رحلة إلى مجتمع لاديني!
أرجو ألا يُخيَّل للقارئ أنني خرجتُ في رحلةٍ فعلًا إلى دولةٍ أغلب مواطنيها لادينيون؛ فأنا لا أعرف – في نطاق إدراكي المحدود – إلا دولةً واحدةً يصدُق فيها هذا القول، ولا أملِك بالطبع من المال ما يُمكِّنني من أن (أطوف وأشوف)!
كل ما فعلته أنني خرجت من (عُزلتي/خَلوتي/غَاري) الكائن بإحدى المناطق الشعبية في الإسكندرية، وقررتُ أن أنخرطَ مع الناس في أنشطتهم، بأخلاقٍ نبويةٍ!
فماذا وجدت؟
أحسنتَ أيها القارئ…
وجدتُني في مجتمع لاديني!
وقد اهتدى سيد قطب من قبل في كتابه (معالم في الطريق) إلى نفس النتيجة، لكنه استخدم مصطلحًا مختلفًا هو (المجتمع الجاهلي). إلا أنني أتحفظ على هذا المصطلح، لأن (عتبة بن ربيعة) مثلًا – الذي مات على جاهليةٍ في غزوة بدر – لو بُعِثَ في زماننا بأخلاقه، لعُدَّ من أولياء الله الصالحين، مقارنةً بما أصبح الناس عليه من خروج على (الدين)! والجاهلية نفسها كان فيها فضائل أقرَّ بها الرسول، ولو كان دُعِيَ إلى بعضِها في الإسلام (مثل حلف الفضول) لأجاب. والرسول بُعِث (ليتمِّم) مكارم الأخلاق، لا (لينشئ) أخلاقًا غير مسبوقة في تاريخ البشرية!
وهذه النتيجة التي تُوِّج بها الفكر (القطبي)، لا يصل إليها إلا شخصٌ اشتطَّ ثم ثاب، أو ارتدَّ ثم أسلَم، أو قيَّم الدين والمجتمع بحيادٍ تامٍّ من وجهة نظر متجرِّدة من كل قيود العاطفة الدينية والانتماء المذهبي والحنين الطفولي إلى المقدَّسات اللامعة. وهذا ما كان عليه سيد قطب الذي ابتدأ حياته الفكرية بالدعوة إلى أن يسير الناسُ عُراةً في الشوارع، واختتمها بنظرية المجتمع الجاهلي (المجتمع اللاديني)، التي وجد بها مَخرجًا من إشكالية تراجع الدين في المجتمع كمُحدِّد قيمي وركيزة قانونية بدائية، رغم أنه – في الظاهر – حاضرٌ في كل لحظة، على كل لسان، وفي كل مئذنة.
نحن في المكان السيئ.
هذه هي العبارة التي كانت إلينور شيلستروب بطلة مسلسل (المكان الجيد The good place) تقولها كلما اكتشفت أن المكان الجيد الذي أوهموها أنها دخلته بعد الموت – مكان زائف، الغرض منه تعذيبها دون أن تنتبه! وذلك رغم مَسْحِ ذاكرتها مئات المرات، وجَعْلِها تعيد تجربة الإقامة في المكان الجيد الزائف كل مرة من البداية إلى لحظة اكتشاف الخدعة!
نحن في المجتمع اللاديني/الجاهلي.
هذه هي النتيجة التي سيصل إليها كل عقلٍ ألمعيٍّ ينظر إلى المجتمع في ضوء ما قرأه من كتب، بعد أن تصدمه حالة الفُصام البشعة التي يعيشها المجتمع بين دينٍ (مُوازٍ) ربُّه هو الغريزة (وبعض الرواسب الفلكلورية واللغوية)، ودين آخر متضح المعالم ينظرون إليه لكنهم لا يرونه!
معنى الدين… وهل الدين لغة؟!
إن الدين – في اصطلاحي – هو ترويض كل ردود الأفعال الغريزية والترفع عن المدمر منها، وأن يساعد الإنسان الآخرين (من نباتات وحيوانات وبشر)، وأن يدرأ عنهم الضرر (بما في ذلك إضراره هو بهم)، بقدر استطاعته، وكل هذا في إطار من الاعتقادات الغيبية ذات المردود النفسي في المقام الأول.
وإن الدين يكتسب حُجِّيته وقوته من اتفاق الجماعة الإنسانية على تعاليمه.
(الدين) هو لغة القانون الأوَّلي والأخلاق والسلوك والنظام، مثلما أن (الأصوات البشرية ذات الدلالة) هي لغة الشعور والمعرفة.
