ريتشارد قلب الأسد في الأسر (1): ملك إنجلترا هاربًا!
لم تكن رحلة العودة من الحملة الصليبية لملك مثل ريتشارد قلب الأسد سهلة، بالطبع لا، ربما لاقى خلال عودته خطرًا أكبر من الحملة الصليبية ذاتها، قضى عامين في حروب الحملة، وقضى ما يقارب عامين أيضًا في رحلة عودته، لكن لم تكن في ميدان المعركة أو المجد، إنما في الأسر!
الأوضاع في المملكة
بعدما انتهى ريتشارد قلب الأسد أخيرًا من مشاكله في الشرق، كانت مصائبه في الغرب تتضاعف، حيث دخلت إنجلترا في ما يشبه الحرب الأهلية بغيابه، خاصة مع تعدد أصحاب المناصب الرفيعة التي باعها لهم ريتشارد لتمويل الحملة الصليبية، فحدث تضارب في السلطات، وحملت مناصب مختلفة نفس السلطة، فتسبب في مواجهات بينهم، بينما استغل شقيقه الأصغر جون الأوضاع في تثبيت سلطته، وتأكيد نفسه كملك بالإنابة في ظل غياب الملك، بالرغم من أن ريتشارد رفض تعيينه حتى وليًا للعهد، لكن الخلاف الأكبر كان سببه مستشار ريتشارد ‘لونجشامب’ الذي اختاره لأنه كان فاسدًا ومكروهًا، فلا يلتف حوله الجميع ويهدد الملك، لكن خطته سببت العكس، فالتف الجميع واتحدوا ضده، وتعاون فصيل مع جون والبعض لمواجهته، وبدأ صراع مسلح ضد المستشار، حتى أجبروه على الهرب من إنجلترا، حيث تنكر بثياب امرأة وهرب على متن سفينة تجاه فرنسا، وسيطر جون على إنجلترا.
على الجانب الآخر، ما لبث فيليب ملك فرنسا أن عاد من الحملة الصليبية الثالثة، حتى نكث عهده لريتشارد وبدأ تجهيزات الهجوم على أراضيه، متجاهلًا القسم المقدس، ومخالفًا قانون الكنيسة الذي يقضي بوضع بلاد المشاركين في الحملات الصليبية تحت حماية البابا، لكنه برر أنه يريد استعادة حقه من مهر شقيقته كما اتفق مع ريتشارد من قبل، لكن النبلاء ورجال الدين في فرنسا رفضوا مشاركته، وطالبوه بالتوقف واحترام الكنيسة، حتى تخلّى عن الحرب العلنية، واتفق في السر مع شقيق ريتشارد على التحالف، على أن يتزوج جون شقيقة الملك التي كانت خطيبة ريتشارد في الأساس، وأن يتخلّصا من ريتشارد سوياًّ، وافق جون بحماسة، وبدأت خطتهم معًا
لكن مشاكل ملك إنجلترا كانت أكبر من ضياع عرشه، فقد كان سجينًا في ألمانيا!
لماذا العداء مع ألمانيا؟
العداء مع فرنسا واضح ومعروف أسبابه وملابساته، لكن ألمانيا بعيدة عن إنجلترا، ولا تربطهم علاقات مباشرة ولا عداوة، حتى أن العلاقات بين البلدين أغلب الوقت كانت جيدة، فما سبب العداوة؟
في الطريق إلى القدس، قام ريتشارد ببعض الاعتداءات والتجاوزات، أولًا عندما هاجم مدينة ‘مسينا’ في إيطاليا حيث كانت تعيش أخته، لأن حاكمها اغتصب العرش من وريثة الملك المتوفي، زوج شقيقة ريتشارد، وبعد الصلح مع حاكمها، دخلا في تحالف معًا، غضب إمبراطور ألمانيا أو الإمبراطور الروماني المقدس، ببساطة لأنه زوج الأميرة “Constance” الوريثة الشرعية، وباعتراف ريتشارد بالحاكم والتحالف معه، ضاع حق زوجته، وبالتالي فقد سلطته على المملكة، فتوعد ريتشارد بالانتقام.
