طبيعة المعرفة العلمية
تأليف: أنثوني كاربي ANTHONY CARPI وآن إي إيغر ANNE E. EGGER.
ملاحظة: (لقراءة سلسلة المنهج العلمي من البداية، يمكنك البدء بالمقال الأول في الوقت الحاضر).
يبدو من غير المعقول بالنسبة لنا أنَّ الناسَ اعتقدوا في وقتٍ ما أن الأرضَ مسطحةٌ؛ إذ مَن مِن الممكن أن يكون قد اعتقد أن الأرض قرصٌ عملاقٌ تعلوه السماء والنجوم والجلاميد وجذور الأشجار والأشياء الأخرى في الأسفل؟ إلا أن هذا كان هو المنظور الشائع في معظم أنحاء العالم في الفترة قبل القرن الثاني قبل الميلاد، مع اختلاف التفاصيل بين الثقافات. فلم يكن المستكشفون الذين أبحروا حول العالم هم الذين أزاحوا الشكّ عن هذه الفكرة، ولكنه تراكم الأدلة هو الذي أزاحَ عنها غبار الشكِّ قبل وقتٍ طويل.
لقد تحدَّث الفلاسفة الإغريق عن الأرض الكروية في القرن السادس قبل الميلاد، إذ لاحظوا أن القمر ظَهَر لهم كرويًا؛ فاستدلوا بذلك على أن الأرض كرويّة. وبعد مئتي عامٍ في القرن الرابع قبل الميلاد، لاحظ الفيلسوفُ الإغريقي أرسطو الانحناءَ الدائمَ لظلِّ الأرض على القمر عند خسوف القمر، موفرًا بذلك أول دليل على كروية الأرض. وفي القرن الثالث قبل الميلاد، لاحظَ الرياضي إيراثوستسين أنه في الظهر وقت الانقلاب الصيفي في مدينة أسوان المصرية القديمة تعلو الشمسُ الأجسام مباشرةً ولا تلقي الأجسام بظلها.
كان إيراتوثسين من مدينة الإسكندرية التي تبعد 500 ميلًا إلى الشمال، وعرف أن برجًا طويلًا يلقي بظلِّه في تلك المدينة في الفترة ذاتها من الانقلاب الصيفي، وباستخدام هذه الملاحظات والقياسات لطول الظلّ والمسافات، استدلَّ على انحناء سطح الأرض، وحسَبَ تقديرًا دقيقًا لمحيط الكوكب بصورةٍ مذهلة. وبعد ذلك بسنوات، أضاف الجغرافي الإغريقي سترابو إلى الدليل عندما لاحظَ أن البحَّارة رأوا بعضَ الأشياء تتحرك إلى الأسفل على الأفق وتختفي عندما أبحروا بعيدًا عنها. لقد اقترحَ أنَّ هذا يعود إلى أن الأرض منحنية، وأن البحّارة لا يتحركون مبتعدين عن الأشياء فقط، وإنما يتحركون حول الأرض عند إبحارهم بعيدًا.
لم يسم كلٌ من أرسطو وإيراثوستسين وسترابو أنفسَهم علماء، لكنَّهم استخدموا المنهج العلمي، فقد وضعوا الملاحظات، وزوّدونا بتفسيراتٍ لتلك الملاحظات. وهكذا عرفنا أن الأرض كروية قبل إبحار فيرديناند ماجلان حول الأرض عام 1522م، أو قبل إرسال فضائيي أبولو 8 لصور الأرض عام 1968م لتوثيق شكلها الكروي. كان على هؤلاء الفضائيين التيقُّن بأن الأرض كرة تدور، وأنَّ لها مدار حول الشمس، أو بغير ذلك لن يدخلوا في المدار. إنها طبيعة العلم والمنهج العلمي التي أكسبتهم هذه الثقة، إذ أن فهم الفروقات بين المعرفة العلمية وأنواع أخرى من المعرفة هو أساسيّ لفَهم العلم.