وبالاتفاق على قواعد دينية محدَّدة، يستطيع الناس أن يتوقعوا ردود أفعال الآخرين، وأن يحتكموا إلى أصلٍ واضحٍ حين يختلفون، وأن يتجنبوا الأضرار اليومية التي يعجز القانون عن اكتشافها أو التعامل معها. وبالاتفاق على معاني الكلمات وقواعد اللغة يستطيع الناس أن يتوقعوا ما سيفهمه عنهم الآخرون، وتحديد ما يريدون أن يُفهِموا الآخرين إياه.
والدين – عند (الله/الكون) – الإسلام… الإسلام بمعنى (تمكين السلام)… فالإشهار هو (تمكين الشهرة)، والإطلاق هو (تمكين الطُّلُوق)، والإعلان هو (تمكين العَلانية)، والإعتاب هو (تمكين المعاتبة بالعودة عما عوتب فيه المرء)، وكذلك كل مصدر جاء على وزن (إفعال)… هذا وزن يفيد تمكين (المعنى/القيمة/دلالة الفعل). والإسلام هو (تمكين السَّلَام/السَّلْم)، سواء أجرى هذا على ملة بوذية أم هندوسية أم طاوِيَّة أم مسيحية أم يهودية أم مُجرَّدة من المسمَّيات. وقد أكد الرسول ذلك بقوله: أوَلَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم. وكذلك قوله: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. وقوله: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام.
اندثار الدين (كلغة أخلاقية)
كنت مدركًا منذ وقت بعيد، أن الدين فقد دوره الحقيقي في المجتمع كمحدِّد قِيَمي، وكأداة (وهمية) لقولبة الناس بطريقة مبنية على (وهم جميل) يتفق عليه الناس، وفي ضوئه يمارسون أنشطتهم اليومية دون أن يؤذي بعضهم بعضًا. فهمت ذلك بالحدس دون خوض في تفاصيل، فاعتزلت المجتمع اللاديني لِئلَّا يؤذيني، وبدأت أتعامل مع الناس بتحفُّظ وحذر خوفًا من ردود أفعالهم (الغريزية/اللادينية) غير المتوقعة. ويجب هنا أن أشير إلى أن اللادينية تعريب خاطئ لكلمة Atheism التي تعني (إنكار الألوهية)؛ لأن منكر الألوهية قد يكون أخلاقيًّا أو روحانيًّا بطريقة أو بأخرى، وهو ما سأفصله في مقالٍ قادمٍ إن شاء الله.
على كل حال، ظللت في خَلوتي (سجني الاختياري) فترة طويلة، مستريحًا للعزلة والابتعاد عن كل مسببات الألم… لكنني – في لوثة غير مبررة كلوثة زرادشت في كتاب نيتشه المشهور – قررت أن أعاود الانغماس في المجتمع، ولا سيما بعد أن قررت أن أتزوَّج، وذلك لأن الزواج يكون على كتاب الله وسنة رسوله، وسيكون (بالتأكيد) من فتاةٍ طُبِعتْ في بطاقتها الشخصية كلمة (مسلمة)؛ وأنا من محبِّي الالتزام بالعقود والاتفاقات، ولن أجد فتاةً تعتنق مثلي وحدة الوجود الصوفية pantheism والدين الطبيعي… إذًا فهو الإسلام… الإسلام بمفهوميه (كشريعة محمدية وكتمكين للسلام). فقرأت كثيرًا جدًّا عن (الشريعة المحمدية) وقررت أن أطبقها حرفيًّا!
علمت ألا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأن كلنا لآدم وآدم من تراب، و(إذا خَطَبَ إليكم من ترضَوْن دينَه فزوِّجوه. إلا تفعلوه تَكُنْ فِتنةٌ في الأرض وفسادٌ عظيمٌ). فأدركت أن عدم حصولي على شهادة جامعية لن يكون عقبةً دون الزواج بفتاة ذات شهادة (عليا)، ما دمتُ (تقيًّا)، لا جبارًا ولا شقيًّا، وما دام معيارُ المفاضلةِ (دينيًّا) خارجًا على ما تنصُّ عليه أعرافُ المجتمع من ثروات أو شهادات! لكني رُفِضت دون رحمة، رغم أنني كنت سأتزوج على الشريعة الإسلامية التي لا تُلزِم المرأةَ بشيءٍ من أثاث المنزل، بل وتُلزِم الرجل بدفع (المهر/الصَّداق) الذي ترتضيه المرأة. لكنني فوجئت بمصطلحات عجيبة مثل: (التكافؤ – الشهادة – الجهاز – القايمة – الشبكة – المؤخر – حفل الزفاف/الديسكو)!
