فرانكنشتاين مرّ من هنا

تجارب علمية صادمة شكّلت خلفية الإلهام الأدبي لأشهر روايات الرعب.

فرانكنشتاين والرّعب مترادفان ارتبطا للأبد منذ ذلك اليوم الذي أنهت فيه ماري شيلي روايتها الخالدة التي حملت اسم “فرانكشتاين” عودة برومثيوس”. تلك الرواية التي يتنفس قرّاؤها هواءً مشبعًا بما شهدته تلك الحقبة الزمنية -في بداية القرن التاسع عشر- من عواطف مشبوبة تنظر بقلقٍ لمستقبلٍ يتشكّل في أروقة المعامل وغرف التشريح، ويمرّ الزمان ومع كلّ تطور علميّ يطلّ علينا الوحش من جديد يحذّرنا من مستقبل مجهول يتفلّت فيه العلم من مسؤولياته الأخلاقية والاجتماعية.

كانت ولادة الوحش في مخيلة ماري شيلي نتيجة طبيعية لمناخ علمي، شهد إجراء  تجارب مروعة داخل أعرق المؤسسات العلمية، مناخ ثارت فيه الكثير من التساؤلات حول الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، والتي يبدو أنّ بطل الرواية “فيكتور فرانكنشتاين”، لم يكن الوحيد الذي ظنّ أنه بإمكانه عبور تلك الحدود الغامضة، فلربما كانت هذه هي إحدى وجهات النظر التي شاعت في تلك الفترة، يكفي دليلًا على ذلك أنّ الموسوعة الفرنسية في ذلك الوقت كانت تميّز بين نوعين من الموت؛ نوع مطلق ونوع آخر يمكن الشفاء منه، في حين نجد أنّ جيمس كوري، أحد أطباء ماري شيلي، قد أصدر كتابًا في عام 1817 يبين فيه كيف يمكن التفرقة بين نوعي الموت، معتبرًا التعفّن هو الدليل الأكيد على وفاة الإنسان، وتبدو هذه الحيرة واضحة في ثنايا الرواية.

ماري شيلي

وبحلول عام 1774، دفع القلقُ من العجز المحتمل عن عدم القدرة على تمييز الحدّ الفاصل بين الحياة والموت، اثنين من الأطباء الإنجليز، هما وليام هوز وتوماس كوغان، إلى إنشاء الجمعية الملكية للإنسانية في لندن، وكان يُطلق عليها في البداية “جمعية إعادة الحياة للغارقين”؛ وكانت أهدافها نشر المعلومات لمساعدة الناس على إنعاش الآخرين، بل ودفعت الأموال لمحاولات إنقاذ أرواح الأشخاص الذين يظنّ الجميع أنهم قد قضوا غرقًا. ويبدو أنّ القصص المذهلة التي تناقلها العامة عن عودة الغرقى من الموت على يد الجمعية كان لها أبلغ الأثر في حياة مؤلفة الرواية، ولمَ لا وقد كان من بين الأشخاص الذين أسهمت الجمعية في إعادتهم للحياة والدة ماري شيلي نفسها، التي القت بنفسها في نهر التايمز أثناء نوبة اكتئاب مرت بها؟

وبجانب محاولات إعادة الحياة لهؤلاء الذين ظن البعض أنهم موتى بينما هم على قيد الحياة، كانت هناك محاولات جادّة أيضًا لإعادة إحياء الموتى الحقيقيين. وفي النصف الأخير من القرن الثامن عشر، وجد الطبيب الإيطالي لويجي جلفاني أنّ أرجل الضفدع قد دبّت فيها الحياة عندما ضربتها شرارة من الكهرباء. وفي مقدّمتها لطبعةِ عام 1831 من الرواية، ذكرت ماري شيلي كيف تأثرت كثيرًا أثناء إعدادها لروايتها بتلك المناقشات حول قدرة المرء على تحفيز العضلات الميتة كهربيًا.

إعلان

جثة فورستر العجيبة

في يوم السابع عشر من يناير 1803 شهدت مدينة لندن حدثًا فريدًا، للوهلة الأولى ظنّ الجميع أنه مشهد عادي من تلك المشاهد التي طالما شهدتها شوارع المدينة في بدايات القرن التاسع عشر، جمعٌ من البشر يسيرون خلف جثة لِمُتّهم تمّ إعدامه شنقًا في سجن نيوجيت، ومن ثم يتم نقل جثّته إلى الكلية الملكية للجراحين لتشريحها، لكن الذي حدث داخل المشرحة كان مشهدًا أكثر هولًا، فبدلًا من عملية تشريح عادية فإن جثة المدعو فورستر تم تعريضها لصدمة كهربية على يد الفيلسوف الطبيعي الإيطالي جيوفاني الديني، ابن شقيق العالم الإيطالي الشهير لويجي جلفاني، مكتشف “الكهرباء الحيوانية” في 1780.

