تَعدُّد الحقائق في الرِّوَايَة متعدِّدة الرُوَاة: قائمة قراءة (مترجم)
تقترح صوفي وارد (Sophie Ward): جينيفر إيغان (Jennifer Egan)، هان كانغ (Han Kang)، رواية الأخوين غريم (Grimm Brothers) وغيرهم…
ما قرأت في مراهقتي إلا روايات الأدب الفيكتوري. برزت سِمَة تعدُّد الرُوَاة في روايات أدب القرن التاسع عشر إلى درجةٍ يجوز معها أني قد تشرَّبت هذه التقنيَّة السَرْديَّة دون قصدٍ مني.
غذَّت أعمالٌ، على غِرارٍ: “مدل مارش” (Middlemarch)، و”فرانكنشتاين” (Frankenstein)، و”مرتفعات ويذرنغ” (Wuthering Heights)، مُخَيِّلتي المُتمرِّسة إلى درجة جانست فيها، أحيانًا، بين الواقع والخيال. دائمًا ما أوثر، باعتباري قارئةً وكاتبةً، تقنية تعدُّد الرُوَاة على غيرها من التقنيات السَرْديَّة.
شكَّلت الأبحاثُ التي أجريتها من أجل كتابة رواية “Love And Other Thought Experiments” جزءًا من أطروحتي للدكتوراه حول التداخل بين الفلسفة والأدب في القصص القصيرة المُعَنوِنة “تَجارِب الفِكْر”.
تناولت الأُطْروحَةُ دراسةَ تاريخ المجموعة القَصَصِيَّة المترابطة والرواية (الحبكة) المُركَّبة وتطورها، والتي تتقاطع مع الطريقة التي يتبعها الفلاسفة، خاصة فلاسفة الاتجاه العقلي، لوضع نمط سَرْديّ لفكرةٍ أو نظريةٍ ما.
يُمكن أن تصير تَجارِب الفِكْر حاضرة في قلب أحاديث الفلاسفة، وقد تُستَخدَم النُسَخ الجديدة منها باعتبارها جزءًا من الأخذ والردّ فيما بينها.
وعلى سبيل المثال، يتوالى الحديث في تَجرِبة فِكْر “فرانك جاكسون” (Frank Jackson)، وعُنوَانها “غرفة ماري”، في كتاب (There’s something About Mary). لا ينتمي الكتاب إلى “الكوميديا الجِنسيَّة”، ولكن من المؤكَّد أنه يفيض بالنِكات التي تشير إلى ما قد يمكن، أو ما لا يمكن، أن يُقال عما تعرفه المِسْكِينة ماري.
تتجسَّد تقنيَّة تعدُّد الرُوَاة في العديد من الأنواع الأدبيَّة: المجموعات القَصَصِيَّة، تناوب الرُوَاة، وتناوب ضمائر المُتَكَلِّم والغائب على السَرْد، والمراسلات، والمجموعات القَصَصِيَّة المترابطة والروايات ذات الحَبْكَة المُركَّبة.
تستغرقني، بالأخص، القِصَص التي يُعرَض فيها تعدُّد الرُوَاة وجهات نظر عديدة للحَدَث نفسه.
رغم إعجابي الشديد ببراعة “كازو إيشيجورو” (Kazuo Ishiguro) في السَرْد على لسان راوٍ واحد لكنه غير ذي ثِّقةٍ، على غِرار روايتي “بقايا النهار” (The Remains of the Day) و”كلارا والشمس” (Klara and the Sun)، إلا أن السَرْد متعدِّد الرُوَاة يضع في متناول الكاتب إطارًا ورؤيَّة أوسع، في كليهما القَدْرُ نفسه من الفائدة على صعيد التواصُل مع القارئ.
تكمُن جماليَّة الرواية في أشكالها وعمليات الإبداع المتجدِّدة العَتيَّة على الحصر. لا يُشترط لإشادتك بطرق السَرْد المُبتكَرَة والاهتمام بها حين مصادفتها، أن تكون من أنصار الأدب (OULIPO) التجريبي أو عضوًا في جماعة الأوليبو. (هي جماعة أدبيَّة فرنسيَّة، في الأساس، تعتمد القيود والمعادلات الرياضية في الكتابة).
أردت في “Love and Other thought experiments” اكتشاف أفكار الوعي المطروحة في بعض أشهر تَجارِب الفِكْر. تَمَنَّيتُ التوصُّل إلى حُجَّةٍ مُقنِعَةٍ في وجه الاعتقاد السائد بوهم الوعي.
