اكتشافٍ ألا وهو إن الآلية الوحيدة الناجعة في استحضار حياةٍ متواضعةٍ وبسيطةٍ ظاهريًّا، دون خذلان الطبقة الاجتماعية التي أنتمي لها، هي بصياغة وقائع هذه الحياة بالتحديد، وهذه الفئة الاجتماعية بالتحديد، على صورة نُبذات حقيقية ضمن نطاق معايير ذاك الزمن. أطلقت على العمل اسم: «مكانٌ يخصّ المرء». وانتابني حينها شعورٌ بأن الرواية هي شكلٌ من أشكال الغشّ والخذلان، أي أن أصنع من أبي شخصيّةً روائية وأحوّل حياته إلى قدرٍ متخيَّل، كان خذلانًا روائيًّا كما خذلته الحياة.
وهكذا، لم يكن ارتحالي من حقبة «أنا» مُتخيَّلة إلى «أنا» حقيقية حاجةً إلى التنصّل من القناع وإنما عملًا عنونته بـ«قصّة امرأة»، يجمع في متنه الأدب والسوسيولوجيا والتاريخ. ومقصدي من ذلك هو بناء وحدةٍ صلدة من خلال ذرائعَ بليغةٍ وتجارب نابضة حيّة دونما التخلّي عن خاصيّات العمل الأدبي الأصيلة؛ منها النظم الكتابي السليم، والالتزام المحض بثيمة النص وموضوعاته.
ارتحالي كان أيضًا لرفضي الانتماء إلى شكلٍ أدبيٍّ بعينه، سواءً كانت الرواية أم السيرة الذاتية. والسيرة الذاتية التي تتسم بعناصر خيالية لا تتفق وأهوائي أيضًا. فالـ«أنا» التي أتبناها تبدو لي مبنيةً للمجهول منزوعة الهوية الجندرية، وفي بعض الأحيان تخصّ «الأنا» الآخرين أكثر مما تخصّني، أي «أنا» تتجاوز الحيّز الشخصي. بمعنى «الأنا» في كتابتي ليست لرسم صورةٍ عن الهوية أو عن النفس، وإنما وسيلة لإدراك، على ضوء تجاربي، ماهية العائلة والمجتمع والواقع. وأعتقد في صميمي أن المقاربتين تقفان على طرفي نقيض من بعضهما البعض.
بداءات الطفولة والذاكرة بوصفها فيلمًا سينمائيًّا صامتًا:
كان الزمنُ زمنَ اقتتالٍ وحرب، بوصفها، أي الحرب، وجودًا اعتياديًّا مسلّمًا به. وفي إحدى الأيام، قال أحدهم: «لقد انتهت الحرب». ولِدتُ في خضّم معمعة الحروب، ولمّا تحمل نهايتها أيّ معنى يُذكَر. لقد كان زمنًا متنصّلًا من التاريخ، متنصّلًا من المعايير. ما ميّزه هو صور الأماكن والمشاهد المارقة.
يطلّ بيتي، المتربّع بجوار النهر، على طريقٍ يحاذي مصنعًا للأنسجة ذو مدخنةٍ من الطوب الأحمر محاطةٍ بإطارات معدنية. وفي الزقاق الموارب، يوجد مقهى يحتوي على طاولة بلياردو يمكنني الاحتماء بسقفها عند تساقط القنابل.
أم في الجزء الخلفي للمنزل، يطلّ المطبخ على فناءٍ مُمهَّدٍ ومرصوف، تحدوه جدران بيوت الجوار إلا من جهة النهر الذي يجري محاذيًا لجدارٍ واطئ مدرّج، وذلك لاستدرار المياه.
النهر ضيّقٌ وصافٍ للدرجة التي تمكّنني من رؤية الصحون المكسورة والأغراض الصدئة راسيةً في قعره.
بين حنايا البيت وإلى جانب المطبخ، ثمّة درجٌ يقود إلى الطابق العلوي حيث حجرة الطعام التي ما كنّا نشغلها إلا في أيام الآحاد. على الطاولة وعاءٌ يحتوي أزهارًا اصطناعية نارنجية اللون ذات سيقان قاتمة. وفي الرواق المقابل لغرفة الطعام تتربّع غرفة النوم، سريري ذو خشب الورد الذي ألصِق بسرير والديّ، والنافذة المطلّة على الفناء بقضبانها الحديدية التي تحميني من السقوط. إلى جوارها غرفتان، إحداهما صغيرةٌ تحتوي على سريرٍ نقّال وحقائب محمّلة بصكوك وفواتير، والأخرى واسعةٌ وفارغة.
الآن، تبدو كلّ ذكرياتي بين حنايا بيتي باهتةً وشاحبة، وكما لو أنها مصطبغةٌ بنورٍ شفقيّ، ونقطة الضوء الوحيدة هي حجرة الطعام بطاولتها وورودها النارنجية الاصطناعية. أتذكّر طفولتي كطفلةٍ بلا جسد، ظلٌّ صغير يهرول بين ظلالٍ ضخمة وتكبره بمراحل. ظلال والديّ والزبائن والجنود الذي يجيئون ويرحلون. يتمتع هذا الظلّ الصغير بصوتٍ جهوري باهتياجات مزاجيةٍ غاضبة وضاحكة ارتكاسًا لصوت أمّي وصوت الربّ في قلبي، ذاك الصوت الذي سيتلاشى صامتًا بعد أربعين عامًا وحينها فقط سأنعتق وأتحرر.
لم يكن ذلك الزمن أشبه بهواجس أكثر منه بأحاسيس كثيفةٍ وجارفةٍ مطوّقةٍ بإطارات مشهدية، صامتةٍ في الأغلب، بعضها ثابتٌ وبعضها متحرّك. فيلمٌ صامتٌ مظلمٌ تتطاير فيه الصور الصامتة أحيانًا.
صورٌ لأخاديد حفرها المطر في صفيحة الأرض المُصفرَّة بجوار النهر وألواح خشبية للجلوس عليها. كنّا نلجأ إليها احتماءً من القصف، وأذكر أن أحدهم أحضر في جعبته صحنًا من البسكويت المحلّى.
صورٌ لنا نتناول الطعام على الجسر وأشعّة الشمس تغمرنا. أمّي ترتدي فستانًا بنيًّا فاتحًا مصنوعًا من قماشٍ منقوش. أذكر الدفاءة والمودّة والضحك، والبطّ القادم من المزرعة المجاورة، نرمي له فتات كعكة الفواكه، وكيف كانت البطّات تتبعنا عند مغادرتنا على متن الدرّاجات. أذكر أبي الذي يحملني بدرّاجته في حقيبة الأمتعة وأمّي فاتحةً لنا طريقنا.
بعدها أرانا في طريقٍ بمحاذاة أيكةٍ يغمرها نور الشمس، ثم غابت الشمس، والقاذفات تتناوب أعلانا في السماء، ودرّاجاتنا مرميّةٌ على قارعة الطريق. تندفع أمّي لوحدها في غياهب الأيكة، بينما يبقى أبي على قارعة الطريق ممسكًا بيدي، وأنا أصيح نائحةً لاعتقادي أن أمّي قد هجرتنا وأني على وشك مفارقة الحياة، أو أن أمّي ستفارق الحياة!
ربّما لم يقع هذان الحدثان في ظهيرة يومٍ واحد، إلا إنني دائمًا ما ربطتهما معًا، واحدهما يتلو الآخر، كوجهين لعملةٍ واحدة. الغبطة والتعاسة في يومٍ واحد من أيام الصيف.
الصورة الأولى هي لابنة عمي التي تكبرني، تعتلي الطاولة بُعيد انتهائنا من تناول طعام الغداء وتغنّي مصطنعةً حركاتٍ تهكميةٍ ومثيرةً ضحكات الجمهور، بينما لا ينتابني إلا شعورٌ شرّيرٌ من الحسد.
