هنري لويس غيتس جونيور يتحدث عن الحرية الأدبيّة باعتبارها حقًا إنسانيًا أساسيًا

يمتلك الشعار الرنان الدائم لمنظمة “بين أمريكا- PEN America”: “الحرية للكتابة” وقعًا خاصًّا على الكتّاب السّود، الذين استبسلت كثرة منهم في النضال من أجل هذه الحرية. كما قال “جيمس بالدوين”- James Baldwin مرةً: “افتقر الأمريكيون السود إلى لغة تعبّر عن أهوال حياتهم”. ربطت علاقة وطيدة  بين “التحرير” و”محو الأميّة”. نذكر أولا، أنّه، في العديد من الولايات مَنع القانون الرقيق من تعلم القراءة والكتابة، وتبع مرحلةَ تجارة الرقيق الوحشيّة، ورحلاتِ سفن العبودية عبر “الممر الأوسط”[ممر كانت تسلكه السفن التي تنقل العبيد إلى المستعمرات الأمريكية والأوروبية في الكاريبي وأمريكا الجنوبية]، والاستعبادَ مدى الحياة، قرنٌ آخر من الإعدامات خارج نطاق القانون، وقوانين جيم كرو العنصرية (الفصل العنصري)، والحرمان، وأشكال العنف التي تجيزه الدولة. يتساءل “بالدوين”: “هل خذلتنا اللغة الإنجليزية في مواجهة الإرهاب العنصري الممارس على السود؟ “ثم يجيب بحزم: “لا”، ويؤكد: “يجب علينا الإحاقة بها والانشغال بتطويعها والعمل على تجديدها حتى تشبهنا، كما ينبغي التحدث بها وفق أسلوبنا الخاصّ ونشرها بغية علاج هذا الإرهاب”. يصرّ “بالدوين”: “ليس تقبّل الماضي والتاريخ مثل العجز عن فهمهما، بل هو إتقان توظيفهما. لا شكّ أن هذا الأمر يشكّل جزءًا لا يجتزأ من حرية الكتابة”. (حريّة إثبات مدى “الإنسانية المشتركة” كاملا مع كلّ ما يلزم عن ذلك، بصرف النّظر عن مدى صعوبة العمليّة).

ماذا عن حرية التعلم؟ من يتمتع بحق التعلُم؟ وحق التعليم؟ وحق إثارة مواضيع حساسة في وقت تغدو فيه الرقابة على الثقافة على أوجها؟ يمرر أصحاب القرار اليوم في العديد من الولايات قوانين وقرارات بقصد ضبط ما يتناوله المعلمون في الصّفّ، وذلك بهدف إقصاء الحديث عن النظرية العرقية النقديّة، ومشروع 1619 الذي بدأته صحيفة نيويورك تايمز، بالإضافة إلى حظر كلمات مثل: “التعددية الثقافية”، و”العدالة”، و”امتيازات العرق الأبيض”. في الوقت نفسه، علينا ألا نعفي أنفسنا من عمليّة التدقيق؛ بعزلنا هويّة ما عن غيرها من الهويّات نبخس الخيال الإنسانيّ حقّه.