وعلمت أن الرسول لم يتزوَّج إلا ثيِّباتٍ، ما عدا عائشة، فبدأت أدعو إلى عدم نبذ المطلقات، بل وتحمَّست أنا نفسي لذلك، ضاربًا عرض الحائط بكل ما يقوله المجتمع عن المطلَّقات، وعن زواج الشاب بمطلقةٍ أكبر منه، سائرًا على هدي محمد النبي الكريم، الذي كانت خديجة تكبره بخمسة عشر عامًا. إلا أنني صُدِمت حين اقتربت من بعضهن، وفوجئت بأنهن لا يختلفن فعلًا عما يروِّجه المجتمع عن المطلَّقات (المحطَّمات نفسيًّا وسلوكيًّا)، فكانت منهن المكتئبة، ومنهن ذات الشخصية شِبه الفُصامية، ومنهن الساعية إلى الانتحار!
وعلمت أن العفو عند المقدرة من شِيَم المسلم، فعفوت عن الناشر الذي سرقني، ومؤلفة كتاب (سارقة الابتسامات) التي سرقت مجهودي كمصحِّح لُغَوي، وشتمتني، وهددتني بالضرب بالحذاء في مركز الجيزويت، وعفوت عن المدخِّن الذي تشاجر معي وكسر نظارتي لأنني طلبت منه إطفاء السيجارة، وعفوت عن ضابط المباحث الذي فتش موبايلي لمجرد أنني مُلتحٍ. وعفوت عن الصديق السلفي الذي عيَّرني (في حضرة لحيته الفخمة) بشهادتي المتوسِّطة، وذلك لأنه سبقني إلى شهادة الطب! فكانت نتيجة العفو والمسامحة، أن الناس بدؤوا يظنون أنني (عبيط) أبله، لا رجل على خُلُق (نبوي) عظيم!
وحتى الآن لم يعلم أولئك أنهم كانوا جزءًا من تجربة اجتماعية قمت بها هذا العام لأتمكَّن من كتابة هذا المقال، وعانيت في سبيلها كثيرًا، لكي يخرج المقال على هذه الصورة!
وهذه هي النتيجة التي توصلت إليها:
إن أخلاق النبوَّة كفيلة بتعريضك للقتل في المجتمع المصري (اللاديني)! ولا خلاص لك بين الضِّباع إلا إذا مسختَ نفسَك ضبعًا!.
وقد سردت في ما مضى خبراتي الشخصية فحسب، ولم أتعرَّض للأمور الأظهر (والأشد فجورًا) التي تعدَّى المصريون فيها على (الدين/الإسلام/الشريعة المحمدية/تمكين السلام)، في السياسة والاقتصاد وحياتهم اليومية، لكيلا يقاضيني بعض اللادينيين في محاكمهم اللادينية، بتهمة الإرهاب أو نشر أخبار كاذبة (أو حتى بازدراء الأديان… لا تندهش… إن فجورهم لا حدَّ له)!
وأصبحت المحصِّلة أنني أرمى بالإلحاد إن حدَّثت الناس عن تجربتي الفكرية النازعة إلى أبعد مدى من (الفَنَاء) الصُّوفي، وأُرمَى بالتشدُّد و(الحنبلية) إن حدَّثت الناس بـ (قال الله وقال الرسول)!
ولم يعد عندي تفسير لما أراه سوى أنني أحيا في مجتمع لاديني، تحرِّك أفرادَه الغرائز، ولا شيء غيرها، وأن المصطلحات الدينية التي تجري على ألسنتهم ويُحشر فيها دائمًا اسم الله (إن شاء الله، بإذن الله، الحمد لله، الله يخليك… إلخ)، لا تنمُّ عن دينٍ يعتنقونه، أو ربٍّ يخشون عذابه ويرجون جنته. إن هي إلا رواسب من الموروث الديني في اللغة، ليست لها حُجِّية قِيَمِية، ولا تنهى أحدًا منهم عن الفحشاء والمنكر.
وقد تعلمنا مبكرًا أن الفارق بين الإنسان والحيوان ليس في استخدام اللغة، وإنما في قدرته على التحكم في غرائزه. فإذا تحوَّل الإنسان إلى آلة تقودها الغريزة، فلن تجد بينه وبين أيِّ حيوانٍ فرقًا، إلا الأصوات التي يُجمجِم بها، والتي لا قيمةَ لها في الواقع إن سَمِعتَها تصدر عن شخص لا تفقه لغته؛ وهذا لأنه فقد لغة (الأخلاق/السلوك/القانون الأوَّلي).