الكهرباء

وكما ذكرت صحيفة اليوم التايمز في تقريرها عن الحدث العجيب: “ما أن وُضعت جثة  فورستر على لوح التشريح وشَرَع الديني ومساعدوه في إجراء تجاربهم وتوصيل الجثة بالكهرباء حتى بدأت عضلات وجه المجرم المتوفّي بالانقباض بصورة فظيعة، وتحرّك فكّاه، ثم فتح إحدى عينيه، وبدأت يده اليمنى ترتفع لأعلى، وتحرّكت الأرجل والأفخاذ وبدا للمتفرجين كما لو كان الرجل البائس على وشك العودة للحياة مجددًا.” الحقيقة أنّ الديني لم يكن يجري تجاربه على جثة فورستر من فراغ بل إنّ فكرة وجود علاقة حميمة بشكل غريب بين الكهرباء وعمليات الحياة قد سبقت تلك التجارب بمئة عام.

حين تمر الكهرباء عبر الجسم

سبق أن تكهّن إسحاق نيوتن بذلك في أوائل عام 1700. لكنّ مبدأ الموصلية الكهربية نفسه لم يظهر إلا عام 1730 على يد الفلكي الإنجليزي ستيفن جراي، الذي كان له السبق في إجراء أولى التجارب في هذا المجال حين علّق صبيًا يتيمًا على حبال حريرية في الهواء، ليصبح معزولًا كهربيًا، ووضع أنبوبًا كهربيًا ذا شحنة موجبة بالقرب من قدمي الصبي، وبالتالي اكتسبت القدمان شحنة كهربية سالبة بينما اكتسبت أطرافه العليا شحنة كهربية موجبة، وعند تقريب كشّاف كهربي من أصابع الطفل المعلّق انفرجت ورقتا الكشاف ليثبت جراي بالدليل القاطع أنّ جسم الإنسان موصل جيّد للكهرباء. وعلى الضفة الأخرى من بحر المانش وفي فرنسا، أُحضر جان أنطوان نولت إلى المحاكمة في فرساي عام  1746  لتسببه في قفز 180 حارسًا ملكيًا بصورة لا إرادية في وقت واحد عندما مرّت في أجسامهم شحنة كهربية صادرة من وعاء ليدن (جهاز لتخزين الشحنات الكهربية).

دفاعًا عن جلفاني

كان هدف الديني من إجراء تجاربه على الجثث هو الدفاع عن نظرية الكهربية الحيوانية التي تبنّاها عمّه لويجي جلفاني، في مواجهة اعتراضات عالِم إيطالي آخر هو اليساندرو فولتا؛ حيث ادّعى فولتا أنّ الكهرباء التي حرّكت أرجل الضفادع أثناء التجارب الشهيرة التي قام بها جلفاني ليست خاصية للأنسجة الحية وليست”كهرباء حيوانية” بل هي شحنات كهربية نشأت نتيجة الاتصال بين المعادن المختلفة.. ونستطيع القول بأنه كان هناك العديد من الفلاسفة الطبيعيين الآخرين الذين تناولوا أفكار جلفاني بحماس.
وقد جرّب الكسندر فون هومبولت البطاريات المصنوعة بالكامل من الأنسجة الحيوانية. وقام يوهانس ريتر حتى بإجراء تجارب كهربائية على نفسه لاستكشاف كيفية تأثير الكهرباء على الأحاسيس.