ما هو العلم؟
يتألّف العلمُ من شيئين، هما: هيكل المعرفة، والمنهج الذي ينتج هذه المعرفة. يزوِّدُنا المكوِّن الثاني بطريقة نفكر من خلالها ونعرف عن العالم. تقتصر رؤيتنا على مكون هيكل المعرفة من مكونات العلم، ونتيجة لذلك، لا تقدم لنا إلا المفاهيم العلمية على شكل عبارات، مثل: الأرض كروية، والإلكترون ذو شحنة سالبة، ويحتوي حمض الـ DNA على شيفرتنا الوراثية، والكون عمره 13.7 مليار سنة. وكل هذا يُقدَّم بخلفيةٍ بسيطةٍ عن المنهج الذي قاد إلى تلك المعرفة وسبب ثقتنا به. بيد أنه ثمة أمور عدة تميز المنهج العلمي وتمنحنا الثقة في المعرفة التي ينتجها، وعليه، فما هو إذن المنهج العلمي؟
المنهج العلمي هو طريقة لبناء المعرفة واستنتاج التنبؤات عن العالم بطريقةٍ قابلة للاختبار. إن سؤالَ عمّا إذا كانت الأرض كروية أم مسطحة يخضع للاختبار ويمكن دراسته من خلال أطر متعددة من البحث، ثم تحدد الأدلة المقيمة فيما إذا كانت تدعم الأرض الكروية أو المسطحة. تستخدِم فروعُ المعرفةِ العلمية المختلفة أساليبَ ومناهج مختلفة لدراسة العالم الطبيعي، إلا أن التجربة تقع في قلب البحث العلمي لكافة العلماء، وبما أن العلماء يُحلّلون البيانات ويفسرونها، فإنهم يولّدون الفرضيات والنظريات والقوانين لمساعدتهم في تفسير نتائجهم ووضعها في سياق البنية الكبرى للمعرفة.
يختبر العلماءُ هذه الأنواع من التفسيرات من خلال التجارب الإضافية والملاحظات والتجارب والدراسات النظرية. وهكذا، يبني هيكل المعرفة العلمية على أفكارٍ سابقةٍ وينمو بصورةٍ ثابتة، ثم تتم مشاركته بتَرَوٍ من خلال عملية مراجعة الأقران وتعليقات العلماء على أعمال بعضهم، ومن ثم نشرها في المطبوعات العلمية حيث يقيّمها المجتمع العلمي ويدمجها ضمن إطار المعرفة العلمية.
هذه ليست النهاية، فإحدى أهم الخصائص المميزة للمنهج العلمي هي أنه قابل للتغيّر؛ حيث تُجمع بيانات جديدة وتظهر تفسيرات جديدة للبيانات الموجودة. بيد أن النظريات الكبرى المدعومة بالأدلة نادرًا ما تتغير تمامًا، حيث تضيف البيانات الجديدة والتفسيرات المختبرة تفاصيل وإضافات جديدة.
الطريقة العلمية في التفكير يمكن للجميع استخدامها في أي وقت، سواء كانوا يطورون تفسيرات ومعرفة جديدة أم لا. ينضوي التفكير العلمي على طرح أسئلة يمكن إجابتها بصورةٍ تحليلية من خلال جمع بيانات أو خلق نموذج ثم اختبار الأفكار. كما تتضمن الطريقة العلمية في التفكير إبداعًا في معالجة التفسيرات مع البقاء ضمن قيود البيانات.
إن التفكيرَ بأسلوبٍ علميّ لا يعني رفض ثقافتك وخلفيتك، وإنما يعني إدراك الدور الذي تلعبه في طريقة تفكيرك. ففي حين تعتبر التفسيرات المُختَبرة جزءًا أساسيًا من مكوّنات التفكير العلمي، فإن ثمة طرق أخرى صحيحة في التفكير في العالم من حولنا لا تخضع دائمًا للتفسيرات المختَبَرة، تأخذ طرق التفكير هذه منحى تكامليًا وليس منحى تنافسيًا؛ نظرًا لتناولها جوانب مختلفة من التجربة الإنسانية. إنه من السهل علينا الثقة بالمنهج العلمي ومعرفتنا عند قدرتنا على توفير أدلة لا تقبل الدحض، مثل قدرتنا على الدوران حول الأرض بسفينةٍ فضائية والتقاط صورة واضحة لكوكبٍ كرويّ. بيد أن معظم البحوث العلمية لا تقود إلى نتائج مدعومة بسهولة، ولا نزال نعتمد عليه ونثق بالمعرفة التي ينتجها. لماذا نثق به؟ لأنه يعمل. إن للعلم تاريخًا طويلًا في إنشاء معرفة مفيدة وتعَمُّق رؤيتنا لما يحيط بنا، خذ مثلًا إحدى العبارات المبينة أعلاه: “عمر الكون 13.7 مليار سنة”، لماذا نثق بصحتها؟
اختبارٌ للاستيعاب:
المنهج العلمي هو طريقة لبناء معرفة واستنتاج تنبؤات:
قابلة للاختبار.