فلا تتوقع من قطيع ذئاب لَقِيتَه وحدك، أن يراعي معك عهد (السلام)، إن قلتَ لأفراده بابتسامةٍ واسعةٍ: (السَّلامُ عليكم).
هذا هو حال المتدين ذي الأخلاق النبوية في المجتمع اللاديني
إن راهن على ميثاق الدين والأخلاق فسوف يؤكل، وتغمط كل حقوقه.
إذًا، ما العمل؟
أخشى أن أقول إن المآل الطبيعي للمتديِّن الصادق في مثل هذا المجتمع، هو التحوُّل إلى الإرهاب… وقد استخدمت كلمة (المتديِّن) الجامعة، ولم أخصَّ المسلمين فحسب، لأن البوذي المتديِّن، أو المسيحي المتديِّن، أو حتى المتديِّن المؤمن بوحدة الوجود، لن يستطيعوا التكيف، ما لم يكن الجهاد (الدفاع الشرعي عن النفس) لهم خيارًا وحيدًا، وتأسيس مجتمع جديد هو الحل الأوحد.
مجاهدة المجتمع اللاديني هي الحل الأوحد أمامَ أيِّ شابٍّ تهذَّبَ فسُبَّ، واستقامَ فضُرِب، وتعفَّفَ فاغتُصِب، وتميَّز فجُنِّب، وفَعَل الخيرَ فعُذِّب، وعفا عن سارقي ماله، فسرقوا كليته! وقد يكون هذا الجهاد منظمًا عن طريق جماعة تسعى إلى إنشاء المجتمع الجديد، أو يكون جهادًا فرديًّا عشوائيًّا مدفوعًا بالصَّدمة النفسية في المقام الأول قبل أية أيديولوجية، فتجد القتلة المتسلسلين أو جرائم القتل العشوائية في الأماكن العامة، أو السلوكيات العنيفة المستندة إلى المرض العقلي (الذي لا يصح أن يسمَّى مرضًا عقليًّا، ولكنه علاج نفسي غريزي دفاعي يخلِّص الإنسانَ من مسبِّبات الأذى النفسي، بأن يدفعه إلى الانتحار أو الانعزال أو إيذاء الآخرين). وما هذه الأمور (المرتقبة) إلا ردود أفعال احتبست فتراكمت فانفجرت في لحظة واحدة. هذا هو (الجهاد) الذي ينتظر مجتمعًا لادينيًّا كمجتمعنا، إذا استمرت نفس الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية.
ولا أفهم كيف يتعجب كثير من (التنويريين) من التحول الذي طرأ على الرسول بعد هجرته إلى يثرب، من رجل لا يحرِّك ساكنًا حين توضع مشيمة ناقة على ظهره وهو ساجد، إلى رجل يغزو ويغنم ويأسر ويغتال خصومه الذين يتربصون به.
هذا تحول طبيعي حدث لرجلٍ عامَلَ الناس بطريقة مثالية (نبوية/أخلاقية/متجرِّدة من الغرائز)، فأرادوا قتله، لأنه كان مرآةً تفضح قبحهم (جاهليتهم/لادينيتهم/عبادتهم للغرائز).
وهذا ما لخَّصه حسان بن ثابت بقوله:
دعا المُصطفى دهرًا بمكَّةَ لم يُجَبْ
وقد لان منه جانِبٌ وخِطابُ
فلما دَعَا والسَّيْفُ صَلْتٌ بكفِّه
له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ولذلك لن يفهم الإسلامَ ولا دوافعَ الرسول إلا من كان مثله، وإلا من امتدَّ عمره ونضج عقله. فالإسلام دين للكبار فقط (بما تختزنه كلمة الإسلام من معاني تمكين السلام، والتسامي على الغرائز، ومكارم الأخلاق، وبما تختزنه كلمة الكِبَر من معاني النضج).
ولا حكمة إلا بعد نزق، ولا (إسلام) إلا بعد جاهلية (وأقصد بالجاهلية تلك التي نسب الرسول إليها أبا ذر الغفاري حين قال لبلال: يا ابن السوداء، والتي قرن الرسول في خطبة الوداع ما كان فيها من كفر، بضرب الأعناق؛ وهي العنف، والاستسلام لردود الأفعال المبنية على الغريزة غير المروَّضة)… وتبيان هذا الأمر سيكون في مقال قادم إن شاء الله.