تتفوق الرواية، برأيي، بأَشْوَاطٍ، على أي نظرية أو معادلة في شرح العقول الأخرى. لذلك، اخترت عَشَرَة من تَجارِب الفِكْر، وعَشَرَة قِصَص مترابطة وشخصيات، وجعلتها تمتلئ بالحياة. لم تأتِ النتيجة وفقًا لِمَا توقعته أو أردته، لكنها منحت فكري المُضطَرِب شيئًا من الراحة.
يمكن التعامل مع كلّ كتاب باعتباره تَجرِبة -لكنّها ليست تَجرِبة للفَكْر- تعتمد على التعدُّديَّة الصَّوتيَّة: المؤلِّف، الرَّاوي الذي اخترعه المؤلِّف، ومُخيِّلة القارئ. تمتزج هذه العناصر كلها مُكوِّنة القِصَّة، إليكم هنا ستة من أفضل الكُتُب التي تعتمد التعدُّديَّة الصَّوتيَّة برأيي:
تُشكِّل هذه القِصَص مجموعة تشترك في الكثير مع “القِصَص ذات العِبَر” والحكايات الشَعبيَّة (الحكمية) التي انتشرت في أوروبا في عصر التنوير. تُحكَى كلّ قِصَّةٍ على لسان راوٍ مختلف يحتل الحيِّز التخيُّلي نفسه الذي يحتله الرُوَاة الآخرون. بجانب كُتُب هانز كريستيان أندرسن (Hans Christian Andersen)، وبيرو (Perrault)، وآندرو لانغ (Andrew Lang) الخياليَّة التي رَفَعَت من مستوى قراءاتي المُبكِرة كما زادت من حماسي لزيارة المكتبة، تُعتَبر هذه الكُتُب رغم ارتباطها بصفات السِّحْر والخيال أقل شَبهًا بالقِصَص الخياليَّة المعتادة وأغرب وأكثر إرباكًا في نهاياتها.
يُعدّ هذا النوع نوعًا آخر من التعدُّديَّة الروائيَّة والتعدُّديَّة القَصَصيَّة والكُتُب يوحِّده صوت منفرد. تغطي الوشوم جسد الرَّجُل المصوّر كلّه، وهو شخصية يصادفها الرَاوِي. تُبهج الرسوم التوضيحيَّة المُشاهِد الذي يحكي القِصَص التي يراها على جسد الرَّجُل. كانت الأعمال والمجموعات القَصَصيَّة التي تُحاكي أسلوب حكايات ألف ليلة وليلة ومثيلاتها رائجة في مطلع القرن التاسع عشر خاصًّة مع قُصَّاص العصر الفيكتوري، مثل ماري شيلي (Mary Shelley). في وقتٍ لاحق، تبنَّى كُتَّاب الخيال العلمي هذا الأسلوب، تحديدًا في أربعينيات القرن العشرين، في العصر الذهبي للخيال العلمي، وهكذا وُلِدَت المجموعة القَصصيَّة العظيمة “الرجل المصور” (Illustrated Man) وغيرها، مثل “أنا (روبوت)” (I, Robot) لإسحقَ أسيموف (Isaac Asimov). قرأت بنهمٍ الكثير من هذا النوع من المجموعات في عشريناتي والتي لا تزال من دواعي متعتي الخالصة.
أتقنت ووترز (Waters) الرواية التاريخيَّة بلمستها الخاصة في “فينغر سميث” (Fingersmith)، وهي رواية تعتمد تقنيَّة الرواية بالتناوب. تحكي رواية ووترز (Waters) الفيكتوريَّة، التي تُمثِّل أصداءً لرواية “المرأة ذات الرداء الأبيض” (The Woman in White) لكولينز (Collins) قصَّة “سو” (Sue) و “مود” (Maud) والمؤامرة المُعقَّدة التي تربطهما. تكمُن مهارة ووترز (Waters) في التفصيل الدقيق للمرحلة، الذي يقدِّم خلفيَّة تتجنَّب المعارضة الأدبيَّة أثناء استحضار العصر.
