حَجْرٌ أدبي: عملية ترجمة رواية للكاتب دان براون تتمخض عن حبكة مثيرة
عندما تطلبت الرواية الجديدة لمؤلف "شفرة دافنشي" ترجمات متزامنة عام 2013، كان ما حدث من الغرابة ليصبح فيلماً في حد ذاته.
في شهر مارس من عام 2013، سافرت كارول ديلبور، وهي مترجمة فرنسية تبلغ من العمر 37 عامًا، إلى ميلانو مُشاركةً في عمل كان قد اُختيرَت له بعناية شديدة. ولم يُسمح لأحد أن يعرف وجهتها سوى زوجها وابنتيها في باريس. وصلت ديلبور إلى الفندق، وبعد إجراءات الوصول، انطلقت باتجاه مبنى حديثٍ مهيب في منطقة امتداد صناعية بضواحي مدينة ميلانو. عند وصولها، تم إقلالها إلى قبو حيث قام اثنان من رجال الأمن بوضع هاتفها وحقيبة يدها في خزانة. دخلَت ديلبور إلى قاعة كبيرة، حيث كان فريق من عشرة أشخاص، جاءوا من ستّ دولٍ مختلفة، جالسين يطبعون في انهماك. وكان على ديلبور خلال الشهرين التاليين أن تعمل هنا بسريةٍ تامة على ترجمة رواية “الجحيم”، الرواية الرابعة لبطلها روبرت لانجدون بقلم الروائي -ذي الروايات الأكثر مبيعًا- دان براون ، والتي لم تكن قد صدرت بعد.
وقُبيل صدورها بعد مرور عشرة أعوام منذ ظهور رواية “شفرة دافنشي”، والتي أمست من أكثر الكتب مبيعًا على الإطلاق، جاءت رواية “الجحيم” لتتّبع لانجدون، أستاذ علم الرموز بجامعة هارفرد، والذي يعكف على فك أسرارٍ دينيّة معقدة لمنع وقوع أحداث كارثية – كانت في هذه الحالة جائحة مهلكة.
إلّا أن التجربة الفريدة التي خاضها مترجمو رواية دان براون هي التي أمست مصدر إلهام لفيلم جديد بعنوان “المترجمون” Les Traducteurs، لمخرجه الفرنسي ريجي روانسار. ففي فيلم روانسار يتم تسريب عشر صفحات من الرواية (التي تم تغيير عنوانها إلى “ديدالوس”)، ويجد المترجمون أنفسهم في سباق مع الزمن لاستعادة المصدر. أما في الواقع، فكان على المترجمين الأحد عشر في قبو ميلانو تنفيذ مهمة وحيدة: ترجمة “الجحيم” وضمان صدور الرواية متزامنة في أرجاء العالم.
كان الموقع السري الذي وجدت ديلبور نفسها فيه المقر الرئيس لمجموعة جروبو موندادوري، وهي أكبر دار نشر في إيطاليا. وكانت الدار قد استقرت منذ عام 1975 في مبنى أيقونيّ صمّمه المعماري البرازيلي أوسكار نايمير: وهو بناء خرساني، يتكون من سلسلة من الأقواس النحتية ونوافذ ذات صبغة داكنة، ويبرز المبنى من بحيرة مساحتها 20 ألف متر مربع. وتعلّق ديلبور قائلة: “كان الأمر أشبه بالعمل في وحدة أزمات، فكنا نعمل تحت ضغط من الوقت، وكان مطلوب منا إنجاز عمل على أرفع مستوى. ناهيك أن الملايين سوف يقرأون العمل.”
وعلى عكس فيلم روانسار، لم يكن “القبو” ملجأ فاخرًا من الهلاك، وإنّما كان قاعة اجتماعات كبيرة، بها آلة لصنع القهوة، وثلاجة، ومايكروويف، وطابعة. وعلى الرغم من أنها كانت في غرفة في القبو، إلا أن ديلبور تتذكر أنها كانت مريحة، بها نافذتان كبيرتان تسمحان بدخول بعض من ضوء النهار، وفي لفتة أشبه بإشارة الألعاب الأوليمبية (وهي لفتة تظهر بالفعل في فيلم روانسار)، كان هناك علم صغير على كل مكتب، يشير إلى اللغات المختلفة الحاضرة: الإسبانية، والإيطالية، والفرنسية، والبرتغالية، والكاتالانية.
