فرانكنشتاين: عندما يتحول الملاك الساقط إلى شيطانٍ خبيثٍ

شئٌ مدهشٌ أنْ تقرأَ روايةً بهذا العمق الفلسفيّ “فرانكنشتاين” كاتبتُها سيدةٌ في الثمانية عشرة من عمرها في عام ١٨١٦!! فهل هي مجرد رواية قوطية تستدعي الأرواح الشريرة لتثير الرعب؟ هل ساهمت الأفلام السينمائية في تقديم نسخة مشوهة عن جوهر الرواية ؟ لماذا حازت هذه الرواية على اهتمام النقاد والقرّاء منذ مئتي سنة، حتى كانت مصدرًا خصبًا للعديد من الروايات التي استُوحيت من فكرتها؟

خلافًا للمتعارَف عليه، فإنَّ فكرةَ المسخ البشريّ الذي يتشكل من أشلاءِ جثثٍ شتى كانت معروفةً في أوروبا منذ القرون الوسطى؛ بل إنَّ بعضَ العلماء أجروا تجاربَ فعليّة ، وناقشوا ( سر الحياة) حتى انتهى المطافُ ببعضهم بإجراء تجاربَ على جثث بسريان تيار كهربائي، تنتفض الجثة من أثره ولكن كل هذه التجارب حظيت بلعنة الكنيسة؛ كونها تحاكي عملية الخلق …

العالِم فرانكنشتاين الذي حملت الروايةُ اسمَه هو شخصيةٌ حقيقةٌ عاش في قصر على ضفاف نهر الراين، وكان مهتمًا فعلًا بهذه التجارب، هذا ما انتهى إليه برنامجٌ وثائقيٌّ بحثَ في الجذور التاريخية لهذه الرواية ..

إذًا أين تكمن عبقرية المؤلفة ماري شيلي ؟

إذا تجاوزنا الصفحات السبعين الأولى من الرواية، فقد كانت مراسلاتٌ بين أخٍ و أختِه، يغلب عليها التكرار والحس الرومانتيكيّ في الكتابة، فإن فلسفةَ القصة تبدأُ بالتمظهر عندما يقرر الشابُ الطَموح المهوس بتحقيق مجدٍ شخصيّ له -فرانكنشتاين- السفرَ إلى انجوشتادت في ألمانيا، ويقوده هوسُه بالفلسفة الطبيعيّة إلى إجراء بعض التجارب ليتعرف على سر الحياة فيخلق مسخًا عملاقًا مقززَ الملامح ينفر منه الجميع، فهل كان هذا المسخ شريرًا؟ هل نخلقُ بتكوينٍ نفسيٍّ جهنميٍّ؟ في البداية لم يكن سوى صفحةً بيضاءَ تبحثُ عن الحب والاحتواء ولكن جميع من رأوه فرّوا هاربين منه وأولهم مبتدعه فرانكنشتاين ..

يهرب المسخ إلى الغابات ويعبر الأنهار .. يلعنه الفلاحون المرتعبون من مظهره .. ويلجأ الى زريبة؛ ويختفي فيها يقاسي البرد والجوع، ومن شقٍّ يرقب أهل الكوخ الذي بجانبه، تتحرك لديه مشاعر المحبة والألفة و يتمنى أن يحظى ببعض العطف الذي يراه يرفرفُ فوق سمائهم.. يبدأ في مساعدتهم من حيث لا يحتسبون دون أن يظهر لهم ، ليجدوا حزمة حطب في صباح ثلجيّ أمام بيتهم .. وبعد مضي سنة تعلّم خلالها لغتَهم وثقافتَهم، يذهبُ للأب الضرير لعله يحظى بعطفه دون أن يرفضه لمجرد منظره المرعب، في اللحظة الحاسمة التي كان سينال بها شفقة الأب يدخل فيليكس ابن الرجل الضرير ليجد المسخ واقفًا بالقرب من والده فينقض عليه محاولًا إيذاءه ..