مقبولة بصفتها قانونًا علميًا.
عمر الكون
كم عمر الكون؟ كيف يمكن معرفة عمر شيءٍ ما لم ينشأ ببساطة قبل تاريخ الإنسان، وإنما حتى قبل أن يأتي الكوكب نفسه إلى الوجود؟ يصعب تناول هذا السؤال من المنظور العلمي؛ بحيث كان العلماء في بدايات القرن العشرين يعتقدون أن الكون كان لا نهائيًا وسرمديًا موجودًا طوال الوقت.
الآلات والقصور الحراري
إنّ الدلالةَ الأولى على أن الكون لم يكن أزليًا أتت من مصدرٍ مُستبعَدٍ وهو دراسة المحركات، ففي عشرينات القرن التاسع عشر، كان سادي كارنوت -وهو ضابطٌ شاب في الجيش الفرنسي- في إجازةٍ من العسكرية الفرنسية، وأثناء تلقّيه الدروس في مؤسسات عديدة في باريس، أصبح مهتمًا بالمسائل الصناعية، وفوجئ بعدم إجراء دراسات علمية حول المحرك البخاري الذي كان اختراعًا حديثًا نسبيًا آنذاك ولم يُفهَم فهمًا عميقًا. اعتقد كارنوت أنه يمكن فهم المحركات بصورةٍ أفضل، إذ أن ثمة خاصية مشتركة بين العلماء، وهي عملهم على فهم الأمور بصورةٍ أفضل، لذلك فقد درسَ انتقال الطاقة خلال المحركات. أدرك كارنوت أنه لا يوجد محرك تبلغ كفاءته نسبة 100%؛ لأن ثمة مقدار من الطاقة يتم فقدانه على شكل حرارة. وقام بنشر أفكاره في كتاب “تأملات في الطاقة الباعثة للنار وللآلات المناسبة لتطوير هذه الطاقة Reflections on the Motive Power of Fire and on Machines Fitted to Develop that Power”، والذي قدَّم فيه وصفًا رياضيًا لكمية العمل المتولدة من المحرك فيما سمي بدورة كارنوت [كارنوت، 1824].
[تمثل درجات الحرارة المرتفعة، الأجزاء الحمراء والصفراء في الصورة نسبًا أعلى من فقدان الحرارة].