وبينما كان بعض المترجمين النشطاء يعملون فُرادى، آثر أكثرهم التعامل مع النص، الذي تكون من ثلاثة آلاف صفحة، في ثنائيات. فعملت ديلبور، التي قامت دار النشر الفرنسية JC Lattes بتوظيفها، مع دومينيك ديفير، وكان قد سبق لها أن ترجمت معه عددًا آخر من الأعمال الأكثر مبيعًا، ومنها على سبيل المثال سيرة والتر أيزاكسون عن حياة ستيف جوبز. وتقول ديلبور:
“تحتاج إلى أشخاص يتمتعون بنفسية صلبة لإتمام مثل هذه المهمة، فالعمل في قبو طيلة شهر ونصف تجربة غير اعتيادية”.
وكان الهدف من وراء هذا منع حدوث أي تسرب كارثي، فقبل خمس سنوات، كانت كاتبة سلسلة روايات “الشفق” قد ألغت الكتاب الخامس من سلسلة مصاصيّ الدماء الأكثر مبيعًا، بعد أن تسربت مسودة غير مكتملة إلى الإنترنت. فكان رجال أمن مسلحين قائمين على حراسة مدخل القبو على مدار الساعة، وتم فصل خدمة الإنترنت. ولم يسمح قط لأجهزة الحاسوب المحمول الخاصة بالمترجمين أن تخرج من القاعة. وللقيام بالبحث على شبكة الإنترنت (وهو أمر حتمي في حالة كتب براون)، اضطُّر المترجمون إلى استخدام أربعة أجهزة كمبيوتر متصلة بالإنترنت، ومن ثم كتابة ملاحظاتهم باليد. أما النسخ المطبوعة من النص الإنجليزي الخاصة بكل مترجم، فكان يتم وضعها في خزينة أثناء الليل. وكان رجال الأمن يسجلون رحلات المترجمين من وإلى الحمام في سجلات.
وكانت الأوامر الصارمة قد صدرت للمترجمين بعدم التحدث إلى أحد في مطعم الدار حول عملهم، وبخاصة للعاملين لدى الدار، فقد كان البعض منهم صحفيين. ويوضح فرانسيسكو أنزيلمو، مدير تحرير دار موندادوري قائلاً:
“كان حتميًا أن نضمن عدم إتاحة محتويات الكتاب لأحد خارج تلك القاعة”.
وفي ركن الغرفة، وُضعت سبورة بيضاء يكتبون عليها الأسئلة الموجهة للكاتب “دان براون” ، وتقول ديلبور: “كنا جميعًا نتساءل ذات الأسئلة، لذا كان هذا أمرًا جيدًا، وأتاح مناقشة هذه الموضوعات فيما بيننا”. هل كانت مواقيت عمل سوق من الأسواق، على سبيل المثال، تتزامن مع توقيت وقوع حدث ما؟ هل يمكن إطلاق النار على أحدهم من هذه الزاوية على الدرج؟ وتضيف ديلبور قائلة: “لا شك أن براون كان يقول لنفسه: “هؤلاء المترجمون مجانين!”، لكننا كنا أيضًا أول قرّاء له”.
ولم يكن هذا الشكل من أشكال الحجرِ الأدبي يحدث في إيطاليا فقط، ففي مدينة لندن، خضع مترجمو اللغات الهولندية والنرويجية والسويدية والدِنماركية والتركية لتجربة مشابهة، وذلك في سرداب دار نشر ترانسوورلد، وهي دار متفرعة عن دار بنجوين راندوم هاوس للنشر. فيقول بيتيك ديمير إينسك، المترجم التركي: “لقد كان لدينا كل ما نحتاج إليه، باستثناء الإنترنت. ووجب علينا توقيع اتفاق ينص على أننا سندفع شرطًا جزائيًّا كبيرًا إذا ما أطلعنا أحدًا على ما نقوم به”. ويوضح أنزيلمو أن السبب وراء تقسيم المترجمين إلى مجموعتين أضاف بعدًا آخر للتأمين، فيقول: “كلما قل عدد الناس في غرفة واحدة، كلما قلت احتمالات تسرب أي شيء”.