إعلان

يفر المسخ لاعنًا فرانكنشتاين الذي ابتدعه ليُرضِي غرورَه وهوسَه وجعله يعيش وحدةً ويعاني من رفض المجتمع له، فيقرر أن ينتقم من بني البشر جميعًا، لتبدأ سلسلة جرائمه بقتل الطفل ويليام أخ فرانكنشتاين وهنا تجدر الإشارة إلى أنانية و سلبية فرانكنشتاين الذي كان يعرف القاتل الحقيقيّ لكنه آثر الصمت حتى لا يُتهَم بالجنون إن اعترف بحقيقة المسخ الذي أوجده؛ لتدفع الشابةُ جوستين روحَها ثمنًا لاتهامٍ باطلٍ بحقها لأن قلادة الطفل ويليام وُجِدت بين ملابسها مما يقودها إلى حبل المشنقة! ويلتقي فرانكنشتاين بالمسخ الذي يطلب منه أن يبدعَ له أنثى مسخًا تماثلُه في القُبْحِ، يسكنُ إليها ويقضي معها أيامه فلا يعود وحيدًا على أن يعتزلَ وإياها البشرَ ويعيشا في البراري.

يعده فرانكنشتاين و يذهب الى إنكلترا للتواصل مع عدد من العلماء قد تساعده أبحاثهم في مشروعه الجهنميّ .. وتمضي الحكاية إلى أن ينتقل الى أدنبره ويعتزل في مكان موحش ليتفرغ لأبحاثه، لكنه يَعدِلُ عن مشروعه ويرفضُ أن يكون سببًا في دمار البشرية وأن يأتي لها بمسوخ لا ترحمُ ..

يتوعده المسخ بالانتقام فيقتل هنري صديق فكتور فرانكنشتاين العزيز ويُتهم فرانكنشتاين بقتله ويُسجَن .. وبعد خروجه من السجن يَقتلُ المسخُ زوجةَ فرانكنشتاين ليلة زفافه، عندها يقسمُ فرانكنشتاين على الانتقام و يلاحقُ المسخَ حتى القطب الشماليّ ليلقَى حتفَه هناك، عندها يقرِّرُ المسخُ أن يموتَ أيضًا .

كان لزامًا ذِكرُ هذا التلخيص (وإن كان مطوَّلًا) حتى نتمكنَ من محاكمةٍ فلسفيةٍ للعمل؛ فالمسخ يدّعي أنّ طبيعته الأولى كانت خيرًا صِرفًا وأنّ ميولَه الإجرامية هي ردُ فعل لنبذ المجتمع له، فإلى أيّ حد يمكن الأخذ برأيه، أليس في ذلك تبريرٌ لتملصه من الحسّ الأخلاقيّ وتحمُّلِ المسؤولية عن أفعاله؟ أليس هناك العديدون ممن كانوا ضحايا للمجتمع لكنهم لم يسلكوا نهجًا إجراميًّا للتعبير عن نِقمتهم؟ ما الذي يضمن لنا أن ذاك المسخ (أو المجرم) لو عُومِل بطريقةٍ حسنةٍ كان سيسلكُ مسلكًا مختلفًا؟ أليس مسلكُه الخيِّر مجردَ احتمالٍ فيما سلوكُه العدوانيّ هو واقعٌ حقيقيّ؟ هل الطبيعة الخيِّرة عند الإنسان مشروطةٌ أم متجذرةٌ في ذاته؟ بمعنى هل نحن نعملُ الخيرَ لذاته أم لقاء تحقيق منفعة ما؟ لكن أليس من الإجحاف إنكارُ دور المجتمع في تكوين بعض العُقد النفسيّة التي قد تقود (البعض) إلى الإجرام؟ من زاوية أخرى قد تشدُّنا هذه الروايةُ لقضايا أكثرَ حساسيةٍ، عن طبيعة العلاقة بين الخالق و المخلوق.

فهل كان فرانكنشتاين مسؤولًا عن شر المسخ؟ إن كان هو خالقه ومبتدعه لماذا لم ينتزع الشر منه؟

لكن أليس في ذلك نوع من التسيير والجبرية المطلَقة إن فرضَ ( الخالقُ) على خلقه أن يتصرفوا بطبيعة واحدة؟ أين حريةُ التصرُّف وإرادةُ الاختيار؟ تبقى هذه الأسئلةُ معلَّقةٌ تنتظرُ محاكمةً عقليةً وإن طُرِحَت لنا بقالبٍ روائيٍّ فنتازيٍّ !

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: رائدة نيروخ

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

اترك تعليقا