على الجانب الآخر، هاجم ريتشارد ‘قبرص’ واحتلها أيضًا، وقام بسجن ملكها حتى الموت، وأعطى ابنة الملك كخادمة لزوجة ريتشارد، ابنة الملك كانت قريبة ل ‘أرشيدوق النمسا’، والذي كان مشاركًا في الحملة مع ريتشارد، وطلب التوسط من أجل الإفراج عن قريبته ووالدها، لكن ريتشارد بعجرفته رفض وعنفه وأساء معاملة الأرشيدوق، وعندما حاول الأخير رفع أعلامه في عكا بعد دخولها، أنزل ريتشارد العلم وداسه بالأقدام، وأهان حاكم النمسا بتكبر وتلفظ بالشتائم تجاهه.
وخلال ما تبقى من الحملة، قامت بينهما عداوة حيث طرده ريتشارد خارج مدينة عسقلان عندما رفض المشاركة في إصلاح الجدران والتحصينات، وتوعده الأرشيدوق بالانتقام أيضًا، وحيث إن النمسا تعد جزءًا من الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والأرشيدوق تابع للإمبراطور، فإن إهانته إهانة لحاكم ألمانيا ذاته، كذلك ضمت ألمانيا العديد من أقرباء ‘كونراد’ أحد المتنازعين على لقب ملك القدس، والذي اتّهم ريتشارد بقتله، فكان طريق ريتشارد خلال ألمانيا لا يقل خطورة عن فرنسا، كما سيكتشف بعد ذلك.
القبض على ريتشارد قلب الأسد
غادر ريتشارد الأراضي المقدسة متخفيًّا في زي فارس متواضع، وأخفى أخبار رحيله عن الجميع، وحاول المغادرة في الصباح الباكر، حتى لا يراه أحد، ولا تصل الأخبار إلى شقيقه جون في إنجلترا أو ملك فرنسا، فيكيدوا له في الطريق أو يأخذوا حذرهم.
كذلك لم يستطع العودة في طريقه من خلال فرنسا، لأنه سيكون صيدًا سهلًا في يد عدوه، الذي لم يضيّع الوقت في اتهام ريتشارد بالخيانة والاتفاق مع صلاح الدين، وقاد حملة لإفساد سمعة ريتشارد حول أوروبا، والرحلة بالبحر مباشرة إلى إنجلترا صعبة وطويلة، وأراد تفادي أي منطقة يمكن لأحد التعرف عليه فيها، فكان الالتفاف خلال ألمانيا الحل الأمثل، بالرغم من كونها أرض أعدائه أيضًا.
فغادر ريتشارد قلب الأسد في صحبة أسطول صغير من السفن، ولكن قامت بعض العواصف والرياح العاتية، كما يحدث كل مرة يحاول فيها ريتشارد عبور البحر، وتفرقت السفن في أنحاء عدة وتدمر بعضها، لكن سفينة ريتشارد نجت كونها أقوى وأفضل من الباقين، كذلك سفينة زوجته وشقيقته التي توجهت لصقلية بسلام، أما ريتشارد فتوجه إلى ألمانيا، وعندما نزل إلى الأرض، تنكر في زي تاجر غني قادم من الحج في القدس، وغير من شكله وترك لحيته وشعره ينموان، ليكمل الطريق في تخفي.