وقد كانت هذه المواقع الدولية مناسبة بشكل خاص للاستراتيجية الجديدة، ففي رواية “الجحيم” يسافر لانجدون من فلورنس إلى فينيسيا إلى اسطنبول، بينما تقع أحداث رواية “الأصل” بشكل أساسي في إسبانيا. فيقول أنزيلمو: “كانت رواية “الجحيم” ذات أهمية خاصة لنا وذلك نظرًا لأن أحداثها كانت تقع في إيطاليا، فشعرنا أننا معنيون بالكتاب لأسباب وطنية وثقافية”.
كانت العملية التي وُضعت لترجمة رواية “الجحيم” هي الأولى من نوعها، فعادة كانت ترجمة روايات براون تبدأ بعد أن تصل النسخة الإنجليزية إلى قوائم الأكثر مبيعًا، ثم يتهافت الناشرون الأوروبيون لطرح نسخهم المترجمة بالأسواق. فكان هذا ما حدث مع رواية “الرمز المفقود”، وهي الجزء الثاني لرواية “شفرة دافنشي” التي انتظرها الجمهور بلهفة، فقد صدرت بعد فيلمين لتوم هانكس كان لهما إقبالٌ جماهيري عالمي هائل. وبينما حطمت رواية “الرمز المفقود” مبيعات اليوم الأول في كل من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، إلّا أن الترجمات الأولى –إلى الإيطالية والإسبانية والفرنسية– لم تصل إلّا بعد مرور شهر.
قامت أناماريا رافّو، وهي واحدة من المترجمين الإيطاليين الثلاثة في القبو، بترجمة مؤلفات من أمثال كين فوليت وروبرت هاريس خلال حياتها والتي امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا كمترجمة، وقبل عملها على ترجمة رواية “الجحيم”، عملت ضمن فريق من خمسة أشخاص للانتهاء من ترجمة النسخة الإيطالية من رواية “الرمز المفقود” في أقل من أسبوعين. وتقول رافّو: “على الرغم من العمل بسرعة كبيرة، إلا أن هذه الأيام الخمسة عشر كانت مُهدرة، ففي هذه الأثناء كان بعض القراء قد قاموا بشراء النسخة الإنجليزية لأنهم لم يطيقوا صبرًا”.
ومع حلول موعد الإعلان عن رواية “الجحيم”، كان من الواضح أن النسخ الأوروبية سوف تصدر في ذات الوقت مع النسخة الإنجليزية، وبخاصة في زمنٍ أصبح فيه شراء النسخة الإنجليزية أمرًا يسيرًا بشكل غير مسبوق. فيقول أنزيلمو: “ففي يومنا هذا، يمكنك طلب الكتاب على موقع أمازون منذ لحظة صدوره في الولايات المتحدة أو في المملكة المتحدة، وتحصل عليه خلال يومين. لم يكن هذا متاحًا قبل عشرين عامًا”. وينسحب الأمر ذاته على العديد من البلدان مثل هولندا، حيث يمثل انتشار اللغة الإنجليزية تحديًا حقيقيًا، “فأمسى من الضروري الآن صدور الترجمة بالتزامن مع الأصل”.
وفي عام 2017، قرر الناشرون إعادة الكَرّة مع رواية “الأصل”، وهي رواية براون الخامسة ضمن سلسلة شخصية لانجدون، وهذه المرة اجتمع ستة وعشرون مترجمًا في مدينة برشلونة، حيث تقع أحداث جزء من الرواية. وقامت مجموعة نشر جروبو بلانيتا، وهي من دور النشر الرائدة في إسبانيا وأمريكا اللاتينية، بتنظيم الحدث.
وتقول رافّو: “تم إتقان العملية بشكل أكبر عند ترجمة رواية “الأصل”، فهذه المرة اجتمع المترجمون الذين كانوا في ميلانو وفي لندن في ذات القاعة، وتم تعزيز الأمن، ولم يسمح لأحد بإحضار جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به. وبدلًا من جمعهم في القبو، كان المترجمون هذه المرة في غرفة بلا نوافذ بالطابق الخامس من مبنى دار النشر بلانيتا، أي حالة عزلٍ تام. وتتذكر رافّو أن أجهزة التكييف كانت تعمل بكل طاقتها طيلة الوقت، وتضيف قائلة: “كما أطلقنا عليه القبو في ميلانو، ففي برشلونا أسميناه كوخ الإيسكيمو”.
وتقول ديلبور: “تعرضنا لشيء من الصدمة الثقافية”، وذلك فيما يتعلق بالاتفاق على ساعات العمل. فأهل الشمال كانوا يفضّلون البدء في الثامنة صباحًا، بينما فضّل المتوسطون الاستيقاظ متأخرًا والعمل مساءً. وباعتبارهم مجموعة من المترجمين المستقلين ممن اعتادوا العمل في إطار المنزل وأوجه راحته، كان عليهم الآن التأقلم مع هذه الظروف الجديدة. فتقول كلوديا كوند، وهي مترجمة إسبانية: “جمعت هذه التجربة بين مجموعة من النساك، لكل منا عاداته الخاصة، لذا فإن العمل معًا كان غريبًا بعض الشيء، وكان الوضع استثنائيًا”.
وفي النهاية، فإن جهد الفريق عاد بثماره، فعندما صدرت رواية “الجحيم” في شهر مايو 2013، بيعت أكثر من خمسين ألف نسخة في إيطاليا وحدها خلال الساعات الأربعة وعشرين الأولى. أما في إسبانيا، فقد بيعت كل نسخ رواية “الأصل”، وفي أعقاب الطبعة الأولى بلغت 600 ألف نسخة، أعلنت كل من دار نشر موندادوري وبلانيتا إصدار مائة ألف نسخة إضافية لتغطية احتياجات القرّاء الإيطاليين والإسبانيين. أما في فيلم “المترجمون”، فتم تحويل المترجمين إلى هيئات أقرب إلى العملاء السريين أثناء بحثهم عن مصدر التسريب، ولعل مهارات ديلبور وأقرانها لم تُصوّر من قبل هذا التصوير البرّاق، فتقول: “من المثير أن يتم عمل فيلم عن مهنتنا، فهذا أمر جيد قد يثير بعض المناقشات حول عملنا”.
اختلف الأمر من نواحٍ شتى عما التزم به هؤلاء المترجمون عندما اختاروا مهنة منعزلة من وراء الكواليس، فيُعلن مترجم يوناني في فيلم روانسار: “لو أنني كنت أبحث عن عمل في مكتب مفتوح، لما كنت اخترت هذه المهنة”.
أما في الواقع، فقد نبتت عن هذه التجربة روحٌ من التضامن، فتقول رافّو متأملة: “هناك قلة من المترجمين ممن نالهم حظ العمل معًا على ذات النص”، ويضيف ديمير إينسيك: “كان لطيفًا أن نتمكن من تبادل الأفكار، فهي عادةً مهنة الوحدة”. فالعمل على حل المشكلات معًا، وتفسير الإشارات التاريخية والثقافية الكثيرة في الرواية لبعضهم البعض كانت تجربة وجد الكثير منهم أنها تضفي تحرُّرًا على الرغم من حبسهم. وتتنفس رافّو الصعداء وهي تقول: “لقد كانا شهرين من المعاناة، ولكنني مستعدة أن أخوض التجربة مرة أخرى ولو غدًا”.
نرشح لك: الغربة النّفسيّة.. في رواية “حكاية بحّار” للكاتب حنّا مينة