قصة حب أونوريه دو بالزاك الأسطورية مع ناقدته المجهولة
أو: كيف تتزوج من كاتب شهير
في شهر مارس من عام 1832، تلقى أونوريه دو بالزاك رسالة مرسلة إلى عنوانه في مدينه باريس، وكانت تحمل ختمًا صادرًا من مدينة أوديسا –والتي كانت آنذاك مدينة نائية في أوكرانيا– إلا أن الرسالة لم تحمل عنوان المُرْسِل.
وفض بالزاك الرسالة، ليجد -كما توقع- نقدًا لأحدث رواياته “الجلد المسحور”. ويوضح جراهام روب كاتب سيرة بالزاك: أن الرسالة ذاتها قد اندثرت، “وهو أمر مؤسف للغاية، خاصة أنها ربما الرسالة الأهم التي تلقاها بالزاك في حياته”. إلا أنه يمكننا أن نستدل من رد بالزاك أن الرسالة كانت تستنكر “نبرة التهكم والإلحاد” في روايته الأخيرة، ومعالجتها للنساء اللاتي “تم تصويرهن بأنهن وحوش شريرة”. كما أن الرسالة “حثته على العودة إلى الأفكار السامية لرواية “مشاهد من الحياة الخاصة” وضحاياها الأبرياء. وذَيَّل الرسالةَ ببساطة توقيعُ “L’Étrangère” (أي “الغريبة” أو “الأجنبية” بالفرنسية).
وإذ شعر بالزاك بالتأثر والانبهار –وكما وضّح روب، فإن بالزاك كان شديد الحساسية تجاه أيَّة تهم بعدم التدين– فقد قام بوضع إعلان مبوَّب في صحيفة جازيت فرنسا، على أمل أن تقرأه الناقدة المجهولة. فظهرت رسالته المقتضبة في عدد 4 أبريل من ذلك العام قائلة:
تلقى السيد دوب الخطاب المرسل إليه يوم 28 فبراير، وإذ يأسف لحجب وسيلة الرد -وكون تمنياته من طبيعة لا تسمح بنشرها في هذا المقام- فإنه يتمنى أن لا يُساء فهم صمته على أقل التقدير.
ومن غير الواضح إن كانت كاتبة الرسالة قد رأت هذا الإعلان، إلا أنها أعادت الكرة، وكتبت إلى أونوريه دو بالزاك مرة أخرى. وكان اسمها إيفيلينا هانسكا، وهي كونتيسة بولندية كانت متزوجة من رجل أكبر عمرًا، وكانت من المعجبين بأعمال الكاتب. وكانت إيفيلين من سليلة عائلة ذات تقدير أدبي، فقد كانت شقيقتها كارولينا عشيقة الشاعر بوشكين، كما كانت من كبار محبي بالزاك، وبشكل خاص كانت معجبة بتصويره للنساء في كتاباته إلى أن قرأت رواية “الجلد المسحور” على الأقل. وكونها من سيدات المجتمع الراقي وذات حظٍ وافرٍ من التعليم، فقد قررت أنها قادرة على اتخاذ موقف من الأمر، فأصبحت “الغريبة”.
وكتبت “الغريبة” مرة أخرى إلى بالزاك في شهر مايو، وعدة مرات متتالية خلال ذلك العام، فاتخذت السيدة هانسكا ترتيبات بتكليف ساعٍ خاصٍ ليتمكنا من مراسلة بعضهما البعض بشكلٍ مباشر، إلا أن بالزاك اضطر أيضًا إلى كتابة بعض الرسائل الوهمية ليبدو الأمر وكأنها تراسل أحد أصدقاء العائلة. وأُغرم بالزاك في مرحلة مبكرة للغاية من رحلة المراسَلة، وأطلق العنان لخياله حول تلك الأميرة الغامضة، فكتب قائلًا: إنه كان “يهرع عبر الفضاء، طائرًا إلى تلك الأراضي المجهولة حيث تعيشين أيتها الغريبة، فريدة في عرقك… فقد تخيلتك واحدة من بقاية تعسة لقومٍ أصابهم الشتات فتفرقوا في أصقاع الأرض، وربما نُفوا من السماء، ولكن لكلٍ لغته وأحاسيس خاصة بعرقه، تختلف عن تلك التي يتمتع بها غيرهم من البشر”.
وكانت ترد كاتبةً بذات الوتيرة:
سيدي، إن لك روحًا تحتضن القرون، وتأتي مفاهيمها الفلسفية ثمرة لدراسة طويلة أنضجها الزمان، وإن فهمتُ أنك لا تزال شابًا يافعًا. وعلى الرغم أنني أود أن أتعرف عليك، إلا أنني أشعر أنني لا حاجة لي إلى ذلك. فقد عرفتك من خلال فطرتي الروحانية، وأتصورك بطريقتي، وأشعر أنني لو صادف أن رأيتك، فسوف أهتف قائلةً: “أهذا هو!”. لعل مظهرك الخارجي لا يعكس خيالك المتقد، فيجب تحفيزك، ويجب إشعال تلك النار المقدسة للعبقرية، حتى تكشف عن ذاتك الحقيقية، فأنت –كما أشعر– رجلٌ فذٌّ في معرفته للوجدان البشري.
واستمرا في تبادل خطابات الحب في الخفاء، ومع مرور الوقت، تعرف كل منهما على الآخر أكثر، وعلى الرغم أنها ظلت طويلًا تُصر على أنهما لن يلتقيا أبدًا، إلا أنها عندما جاءت إلى فرنسا مع زوجها في شهر سبتمبر من ذلك العام، في أعقاب أول خطاب لهما، لم تتمكن من منع نفسها، فاتفقا على اللقاء في بيزانسون، على ممشى يطل على بحيرة. ولم يخب أمل العشاق، فطبقًا لروب، أمسى بالزاك -لاحقًا- يصر أنه “ولد في سبتمبر من عام 1833″، وكتب قائلًا: “لم تكن عواطفي جميعها سوى مقدمة أودعتها لهذا الشغف”.
واستمرت علاقتهما الغرامية عن بعد، إلى أن توفي زوج السيدة هانسكا عام 1841، ورغم ذلك لم تتيسر الأمور بعد، إلى أن تزوجا أخيرًا يوم 14 مارس 1850. إلا أن سعادتهما لم يكتب لها العمر المديد، فقد وافت بالزاك المنية في شهر أغسطس من ذات العام.
أما الدرس المستفاد، فواضح: اكتب إلى كُتّابك المفضلين، فربما حدثت في الأمر أمورٌ.