يعتبر السَّرْد بالتناوب، باستخدام ضمير المتكلِّم، طريقة مُرْضيَّة لإطلاع القارئ على معلوماتٍ تخفى على الشخصيات وإخفائها عنه. من الروايات الأخرى التي تعتمد تقنيَّة الرُوَاة المتناوبين: “مرتفعات ويذرينغ” (Wuthering Heights) التي تَستَخدِم فيها إيميلي برونتي (Emily Brontë) شخصيتين ثانويتين لتروي حكاية هيثكليف (Heathcliff) وكاثي ( Cathy)، ورواية “زواج أميركي” (An American Marriage)، حيث تستخدم “تياري جونس” (Tayari Jones) هذه التقنيَّة السَرديَّة لتختبر مشاعر وتَجارِب الشريكين روي (Roy) وسيليستيال (Celestial) المختلفة.
تَستخدم روايةُ الكاتبة هان كانغ (Han Kang) المُربِكَة رغم صغر حجمها والتي تُروى في ثلاثةِ أجزاءٍ وثلاثة أصواتٍ روائيَّة مختلفة، ضمير الغائب لتحكي قِصَّة يونغ-هِيْ (Yeong-hye)، وهي امرأة كُوريَّة جَنوبيَّة تعيش في سيول المعاصرة وتقرِّر التحوّل إلى النظام الغذائي النباتي. يُروى تحوّلها اللاحق على لسان زوجها وصهرها وشقيقتها الذين يتفاعلون بمستوياتٍ مختلفة من التعاطف والتفهُّم مع تدهور حالة يونغ-هي. يتخلَّل هذه الأصوات الثلاثة المعنيَّة صوت الشخصية الرئيسية (يونغ-هي) المتهدِّج وأحلامها المليئة بالذبح واللحم والدماء المرتبطة بشعورها بالذنب حيال استهلاكها السابق للحوم الحيوانات.
تتألَّف رواية النباتية (The Vegetarian) من ثلاثةِ أجزاءٍ مميَّزة يشكِّل كلٌ منها قِصَّة منفردة بذاتها. يتضافر الرُوَاة في رواياتٍ أخرى متعدِّدة الأصوات مثل رواية (All of You Every Single One) لبياتريس هيتشمان (Beatrice Hitchman)، لبناء رواية أكثر فسيفسائيَّةً (رواية الموزاييك)، حيث تكون وجهات النظر أكثر اتساعًا أو تتضمَّن رؤى متعدِّدة على سبيل رواية Ghostwritten لدايفيد ميتشل (David Mitchell). تُستخدَم المراسلات على غِرار رواية “العَلاقات الخَطِرة” (Les Liaisons Dangereuses) “لبيار شودرلو” (Pierre Choderlos)، ورواية “اللَّون الأرجواني” (The color Purple) “لأليس ووكر” (Alice Walker) التعدُّديَّة الصوتيَّة بِغيَّة إحداث تأثيرًا عظيمًا.
يتشعَّب سَرْد موراكامي السخي، رغم انعدام الدِقَّة في الحديث عن وجود تعدُّديَّة صوتيَّة، على طول الطريق إلى العديد من المقابلات. هو كتاب يأخذ القارئ إلى عالَمٍ عاديٍّ وسورياليٍّ على حدِّ السواء كما يدعوك إلى تَجرِبة المُغامرة تدريجيًّا. أثناء كتابة Love and Other Thought experiments وجدتُ أصالة السَرْد حُرَّة للغاية، كأنني أُذِنَ لي بالانعتاق من أيَّة قوانين مفروضة. أثناء القراءة، أُحِبّ أن أضع الكتاب جانبًا وأسرح في الفضاء من حولي، وموراكامي يسمح بالكثير من الفُرَص لأحلام اليَقَظَة.
من العبقرية استخدام تقنيَّة تعدُّد الأصوات، لتأليف رواية ذات سَرْد فسيفسائي (رواية الموازييك) مَبنيَّة على الصناعة الموسيقيَّة، ومؤلَّفة من عِدَّة قِصَص قصيرة مستقلة، على غِرار كتاب “أوليف كيتريدج” (Olive Kitteridge) لإليزابيث ستراوت (Elizabeth Strout)، الذي يُمثِّل العديد من أوجه عالَم قد تتداخل فيه الشخصيات والأحداث بشكلٍ غير متسلسل، وبينما يبني ابتكار ستراوت صورة كاملة عن مجتمعٍ صغير ومسمَّياته المضادة/ المعيقة المقابلة/المواجهة للبطلة، فإنّ رواية إيغان لا تؤلِّف قِصَّة واحدة موحَّدة، بل تُشكِّل تحوّلات ودوَّامات من القِصَص التي تنتج برِقَّتها المتفرِّدة مشهدًا طبيعيًّا غنيًا.