يمثل فقدان الحرارة فقدانًا لكفاءة المحرك ومساهمة في القصور المتزايد في الكون. لم يلقَ عمل كارنوت اهتمامًا في حياته؛ إذ مات نتيجة إصابته بالكوليرا عام 1832م، وكان عمره آنذاك فقط 36 عامًا. بيد أن الآخرين بدأوا بإدراك أهمية عمله وبنوا عليه. أحد هؤلاء العلماء هو “رودولف كلوسيوس” وهو فيزيائي ألماني، أظهر أن مبدأ كارنوت لا يقتصر فقط على المحركات، وإنما يتعدى ذلك إلى كافة الأنظمة التي يحدث فيها انتقال للطاقة. إن تطبيق كلوسيوس لتفسير ظاهرة ما على ظواهر كثيرة أخرى هو خاصية أخرى من خصائص العلم، فهو يفترض أن العمليات كونيّة. في عام 1850، نشر كلوسيوس ورقةً طوَّر فيها القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الطاقة تتدفق من وضعية طاقة عالية مثل نظام ساخن إلى وضعية طاقة منخفضة مثل نظام بارد. وفي عمل لاحق، صك كلوسيوس مصطلح القصور الحراري Entropy لوصف فقدان الطاقة من نظام ما عند انتقالها، وتكريمًا لعمل سادي كارنوت الرائد، استُخدِم الرمز S للإشارة إلى القصور الحراري لنظامٍ ما. لكن، ما علاقة المحركات والقصور الحراري بعمر الكون؟ في عام 1865م نشر كلوسيوس ورقةً أخرى أعاد فيها صياغة القانون الثاني للديناميكا الحرارية “إن القصور الحراري للكون يتجه إلى الأعلى”، فإذا كان الكون أزليًا ولا نهائيًا، فإن القانون الثاني للديناميكا الحرارية يقول أن كل طاقة هذا الكون كانت ستُفقد إلى القصور الحراري في الوقت الحالي، وبعبارةٍ أخرى: لاحترقت النجوم ذاتها وتبدَّدت حرارتها في فضائها المحيط. إن حقيقة وجود نجوم نشطة تعني أن الكون وُجِد لفترة محدودة من الزمن وأنه قد تكوّن في فترة محددة من الزمن. ربما يتم تحديد عمر هذه الفترة من الزمن.
اختبار للفهم:
العلم يفترض أنّ:
أ- العمليات الطبيعية كونية.
ب- كل عملية محددة للنظام الذي تمت ملاحظته.
الانزياح الأحمر وتأثير دوبلر
في الوقت ذاته، كان الفيزيائي النمساوي “كريستيان دوبلر” يدرس الرياضيات والفلك. عرف دوبلر أن الضوءَ يتصرَّف كموجةٍ، ثم بدأ يفكر بتأثير حركة النجوم على الضوء المنبعث منها. في ورقةٍ نشرت عام 1842م، أشار دوبلر إلى أن تردُّد الموجة الملحوظ يعتمد على السرعة النسبية لمصدر الموجة بما يرتبط بالملاحِظ، في ظاهرةٍ أسماها “انزياح التردد”. كما عمل قياسًا على سفينة تُبحر في المحيط، فيصف كيفية مواجهة السفينة لأمواجٍ على سطح الماء بسرعةٍ أكبر وتردُّدٍ أعلى إذا كانت تبحر في مواجهة الأمواج منها لو كانت تسافر في نفس الاتجاه مثل الأمواج. ربما اطّلعت على تأثير دوبلر الذي سمي على شرفِه إذا استمعت إلى صوت أزمة السير وأنت على جانب الطريق، إن التغير في درجة الصوت من الأعلى إلى الأسفل هو مثال على التأثير، أي لم يتغير التردد الفعلي للموجات المنبعثة، لكن سرعة المركبات المارة تؤثر في سرعة وصول الموجات إليك. يشير دوبلر إلى أننا سنرى نفس التأثير في أي نجمٍ يتحرك، إذ أن النجوم سيتغير لونها إلى نهاية الطيف الأحمر إذا ابتعدت عن الأرض فيما يسمى بـ”الانزياح الأحمر”، وإذا اقتربت فإن اللون سيتغير نحو الأزرق فيما يسمى بـ”الانزياح الأزرق”. كما توقّع أن يرى هذا الانزياح في النجوم الثنائية أو أزواج النجوم التي تدور حول بعضها. وفي النهاية، فإن ورقة دوبلر المنشورة عام 1842م تحت عنوان “في الضوء الملون للنجوم الثنائية ونجوم محددة أخرى في السماوات On the coloured light of the double stars and certain other stars of the heavens” ستُغيِّر الطريقة التي كنا ننظر بها إلى الكون في ذلك الوقت رغم عدم قدرة التلسكوبات آنذاك على تأكيد هذا الانزياح.
أصبحت أفكارُ دوبلر معروفةً في الأدبيات العلمية، وبالتالي أصبحت معروفة بين العلماء الآخرين. ففي أوائل القرن العشرين، تلاءمت التكنولوجيا أكثر مع دوبلر، واستُخدِمت تلسكوبات أكثر قوة في اختبار أفكار دوبلر.
