القضاء والقدر بين الإيمانِ والإلحادِ

التعريفُ بالقضاءِ والقدرِ

القضاء والقدر معناه اصطلاحًا: علمُ الله بأفعال العباد وكتابته لها في لوح محفوظ من قَبلِ الخلق، وكتابته ليست علمًا فقط، بل خلقًا وعلمًا، فلا يكون أيُّ فعل من خيرٍ أو شرٍّ إلا بمشيئته وتقديره، والقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان وفقًا للمنهج السني، فقد سأل جبريلُ النبيَّ محمدًا لمّا تمثَّل له في هيئة بشر فقال: “أخبرني عن الإيمان”، قال: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»، ولذلك يُكفِّر المنهج السني منكري القدر، وبإقرار خلقِ الأفعالِ خيرِها وشرِها تتجلى مشكلة نسبة خلق الشرور إلى الله، فيقودنا إلى عرض المشكلة ثم محاولة تفنيدها وفقا لمراتب الإيمان بالقدر.

مشكلةُ الشرِ

مشكلةُ الشرِ هي الحُجَّة الأولى والأقوى في الفكر الإلحادي، وتسمى بمعضلة أبيقور نسبة إلى أبيقور وهو فيلسوف إغريقي، ويعتبر أول من عرض المشكلة من منظور منطقي، وقد صاغها كالتالي:
إذا كان يوجد إلهٌ كاملُ القدرةِ والمعرفةِ والخيرِ بالعالم، إذن:
1– لن يوجد الشر.
2– يوجد شر في العالم.
3– إذًا فإنه لا يوجد إله كامل القدرة والمعرفة والخير في الآن ذاته.

ويُبنَى العرض هنا على ثلاث فرضيات، إذا صحت اثنتين منهما تكون الثالثة حتمًا باطلة:

1– الله كلي القدرة.
2– الله كلي الخيرية.
3-الشر موجود.
ومن المؤكد أنَّ الجميعَ يقر بوجود الشر، المؤمن قبل غير المؤمن مهما اختلفت المسميات، شر أو عقاب أو ابتلاء، فإذا سلَّمنا بوجود الشر يصبح أحد الفرضيتن الأُخرتين باطلة وفقًا لعرض أبيقور، إما أن يكون الله ليس كلي القدرة أو يكون ليس كلي الخيرية، وفي هذة الحالة إما أن يكون غير جدير بالعبودية أو غير موجود.

وقد تطورت الحجة الإلحادية في مشكلة الشر في الوقت المعاصر على يد الفيلسوف الملحد جون ليزي ماكي، فأضاف إلى الحجة بعض التفاصيل، وقد عرض حجته كالتالي:

إذا كان:
1– الله موجود.
2– الله كلي القدرة.
3– لا توجد حدود لما يمكن أن يفعله إله كلي القدرة.
4– الله كلي الخيرية.
5– الإله كلي الخيرية يقضي على الشر بقدر المستطاع .
فإن النتيجة:

6– الشر غير موجود.
وإذا كان الشر موجودًا فلا إله كلي القدرة وكلي الخيرية فإذًا الله خير موجود.

إعلان

والرد على حجة ربط الشر بعدم وجود إله يكون من خلال إثبات أنه من الممكن أن تكون كل فرضيات الإيمان العام صحيحةً معًا.
1– الله موجود.
2– الله كلي المعرفة.
3– الله كلي القدرة.
4– الله كلي الخيرية.
5– الشر موجود.

وإثبات أنّ كل الفرضيات صحيحة يتم من خلال دفاع حرية الإرادة، حيث يكون من الضروري عندما يخلق الله كائنًا أن يمنحه حرية إرادة تمكّنه من تحديد علاقتة بالله وبجنسه وبسائر المخلوقات المشارِكة له في الحياة، ولكي يخلق الله عالمًا يحوي الخير كان لزامًا أن يتيح حرية اختيار هذا الخير، ولكي يُتاحَ حريةُ اختيار الخير ينبغي أن يكون هناك مجموعة من الخيارات المضادة لهذا الخير ينتج عنها معنى للخير واختيار حر، وبالطبع لن يُسنَدَ إلى الله أفعالُ الشر التي اتخذتها تلك الكائنات الحرة التي أساءت استخدام حريتها وسوف تحاسب على هذه الإرادة الحرة، ولذلك كان من المستحيل أن يخلق الله عالمًا يحتوي وجوه الخير دون أن يحوي وجوه الشر.

قد يعجبك: متاهة الإرادة الحرة

يضيف ماكي إلى حجته أنه كان من الممكن أن يخلق الإله عالمًا يتمتع بحرية الإرادة، لكنه بأوجه شر محدودة لا تحمل بينها تلك الشرور الفجّة، وهو عالمٌ ممكنٌ عرضًا فقط ولكنه غيرُ ممكنٍ وفقًا لحرية الإرادة المطلقة التي يُشترَط لوجودها كمالُها.
ومن الأسئلة التي تَرِد في عرض العوالم الممكنة، التي كان من الجدير أن يخلقها إله كلي القدرة وكلي الخيرية، أن يكون عالمًا لا يحتوي شرًا، وإذا كانت الجنة عند المؤمن الديني لا تحتوي شرًا فإنه ليس عالم ممكن فقط ولكنه عالم مؤكد الوجود، فلماذا لم يكن هذا هو العالم الأوحد، والرد عند المؤمن أنه عالم مؤكد ناتج عن عالم يخضع للاختبارية وفقًا لحرية الإرادة، غير أنّ الجنة السابقة في العقائد الإبراهيمية قد تمتع فيها آدم بحرية إرادة أيضًا وقد نتج عنها خطيئة.

فإذا كان الإيمان بالقضاء والقدر يعني أن نؤمن بأن الله خلق جميع أفعال البشر خيرها وشرها، فهذا يعني أن الله قدر الشرور وفاعل فيها.

والمعتزلة هي المذهب الإسلامي الوحيد الذي خرج من هذه المعضلة بإنكار خلق الأفعال، وإن كان مقصدهم لا يرجع إلى نفي نسبة الشر إلى الله بل إلى إقرارهم أنه من غير المعقول أن يخلق الله أفعال العباد ثم يحاسبهم عليها، وبذلك خرج المعتزلة من مشكلة الشر ونسبته إلى الله مخالفةً بذلك باقي المذاهب الإسلامية المؤمنة بخلق الأفعال.

علمُ الغيبِ وعدمُ خلقِ الأفعالِ

يطرح البعض مغالطةً لمحاولة إثبات تضاد علم الغيب مع عدم خلق الأفعال، فيقول إذا كان الله يعلم الغيب فقد خلق الأفعال، وإذا لم يخلق الأفعال فلا يعلمها، إذًا هو ليس بكامل.
فيقع في مغالطة المأزق المفتعل فقد قرر نتيجتين حتميتن لفرضية تحتوي نتائج متعددة فأقصى جميعَها وأبقى ما يرتضيه فقط، فلا تضادٌ بين علم الغيب لإله خارج الزمن كامل القدرة والمعرفة وبين عدم إحداثه للأفعال التي يعلمها بكمال قدرته.

فهل يذهب المؤمنون بخلق الأفعال دون دراية منهم إلى إثبات حجة أبيقور؟

ولكن ماذا لو كان قد خلق الله الشر وقدره لنا؟

فبالنظر إلى النتيجة الحتمية لاختبارية الأفعال، يكون هناك حساب ثم جزاء، وجزاء الشرور حتمًا يحتوي على شرور مساوية تعادل فعل صاحب الشر، وبذلك يثْبُتُ خلق الإله للشر في حياة الحساب، فهل خلْقُ اللهِ للشر في حياة الحساب يثبت عدم خيرية الإله أم عدله؟
فلو فرضنا أنَّ إلهًا خيريًا رحيمًا قد يمنح فرصة لأشرار الخلق في عالم الحساب الذي يحتوي شرور حتمية، كي يكفروا عن ذنوبهم في عالم لا يعطيهم فيه دليل وجوده حتى تكون اختياراتهم بمحض إرادتهم في غياب يقين الحضور الإلهي، بالطبع سيذهبون بنفس الحجة الإلحادية إلى إنكار وجود إله في عالم يحتوي على شرور لعدم علمهم أنها حياة جزاء.

فمن أين لنا اليقين أن الشرور التي نلامسها ليست في عالم الجزاء؟

المصادر
مشكلة الشر - دانيال سبيك 
اصل العدل عند المعتزلة – هانم إبراهيم

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد مجدي

تدقيق لغوي: أحمد المسيري

تدقيق علمي: علي رضا

اترك تعليقا