لكنه مارس عاداته السيئة من الإسراف والبذخ، فكلما مر على قرية أو مدينة، لفت أنظار الجميع إليه، وأصبحت أخباره على ألسنة العامة في كل مكان، لكنه تجاهل كل ذلك واستمر في طريقه كأن لا أعداء يتربصون به في كل مكان، بعد السفر بسلام لأيام في طرق معزولة ناحية الجبال، اقترب من مدينة كبيرة، فآثر استئذان حاكمها قبل المرور بحاشيته تفاديا لأي صدام، فأرسل للحاكم بخاتم من الأحجار الكريمة يطلب إذنه بالعبور، ما لم يعرفه ريتشارد أن أخبار عودته كانت قد تسربت في كل مكان، وفطن البعض أنه قد يعود من خلال ألمانيا ومن بينهم الحاكم، الذي كان بالصدفة من أقرباء ‘كونراد’ الذي اتُهم ريتشارد بتدبير قتله كما ذكرنا، لكن الحاكم تسلم الخاتم وأرسل لريتشارد يخبره أنه يعلم هويته الحقيقة، لكن سيسمح له بالعبور بسلام.
وقعت الصدمة على ريتشارد وخشي رسالة الحاكم، وقرر الإسراع فورًا مع اثنين أو ثلاثة فقط من حاشيته، لتفادي أي كمين للمجموعة وليتمكن من الانتقال بسرعة، وحدث ما كان يخشاه، تم القبض على من تركهم خلفه، وعرضت الحكومة الألمانية مكافأة لمن يمسك بالملك الهارب، كذلك علم الجميع بوجوده وتخفيه، وتهيأ الناس للإمساك به من أجل المكافأة.
لأيام تمكن ريتشارد من السفر بأمان، حتى تعرف عليه أحد الفرسان من نورنامدي التابعة لريتشارد، فرفض الفارس خيانته، وأخفاه في منزله ومده بحصان سريع وطعام، وقبل الانتقال من جديد تخلى عن معاونيه ما عدا خادمه الصغير، وأكمل رحلته لثلاثة أيام بعيدا عن الأنظار، حتى نفذ الطعام والشراب، واضطر لإرسال فتاه إلى سوق إحدى القرى، لكن ما لم يكن يعرفه ريتشارد، أنه قد ضل الطريق وكان يقترب من مدينة ‘فيينا’ عاصمة النمسا والأرشيدوق عدوه اللدود.
بقي ريتشارد في مكانه ليومين للراحة، عندما أرسل الفتى للقرية شك فيه الناس وفي لكنته الغريبة، لكنه أقنعهم أنه خادم لتاجر غني، لكن في المرة الثانية زاد الشك، خاصة وأن الفتى كان بحوزته الكثير من المال، وارتدى ملابس غالية تليق بخادم ملك، فقاموا بالقبض عليه واستدعوا الشرطة، التي قامت بجلده ليدل على ريتشارد، لكنه قاوم، حتى هددوه بقطع لسانه فأصابته الرهبة ودلهم على مكان الملك.
أسرع الجنود باتجاه مكان اختباء ريتشارد، وحاصروه فادعى أنه مجرد طابخ، لكن خاتمه الثمين فضح السر، ثم حاول الهرب أو القتال، حتى أخبرهم أنه لن يستسلم إلا لحاكم المدينة، ربما لكسب الوقت ولم يكن يعلم أنه بالقرب من فيينا، فجاء الأرشيدوق بعدها بفترة قصيرة، وسلم ريتشارد سيفه ودخل في الأسر عام 1192، ليصبح أول وآخر ملك انجليزي في التاريخ يتم القبض عليه من قوة أجنبية، وقال له حينها الأرشيدوق بابتسامة صفراء وتشفي: “أنت محظوظ لأنك وقعت في يدي، فأنا منقذك لا عدوك، إذا وجدك أقرباء كونراد، كانوا سيقتلونك على الفور”.
المصادر -Kings & Queens of England: Normans, Alan Ereira -Plantagenets: The Warrior Kings Who Invented England -History Makers Richard I: The Lion Heart -Lionheart: The True Story of England's Crusader King -Richard I: The Crusader King -History of England, David Hume