ماري شيلي وزوجها عاشق الكهرباء

فكرة أنّ الكهرباء هي مادة الحياة وأنه من الممكن استخدامها لإعادة الموتى كانت بالتأكيد واحدة من الأفكار المألوفة في الوسط الذي عاشت فيه الشابة ماري ولستونكرافت شيلي – مؤلفة فرانكشتاين، فقد فُتن صديق الأسرة الشاعر الإنجليزي صموئيل تايلور كولريدج بالعلاقة بين الكهرباء والحياة. وكتب إلى صديقه الصيدلي همفري ديفي بعد أن سمع أنه كان يعطي محاضرات في المعهد الملكي في لندن، يقول “عضلاتي قد ارتعشت وبدأت في الانقباض لدى سماعي عن الخبر، وبدا الأمر كما لو أنك قد قمت بتعرية أعصابي وعرضتها للكهرباء”. كما أنّ لو بيرسي شيلي نفسه -الذي سيصبح زوج ماري في 1816- كان هو الآخر من عشاق التجارب الجلفانية. اجتذبت تجارب الديني مع الموتى اهتمامًا كبيرًا. وقد سخر البعض من فكرة أن الكهرباء يمكن أنّ تعيد الحياة، وأخذ آخرون الفكرة على محمل الجد. منهم المحاضر تشارلز ويلكنسون، الذي ساعد الديني في تجاربه والذي رأى “أنّ الكهرباء تشكّل خط التمييز بين المادة والروح”.

جدال محتدم

في عام 1814، شهدت المحاضرة السنوية لكلية الجراحين الملكية جدالًا عنيفًا بين الجراح الإنجليزي جون ابيرنثي وزميله الجرّاح وليام لورانس. دافع ابيرنيثي في محاضرته عن فكرة كون الكهرباء هي القوة الحيوية، في حين أنكر لورانس الحاجة لاستدعاء قوة حيوية على الإطلاق لشرح عمليات الحياة. بالطبع كانت عائلة شيلي على علم أكيد بما يجري خلف الكواليس، فقد كان لورانس حينها هو الطبيب الشخصي للأسرة.

أوزي يعيد فرانكنشتاين إلى المشرحة

يبدو من كلّ ما سبق أنه وبحلول الوقت الذي نُشرت فيه رواية فرانكنشتاين في 1818، كان قرّاؤها على دراية بالفكرة القائلة بأنه يمكن إنشاء الحياة أو استعادتها بالكهرباء. بعد بضعة أشهر من ظهور الكتاب، قام الكيميائي الاسكتلندي أندرو أوري بتجاربه الكهربائية الخاصة على جثة ماثيو كليديسدال، الذي أُعدم بتهمة القتل، وكتب أوري في ملاحظاته: “عندما بدأت الكهرباء تسري في الجسد الممدّد أمامنا، انقبضت جميع عضلات وجهه على الفور، وارتسمت على  محياه خليط من مشاعر الغضب والرعب واليأس والكرب والابتسامات المروعة”.

وذكر أوري أنّ التجارب كانت مروّعة لدرجه أنّ “العديد من المتفرجين تدافعوا للخروج من الشقة وأغمي على أحد السادة”. ومن المغري التكهّن بالدرجة التي كانت فيها الرواية الأخيرة التي قامت بها ماري شيلي في ذهن أوري عندما أجرى تجاربه لكن من الواضح أن روايته لتلك التجارب بالتأكيد مكتوبة بشكل متعمّد تمامًا لتسليط الضوء على عناصرها المثيرة.

فرانكنشتاين يطل علينا من المستقبل

في زمن صدورها، جاءت رواية فرانكنشتاين تعبيرًا عن مخاوف جيل بأكمله من مستقبل غامض يطمح فيه العلم إلى كشف أسرار الحياة والموت، وبمرور الزمن تحولت قصة فرانكشتاين إلي نوع من الفانتازيا. لكنّ شبح الوحش يبدو ماثلًا في خلفية النقاشات الدائرة اليوم حول مستقبل الذكاء الصناعي والهندسة الوراثية.

العلم وراء فرانكنشتاين يذكّرنا بأن المناقشات الحالية حول مخاطر التقدم العلمي ليست وليدة اللحظة، ففي تلك السنوات من القرن التاسع عشر، بدأ الناس يفكرون في مستقبل مختلف، مصنوع من العلوم والتكنولوجيا. وكانت روايات مثل فرانكشتاين، التي صاغ فيها مؤلفوها  المستقبل من مكونات الحاضر، عنصرًا هامًا في تلك الطريقة الجديدة للتفكير في الغد. إنّ التفكير في العلم الذي جعل فرانكشتاين يبدو حقيقيًا جدًا في 1818 قد يساعدنا على النظر بعناية أكبر في الطرق التي نفكر بها الآن حول الاحتمالات -والمخاطر- لمستقبلنا.

المصدر
https://www.livescience.com/63938-frankenstein-experiments.html?utm_source=notification

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

إعداد: زكريا أحمد عبد المطلب

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا