مكتبة الكهل الأريب_ قصة قصيرة
لقد كان زمنا مليئا بالأدباء والمفكرين.
دلف إلى مكتبته المنزلية يتصفّح كتبه المنثورة المرتّبة ترتيبًا خاصًّا بنظرته إليها؛ فلم يجد كتابًا يتماشى مع حالته المزاجية فقرّر زيارة بعض المكتبات ليشتري كتابًا يضيفه لمكتبته ويكون رفيق يومه.
مَرّ على ثلاث مكتبات فوجدهنّ مغلقات لأسباب مجهولة، فأخذ يجول الطرقات وحده حتى تذكّر مكتبة أخرى كان يزورها منذ زمن بعيد، شقّ طريقه عبر السوق وأصوات الباعة المتناقضة مع وقع أقدام المشترين.. صراخ الأطفال، ودعوات الشحاذين تأتيه من فوق الأرض وتحتها؛ الجميع على قدم وساق كاد يجنّ جنونه؛ حتى وجد “مكتبة الثقافة” هادئة خالية من البشر إلا من كهل جالس على كرسيّ محاط بكتب كأنها جنة زرْعُها الكتب وثمارها الكلمات.
فما أن دلف إليها واختفت كلّ الضوضاء كأنها في بُعد زمنيّ آخر حتى أنه لم يُحَيِّ صاحب المكتبة؛ فأمعن النظر، وجد الزرع لم يُروَ منذ زمن، فالكتب مكسوّةٌ بغبار الحاضر عائشةٌ في ماضٍ منسيّ.
وقعت عيناه على كتاب لـ “خيري شلبي”، هذا الأديب الأريب فالتقطه وذهب للكهل ليعطيه حسابه، تحرّك الكهل ببطء تجاهه وأخبره بِغبطة:
_ لقد اخترت كتابًا جيدًا.. لم يأتني أحد يأخذ كتابًا جيدًا من مدة، فالجميع يريد كتب الشباب غير المرتبطة بالأدب بأيّ صلة ولا الثقافة؛ أتعلَم؟ لقد أتاني خيري شلبي عندما طبع هذا الكتاب للمرة الأولى لكنه كان قد نفد من المكتبة وطلب مني أن أطبع له نسخ جديدة منه.. يا لها من أيام.
ابتسم له الشاب وتذكر أنه كان ينقصه كتاب للرافعي فسأل الكهل بلطف:
_ إنني أبحث عن كتاب للرافعي.. سأحاول تذكر أسمه..
وقبل أن يلفظ الشاب بكلمة أخرى، تساءل الكهل بخبرة حكيمة:
_ الرافعي الأديب أم المفكّر؟
_ الأديب. مصطفى صادق الرافعي.. أبحث عن “وحي القلم” وأيضًا كتاب لطه حسين “في الشعر الجاهلي” حتى أستطيع قراءة كتاب “على السَّفود” الذي وضع فيه الرافعي مقالات ليرد على كتاب طه حسين وغيره.
_ نعم، نعم، لقد كان زمنًا مليئًا بالأدباء والمفكرين. أتعلم أنّ عبد الرحمن الرافعي المفكّر وضع كتبًا مهمة في تاريخ مصر الحديث منها كتاب “تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم” الذي طبع منه طبعةً رابعة في 1949، قبل ثورة عبد الناصر التي لم تأتينا بخير مقارنة بشرورها؟ أما عن الرافعي الأديب فسأبحث لك عن كتابه وعن كتاب طه حسين.
وتركه ودلف للمكتبة وأعطاه كتاب “تاريخ الحركة القومية وتطور الحكم” ثم جلس على كرسيّه ورأى الشاب عبد الرحمن الرافعي يأتي من بُعد زمنيّ آخر ليجلس بجوار الكهل، وتناول معه أطراف الحديث عن أدباء مصر كأنهم أصدقاء قدامى، وكأنّ الشاب غير موجود في المكتبة، وأخبره الكهل عندما صادف “توفيق الحكيم” وهو عند حلاق في القاهرة وكان هذا قبل إصدار كتابه “حمار الحكيم”، وضحك وأمتلأ وجهه سرورًا وقال “أنه ربما بعد تلك الجلسة ذهب ليكتب حمار الحكيم الذي تبدأ أحداثه بزبون يشتري حمارًا قبل ذهابه للحلاق ويعامله معاملة الحيوانات الأليفة الخاصة كالكلاب والقطط”.
فأتى توفيق الحكيم من بُعد آخر وأخبره بلطف “كيف عرفت أيها الكهل؟” وجلس بجواره. فتوقّف عقل الشاب ولم يعلم ماذا يقول لهذا الفيلسوف من شدة الصدمة لرؤيته ولسماع صوته، فحاول إرضاءه فقال للحيكم:
_ إنها قصة رائعة وكتبك دائما رائعة كــ “براكسا ومشكلة الحكم“، عودة الروح، أهل الكهف، قصص عهد الشيطان ويوميات نائب في الأرياف.
فقتم وجه توفيق وصرخ فيه بقوة:
_ كيف تذكر “أهل الكهف” وسط تلك الكتب؟ إنه كتاب غير جيّد! لا أحبه بالمرة ولو بيدي لمنعته من النشر، أنتم أيها الشباب تُفضلونه لأنه يتكلم عن الحب، أما أنا فوضعته لفكرة الاغتراب والبحث عن الذات ولا أعلم كيف آلت نهايته بالعاطفة والحب.. يا لكم من حمقى.
تكلّم الكهل وكأنه لا يسمع صوت توفيق ولا يرى الرافعي وبصعوبة، يلحظ الشاب، فقد كان يشاور العقاد في قصة عهد الشيطان “لتوفيق الحكيم”
_ قصة عهد الشيطان قدمت كمسرحية وجلسنا نضحك على تلك الفكرة وكيف يكون الرب ظالمًا؟ فهو ليس بظالم.. عندما أمر الملائكة بالسجود لآدم، فسجدوا عدا رئيس الملائكة لأنه كان يتابع الملائكة وهم يسجدون حتى يعلم إن لم يسجد أحد؛ فوجهوا له تهمة أنه لم يسجد؛ قصة طريفة أتتذكرها يا عقّاد! ويوميات نائب في الأرياف التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي ومزيد من أعمال توفيق التي أضافت للأدب والسينما معًا. وكم جلسنا في صالونك بصحبة نجيب محفوظ وأنيس منصور وغيرهم.
ثم وجه حديثه لنجيب محفوظ وللجميع :
_ هنالك طرفة عن العقاد أنه في حياته لم يكتب سوى رواية يتيمة: “سارة”، وقد كان يحبّ مديحة يسري ولم يستطع كرهها فطلب من رسام صديق له أن يرسم صورة بالحجم الطبيعي لها والذباب يتكالب عليها حتى يكرهها.
فضحك الجميع عدا العقاد فردّ عليه:
_ لم أحاول كرهها.. فقد كانت في العشرين من عمرها وأنا كهل وبطبعي أكرههم جميعًا.. فقط كنت أريد صورة لها عندي، وفكرة الذباب حتى يكرهها الأخرين.
هزّ الضحك أرجاء المكتبة أو ربما هزتها أقدام ثروت أباظة هذا الضخم بقطته النادرة يحملها على يديه، فرحّب به الكهل وأخبرنا بقصته معه.
_ في يوم جاءني بعض الكتاب الشباب وأخبروني أنهم يريدون رؤية ثروت أباظة فأخذتهم إليه، فلما دخلنا منزله الفخم وسجّادة المنزل تغوص بها الأرجل؛ جاءنا وهو ضخم الجثة ولكنه لم يغص في السجادة؛ ربما أحضرها ليغوص فيها زواره. كم كان زمنًا جميلًا! أفقتد تلك الأسامي والتي لم أذكر كــ لويس عوض ويوسف السباعي ويوسف إدريس وعلي أدهم…
كان الشاب صامتًا مذهولًا فرحًا لرؤية الأدباء وقصصهم مع هذا الكهل، حتى أفاقه الكهل من مما يراه:
_ أتعلم؟ لقد جاءني منذ أيام مصوّر وجلس معي وصور المكتبة وأخبرني بأنه سيعرض هذا على التلفاز لأنني تاريخ في تلك البقعة من البلاد.. لم أستطع التقرب من نجيب محفوظ لأنني كنت أنشغل في المكتبة ولم أحضر صالون العقاد كعادتي لكن شخصيته تظهر في كتبه العظيمة..
ثم بدا على الكهل علامات الإرهاق وأخذ يمسح رأسه بيده المرتعشة وأخبره أنه استمتع بتلك الصحبة والحديث عن زمنٍ كانت لبلادنا فيه قوة أدبية وفكرية مهيبة، وتحرّك ليجلب بعض الكتب ليريها للشاب وكان يقرأ اسم الكتاب بصوت فيه حزن دفين كمن يودّع رفاق الصبا والكفاح، ويضعه على المكتب أو هكذا خُيّل له؛ لأن الكتب كانت تتساقط من بين يديه على الأرض وكلّ كتاب يسقط عليه اسم صاحبه فيخفي صاحب الكتاب من بُعدنا الزمني، حتى بقي هو والكهل والكتب المبعثرة إلا كتاب خيري والرافعي فساعده الشاب على الجلوس وجمع الكتب ووضعها في مكانها، وأخذ كتاب خيري شلبي وسلّم عليه وحيّاه ثم ودّع صاحب المكتبة ورحل مع المفكر عبد الرحمن الرافعي يتحدّثان عن ثورة عرابي وما حدث بعدها.