لقد تأثرت لأن هذه الجائزة يقدمها شخصان عزيزان جدًا على قلبي، ويمثلان، معًا، مُثل التعليم المقدّسة بالنسبة إليّ، أحدهما البروفسورالسابق “وولي سوينكا” (Wole Soyinka) الذي أرشدني إلى أقصى درجات الخيال المشيّد  للأساطير، والآخر الطالبة السابقة “جودي فوستر” (Jodie Foste) التي تحلت دراساتها المبكرة حول “توني موريسون” (Toni Morrison) ببصيرة ثاقبة. كانت فكرة التماثل مع الموضوع لإتقان الكتابة عنه (كتابات النساء عن الرجال، وكتابات السود عن البيض)  بمثابة تحيّز اضطر أسلافنا إلى تحدّيه. في السنة نفسها التي رفضت فيها “روزا باركس”(Rosa Parks) ترك المقعد المخصص للبيض في حافلة النقل المشترك الشهيرة، أنهت “توني موريسون” رسالتها للماجستير في جامعة “كورنيل”(Cornell University) والتي تناولت “فيرجينيا وولف”(Virginia wolf) و “ويليام فوكنر”(William Faulkner) وتمتعت بنفس استثنائية جلوس باركس في المقعد المخصص للبيض، فاحتلت بها موقعا استثنائيا بين دارسي منتخبات الأدب الحديث. ينبغي على أي معلم أو طالب، أو قارئ، أو كاتب حاز الدافع والاهتمام الكافيين أن يكون حرًا في اختيار المواضيع التي يتناولها، وليس هذا جوهر التعلم فحسب، بل هو جوهر كوننا بشرًا.

ساعدني العظيم “سوينكا” على استيعاب هذا الأمر عندما أتيت، منذ خمسة عقود تقريبًا، لأدرس على يديه في جامعة كامبريدج. على الرغم من أنني لم أكن إفريقيًا، دع عنك “اليوروبا” [لغة تمارس في النيجر والكونغو]، استقبلني “وولي” في عالمه الأسطوري المتجاوز للواقع الغنيّ بالاستعارة والممكنات والتنبؤ بألوهيات غير مألوفة. كم كانت سعادتي عظيمة وأنا أكتشف هذه العوالم الجديدة! منذ ارتيادي في شبابي الكنيسة في غرب فرجينيا، يستحوذ على تفكيري هذا المقطع من سفر إرميا: “ادعني فأجيبك وأخبرك بعظائم وعوائص لم تعرفها”.

من جهة أخرى، درس أول حائز على جائزة نوبل للآداب من “إفريقيا السوداء” (إفريقيا جنوب الصحراء)   شيكسبير على يد الناقد الكبير “ج. ويلسون نايت” (G. Wilson Knight) والذي أشاد به لاحقًا باعتباره واحدًا من ألمع طلابه. يدعونا الخيال الأدبي جميعًا للوقوف على ما أسماه “دبليو إي بي دو بوا” (W.E.B Du Bois): الحجاب [مجموعة من القيود المجتمعية أو القانونية] الضارب بين البيض والسود حين كتب متعاطفا: “استدعيت أرسطو وأورليوس وأيّ روح استطعت إليها سبيلا، فتفضلو بالحضور دون استهانة ولا استخفاف، إذا في اتحادي مع الحقيقة، أحيا فوق ذلك الحجاب” … لم يفسح “دو بوا” المجال أمام أحد ليملي عليه حدوده ومهد طريقه بنفسه حين تطلّب الأمر ذلك.عَرف بصفته مناضلا دائما أن التحرير لم يتحقق بإقصاء الأصوات المعارضة، ولم يكن الصبر، قيمته المثالية بل كانت الشجاعة.

إعلان

ما أدين به لأساتذتي وطلابي على حد سواء، هو حس مشترك بالدهشة والرهبة بينما نتأمل أعمال الخيال البشري عبر الزمان والمكان، وهي أعمال قام بها أشخاص لا يشبهوننا، وغالبًا، سيندهشون من معرفتنا بأعمالهم وأسمائهم. يمكن للهويّات الاجتماعية أن تربطنا بطرق عديدة ومتشابكة، نحن نخون هذه الهويات بتحويلها إلى صوامع مراقَبة ولا نحميها بهذه الطريقة. لا يتسع مدى حرية الكتابة إلا بحماية حرية القراءة، والتعلم أيضًا. ولعلّ أهم ما يجب تعلمه في هذه الأيام العاصفة هو احتياجنا جميعا إلى مزيد من التواضع والإنسانية.

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

ترجمة: أفراح مروّة

اترك تعليقا