في الصورة الثانية أراها تقرأ في الفناء المخصّص للغسيل، أدنو من خلفها بصمتٍ حاملةً المقصّ وأقصّ خصلةً من شعرها المعقوص. لتصرخ بعدها صرخاتٍ مروّعةٍ وتتبعها أمّي بنفس الدرجة من الصرخات. وبينما لا تزال الخصلة بين يديّ، تغمرني اللحظة بإحساسٍ متعاظمٍ من جبروتٍ واكتمال.
صورٌ للدرّاق الذي تحتفظ به أمّي في كيسٍ أثناء نزهتنا في المتنزّه العام، والذي أشتهي لو أتناوله في الحال. كذلك اشتهائي البُرقوق الأحمر الذي يُباع في أكياس شفّافة وذلك لشبهه بقطع الحلوى التي اعتادت أمّي ابتياعها لحفلات أيام الآحاد.
صورٌ للبسكويت المنقوع بعُصارة التفاح الذي تحوّل إلى عصيدةٍ تمضغها الأمُّ الراهبة «فولدرين» بسنيّها الوحيدين الباقيين أثناء جلوسها في المقهى.
ليس بالإمكان ترتيب هذه الصور والمشاهد ضمن سياقٍ زمني، إلا من جانب واحد وهو حدوثها في يوم أحد أم لا.
أتذكر وقوفي، في ظهيرة إحدى الأيام، وحيدةً في النافذة المفتوحة صارخةً وسع رئتيّ ليجيبني صوتٌ قادم من البعيد. أعدت الصرخة مرّاتٍ ومرات، ليجيء صوت الفتاة الصغيرة رادًّا ندائي، لكنه يصمت عندما أصمت. ولا أعلم متى اكتشفت أنّ هذا الصوت لم يكن إلا ترجيع الصدى!
أذكر عندما مشيت مستوحدةً مطأطئة الرأس بمحاذاة السياج المحيط بالطريق المؤدي إلى مصنع الأقمشة. أتذكّر وصولي إلى ذلك الطريق والمشي على خطاه عدة أمتارٍ ثم الالتفاف عائدةً القهقرى باتجاه البيت. كانت تلك المرة الأولى التي تجاسرت فيها على المشي لوحدي عاصيةً لأوامر والديّ. ما زلت أذكر الأرض الحجرية والمسافة القصيرة التي تفصلها عن ناظري، لقصر قامتي حينها، ولا زلت أذكر مشاعر الرهبة والرغبة في إتمام طريقي إلى نهايته.
ما يدهشني أن القصتين الآنفتين لا تشتملان على وعيٍ طفوليّ وإنما إدراكٌ ناضجٌ للذات مستقلٌّ عن شيئية المحيط وعليمٌ بالعالم المحيط به.
تنتهي رحلتي في بلدتي الأصل في خريف العام 1945، أركب المقعد الأمامي من سيارة نقل الأمتعة، إذ إن والداي قد تخليا عن عملهما وقررا العودة إلى مسقط رأسيهما الذي غادراه منذ ما يقارب الأربعين عامًا. لقد كان اليوم يوم أحدٍ، والسيارة تكافح لقطع الطريق بين الجماهير المحتشدة والأكواخ وأكداس الرفات والحطام والبيوت المهدّمة. كان مركز البلدة قد أحرِقَ خلال زحف الاحتلال الألماني في العام 1940 وما بقي منه إلا الحطام والخراب.
عشنا في بيتٍ مؤلفٍ من غرفتين بلا كهرباء في شارعٍ لمّا يطله الخراب بالقرب من مركز البلدة.
عند مغادرتي لمسقط رأسي، تداعت الذكريات، ذكريات المتنزه العام، المركز التجاري بجوار النهر، جسد أمّي حنطي اللون وهي تمتطي دراجتها، المدرعات الأمريكية التي تلقي أكياسًا من بودرة عصير البرتقال في شارع معمل الأقمشة إبّان يومٍ احتفاليٍّ عامرٍ بدفء الشمس.
المصادر
1- Early childhood
2- Towards a transpersonal ‘I’