في أيلول من عام 1901م، أتمَّ طالبٌ أمريكي يدعى “فيستو سلايفر” درجةَ البكالوريوس في الميكانيكا والفلك من جامعة “إنديانا”، ثم حصل على وظيفةِ مساعد مؤقت في مرصد لويل في مدينة “فلاجستاف” في ولاية “أريزونا”، بينما كان يتم دراساته العليا في جامعة إنديانا. بعد فترة يسيرة من التحاقه بالمرصد، حصل المرصد على مطياف ذو منشور ثلاثي، وكانت وظيفة سلايفر رفعه على تلسكوب بـ 24 إنش في المرصد، وتعلُّم كيفية استخدامه لدراسة دوران الكواكب والنظام الشمسي. وبعد أشهرٍ من المشاكل والأعطال، أصبح سلايفر قادرًا على التقاط صور طيفية للمريخ والمشتري وزحل، بيد أن اهتمامات سلايفر البحثية على المستوى الشخصي كانت أعمق من دراسة كواكب المجموعة الشمسية، فمثل دوبلر، كان مهتمًا بدراسة طيف النجوم الثنائية، وبدأ بفعل ذلك أثناء وقت فراغه في المرصد. في العقد الذي تلاه، أتمَّ سلايفر درجتي الماجستير والدكتوراه في جامعة إنديانا، في الوقت الذي كان يتابع فيه عمله في المرصد في قياس الطيف وانحياز دوبلر في النجوم. وبالتحديد، ركز سلايفر اهتمامه على دراسة النجوم ذات السديم الحلزوني؛ فهو يتوقع أن يجد الانحياز المنظور في طيف النجوم، والذي قد يدلُّ على أن المجرّات التي تنتمي إليها النجوم تدور. وفي الحقيقة، يُنسَب له الفضل في معرفة أن المجرات تدور، كما كان قادرًا على تحديد سرعات دورانها. لكن نتيجةً لدراسة 15 سديمًا مختلفًا؛ فقد أعلن عام 1914م في اجتماعٍ عُقِد في شهر آب في الجمعية الفلكية الأمريكية عن اكتشاف مثير للفضول قائلًا: “في الأغلبية الساحقة من الحالات التي تتراجع، فإن السرعات العظمى تعتبر إيجابية؛ إذ يشير التفوق المهيمن للإشارة الإيجابية إلى نفورٍ عام منّا أو من درب التبانة”.
وضع سلايفر تفسيرًا جديدًا بناءً على ملاحظاته، فأوجد بدوره منظورًا جديدًا حول الكون. واستجابةً لما قَدَّم؛ لاقى ترحيبًا كبيرًا من العلماء.
تابع سلايفر عمله في دراسة الانحياز الأحمر والمجرات، إذ نشر ورقةً بحثيةً عام 1917م بعد اختبار 25 سديمًا مختلفًا، وشهد انحيازًا أحمرًا في 21 سديمًا منها، كما بنى الفيزيائي والفلكي البلجيكي “جورج لوميترا” على عمل سلايفر بينما كان يتم درجة الدكتوراه في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا. فقد عمَّم قياسات سلايفر على الكون برمته وأثبت رياضيًا أنه لا بد أن يتمدد الكون لتفسير ملاحظات سلايفر. ثم نشر أفكاره في ورقة بحثية عام 1927م تحت عنوان “كونٌ متجانسٌ لكتلةٍ ثابتة وحساب إشعاعي لتمدد الكون والسدم خارج المجرة A homogeneous Universe of constant mass and growing radius accounting for the radial velocity of extragalactic nebulae”. بيد أن ورقته لقيت نقدًا موسعًا من المجتمع العلمي؛ حيث سخر فريد هويل من عمله وصك مصطلح الانفجار العظيم بصفته لقبًا مستخفًا بفكرة لوميتر. كما لم ينقده أحد بالشكل الذي نقده به آينشتاين، حيث كتب إليه قائلًا: “رياضيّاتك صحيحة لكن فيزياءك مشينة”. إن لنقد آينشتاين مكونين: أحدهما ثقافي والآخر شخصي، إذ أننا غالبًا ما نغفل عن شيئين من حيث تأثيرهما على العلم. فقبل سنوات خلت، نشر آينشتاين نظريته النسبية العامة عام 1916م، وأثناء صياغة النظرية، واجه آينشتاين مشكلةً جوهرية واحدة؛ إذ أن النسبية العامة تنبأت بأن الكون ينبغي أن يكون إما متمددًا أو متقلصًا، فهي لا تسمح بوجود كون ثابت. وبما أن الكون المتمدد أو المتقلص لا يمكن أن يكون أزليًا، فإن الكون الثابت يمكن أن يكون كذلك. كما كان الاعتقاد الثقافي السائد في ذلك الوقت يقول بأزلية الكون. كان آينشتاين متأثرًا بمحيطه الثقافي، ونتيجةً لهذا التأثر، اخترع آينشتاين عاملًا مضلّلًا أسماه “الثابت الكوني”؛ حتى يسمح لنظريته النسبية أن تتلاءم مع فكرة الكون الثابت. بيد أن العلم ليس ديموقراطية أو بلوتوقراطية؛ فالنتيجة المقبولة ليست النتيجة الأكثر شعبيةً ولا الأكثر شيوعًا، وإنما هي النتيجة التي تخضع لاختبار الأدلة عبر الزمن، وقد تحدَّت الأدلةُ الجديدةُ ثابتَ آينشتاين الكوني.
اختبارٌ للاستيعاب:
لا يتأثر العلماء بتجاربهم الشخصية أو معتقداتهم أو الثقافة التي هم جزء منها.
1- صح.
2- خطأ.
الكون المتمدد:
عام 1929م قدّم الفلكي الأمريكي “إدوين هابل” الذي كان يعمل في مرصد “ماونت ويلسون” مساهمةً كبيرةً لمناقشة طبيعة الكون؛ حيث بقي في ماونت ويلسون لمدة عشر سنوات يقوم بعدة أعمال، من بينها قياس المسافات بين المجرات. ففي عشرينات القرن المنصرم، كان هابل يعمل مع ميلتون هيوماسون -وهو تارك للثانوية- مساعدًا في المرصد؛ إذ رسم كلاهما المسافات التي حسَباها لـ 46 مجرة ضد سرعة التراجع لسلايفر، ووجدا علاقةً خطية.
يررسم هابل وزميله السرعة النسبية (كم لكل ثانية) ضد المسافة إلى المجرة التي تقاس بالفراسخ؛ أي أن الفرسخ هو 3.26 سنة ضوئية. إن انحدار الخط مرسوم من خلال النقاط يعطي سرعة التمدد للكون. وبعبارة أخرى، أظهر رسمهما أن المجرات البعيدة تتراجع بسرعةٍ أكبر من المجرات القريبة، مؤكّدًا على فكرة أن الكون في الحقيقة يتمدَّد. لقد سمحت لهم هذه العلاقة المسمّاة الآن بـ”قانون هابل” بحساب سرعة تمدد الكون، بصفتها وظيفة البعد عن منحدر الخط في الرسم. يطلق على شرط السرعة هذا اسم ثابت هابل. إن قيمة هابل الأساسية تساوي 500 كيلومتر في الثانية أو حوالي 160 كيلومتر في الثانية لكل مليون سنة ضوئية. وبناء على معرفة سرعة تمدد الكون، يستطيع الإنسان حساب عمر الكون أساسًا بإعادة أبعد الأجرام في الكون إلى نقطة أصلها. وباستخدام القيمة الأساسية لسرعة تمدُّد الكون والمسافة المقاسة للمجرات، حسب هابل وهيوماسون عمر الكون على أنه تقريبًا 2 بليون سنة. لم تكن حساباته متسقة مع الأدلة من دراساتٍ أخرى، ففي الوقت الذي أنجز فيه هابل اكتشافه، استخدم الجيولوجيون تقنياتِ التأريخ بالنشاط الإشعاعي ليصلوا إلى تقدير عمر الأرض بحوالي 3 بليون عام أو أقدم من الكون نفسه. لقد اتبع هابل المنهج العلمي، فماذا كانت المشكلة؟ حتى الثوابت والقوانين خاضعة للمراجعة في العلم. لقد غدا واضحًا بعد ذلك أن ثمة مشكلة في طريقة حسابات هابل لثوابته.
في أربعينات القرن الماضي، استفاد فلكي ألماني يدعى “والتر باد” من الانقطاعات التي أتت استجابةً لهجمات الحرب العالمية الثانية، واستخدم مرصد ماونت ويلسون للنظر إلى أجرام عديدة فسّرها هابل على أنها نجومٌ مفردة. في السماء المظلمة، أدرك باد أن هذه الأجرام كانت في الحقيقة مجموعات نجمية ذات ضوء أخفت وأبعد من حسابات هابل. ضاعف باد المسافة لهذه الأجرام وقسَم ثابت هابل نصفين على التوالي، فضاعف بذلك عمر الكون.
عام 1953م، نظر الفلكي الأمريكي “ألن سانديج” الذي تتلمذ على يد باد بعمقٍ أكبر إلى توهج النجوم وكيفية اختلافه باختلاف المسافة. راجع سانديج ثابت هابل بصورةٍ أعمق، وكان تقديره للميغافرسخ الذي يبلغ 75 كم في الثانية هو الأقرب إلى تقديرنا اليوم لثابت هابل الذي يبلغ فيه الميغافرسخ 72 كم في الثانية، وهو ما يحدِّد عمر الكون في ذلك الوقت بـ 12.4 مليار سنة. إن تقديرات باد وسانديج لا تنفي ما قدمه هابل؛ فهي ما زالت تسمى ثابت هابل بعد كل هذا. بيد أنهم راجعوه بناءً على معرفة جديدة، إذ أن المعرفة المستمرة للعلم نادرًا ما تكون عملًا فرديًا؛ ذلك أن البناء على ما فعله الأفراد هو عنصر أساسي من عناصر بناء المنهج العلمي. لقد كانت نتائج هابل ستتحدد ضمن إطار بيانات مثيرة حول المسافات لنجوم متنوعة لو لم تُبنَ على عملِ سلايفر وتشتق منه. وبالمثل، لم تقلّ أهمية إسهامات سانديج وباد لأنهما ببساطة جوَّدا عمل هابل المبكِّر. منذ خمسينات القرن الماضي، تمّ تطوير وسائل جديدة لحساب عمر الكون. فعلى سبيل المثال، ثمة وسائل في الوقت الحالي لتأريخ عمر النجوم، إذ أن عمر أقدم النجوم يؤرخ تقريبًا إلى 13.2 بليون عام. كما يجمع مشروع “Wilkinson Microwave Anisotropy Probe” بيانات عن إشعاع الخلفية الكوني، وباستخدام هذه البيانات، بالتناسق مع نظرية النسبية العامة لآينشتاين، حسب العلماء عمر الكون بأنه 13.7 ± بليون عام. إن تقارب جبال من الأدلة على تفسير واحد هو ما يخلق أساسًا متينًا للمعرفة العلمية.
اختبارٌ للاستيعاب:
إن الأفكار الرئيسة في العلم نادرًا ما تكون عمل:
الباحثين الأفراد.
عدد من الباحثين.
لماذا ينبغي الوثوق بالعلم؟
لماذا ينبغي تصديق ما يقوله العلماء عن عمر الكون رغم عدم وجود سجلّات مكتوبة حول نشأته أو عدم قدرة أحد على الخروج من النظام لقياس عمره، كما فعل الفلكيون عند خروجهم إلى الفضاء والتقطوا صورًا للأرض؟ إن طبيعة المعرفة العلمية تتيح لنا معرفة عمر الكون المنظور بدقة؛ حيث تطوّرت هذه التنبؤات عن طريق العديد من الباحثين واختبروها باستخدام مناهج بحث متعددة قدموها للمجتمع العلمي من خلال شروحات ومنشورات عامة أكدتها وحققتها دراساتٌ مختلفة. ربما تطورت دراسات ومناهج بحث جديدة، إذ أن هذا ما يحدو بنا لتجويد تقديرنا لعمر الكون لأقل أو أكثر. هكذا يعمل المنهج العلمي، فهو خاضع للتغيير في حال توفُّر تقنيات جديدة. بيد أن هذا ليس دليلًا على هشاشته؛ إذ ربما يتحسّن تقديرنا لعمر الكون لكن من غير المحتمل أن تنقلب فكرة تمدد الكون، فثقتنا بفكرةٍ ما تُبنى ببناء الأدلة عليها. فعقب رؤية عمل هابل، فإنه حتى ألبرت آينشتاين غير رأيه حول الثابت الكوني، واعتبر تأكيده على ما أسماه الثابت الكوني أكبر تخبُّط في مسلكه المهني.
أكد اكتشاف هابل فعليًا نظرية آينشتاين في النسبية العامة القائلة بأنّ لا بد أن يكون الكون متمددًا أو منكمشًا. رفض آينشتاين تقبل الفكرة بسبب تحيزاته الثقافية. لم يتنبأ عمله بكونٍ ثابت، لكنه افترض أن يكون هذا هو الحال نتيجةً لمعتقداته التي نشأ عليها. بيد أنه عند مواجهته مع البيانات، أدرك الخطأ الموجود في معتقداته، وتقبل مخرجات العلم الداعمة لهذه الفكرة. وهذه سمة مميزة للعلم، فبينما يحتمل أن تكون معتقدات الأفراد مبنيّة على تحيُّزاتٍ شخصية، يعمل النشاط العلمي على جمع بيانات لتحديد نتائج أكثر موضوعية. ربما يتبنى العلماء أفكارًا خاطئة لبعض الوقت، إلا أن غلبة الأدلة تقودنا إلى تصحيح تلك الأفكار. رغم استعمال مصطلح “الانفجار العظيم” للانتقاص، فإن نظرية الانفجار العظيم هي التفسير لنشأة الكون كما نعرفه الآن. ثمة أسئلة كثيرة عن الكون لا يستطيع العلم الإجابة عنها جميعًا؛ إذ يمكن للعلم الإجابة عن متى وكيف بدأ الكون، بيد أنه لا يمكن للعلم حساب سبب بَدئه بهذه الصورة مثلًا، فهذا النوع من الأسئلة تتناوله الفلسفة والدين وطرق التفكير الأخرى، فلا بد أن تكون الأسئلة التي يطرحها العلماء قابلة للاختبار.
لقد وفَّر العلماء إجاباتٍ قابلة للاختبار ساعدتنا في حساب عمر الكون، مثل مسافات بعد النجوم عن بعضها، وسرعة انكفائها عنّا. وبغض النظر عن حصولنا على إجابات أكيدة أو لا، فإنه يمكننا الوثوق بالمنهج الذي تطورت به هذه التفسيرات، مما يتيح لنا الاعتماد على المعرفة التي ينتجها المنهج العلمي. ربما نعثر يومًا ما على أدلة تساعدنا في فهم سبب خلق الكون، لكن في الوقت الراهن، سيحدِّد العلم ذاته في إطار آخر 13.7 ملليار سنة لدراسة الظاهرة.
الخلاصة:
تتناول هذه الوحدة طبيعة المعرفة العلمية من خلال السؤال عن ماهية العلم، فهي تؤكد على أهمية الطريقة العلمية في التفكير وتبيُّن كيف أضافت الملاحظة والاختبار إلى بنية المعرفة العلمية. ومن خلال التركيز على الفيزياء والفلك، تسلِّط هذه الوحدةُ الضوءَ على أعمالِ العلماء الذين ساهموا عبر التاريخ في إثراء فهمنا لعمر الكون، بصفته وسيلة لكشف طبيعة المعرفة العلمية.
مفاهيم رئيسة:
1- يتكون العلم من بنية معرفية ومنهج تتطور من خلاله تلك البنية.
2- إن جوهر المنهج العلمي هو توليد تفسيرات قابلة للاختبار، إذ تتم مشاركة أساليب توليد المعرفة ومناهجها مع العامة، ويقيمها مجتمع العلماء.
3- يبني العلماء على عمل آخرين لخلق المعرفة العلمية.
4- تخضع المعرفة العلمية للمراجعة والتجويد بظهور بيانات جديدة وتفسيرات جديدة للبيانات الموجودة.