the dreamers الحالمون: كن واقعياً واُطلب المستحيل

كان لزامًا عليّ أن أصنع ذلك الفيلم، لقد قرأت الكثير من الهراء عن ثورة 1968 وكل تلك الأشياء الغبية، لكن هذا الفيلم لم يكن من وجهة نظر هؤلاء الصبية في ذلك الزمن لكنه من وجهة نظر رجل عجوز ينظر للوراء ..لذلك الزمن البعيد…
تلك كانت كلمات “بيرناردو بيرتولوتشي” عن تحفته السينمائية “الحالمون The Dreamers“؛ الفيلم الذي عُرض لأول مرة في أكتوبر من العام 2003 والمستلهم من رواية “الأبرياء المقدسون” لـ جيلبيرت أدير، والذي قام أيضًا بإعداد السيناريو, والفيلم من بطولة إيفا جرين ولويس جاريل ومايكل بيت.
يدرك الكثيرون أنّ فيلم الحالمون بالنظر إلى اسمه هو عمل عن الثورة، ثورة الشباب التي انطلقت شرارتها الأولى بفرنسا في ربيع 1968، واجتاحت بعدها أجزاء أخرى من العالم وكانت احتاجات “السنيماتيك الفرنسية” جزءًا من تلك الانتفاضة، وسببها الأساسي قيام الحكومة الفرنسية بعزل “هنري لانجلوا” مؤسّس السنيماتيك من رئاستها، الاعتراضات شارك فيها العديد من نجوم السنيما والمخرجين من أمثال جان لوك جودار، وأبل جانز، وإيريك رومير، فرانسوا تروفو، وجان بيير لو، والذي ظهر بشخصيته الحقيقية في الفيلم أثناء تظاهرات 1968 ثم أعقب ذلك ظهور ” لو ” في لقطة ملوّنة بهيئته الحالية في بداية الألفية الجديدة وكأنه يعزّز من وجهة نظر بيرتولوتشي بأن الفيلم ما هو إلّا رؤية رجل عجوز لأحداث سابقة شارك في أتونها شاباً يشغله كثيراً مستقبله المبهم.
وحدهم الفرنسيون يتخذون من القصور دوراً للسينما
السينما؛ والتي بدأت تاريخياً في باريس بعروض “الأخوين لوميير” في عام 1895، وشهدت تأثير العديد من الفرنسيين على مسار الصناعة بداية من “جورج ميليس” ومساهماته العبقرية في تاريخ السنيما مروراً بطليعية “جان كوكتو” وصولاً لتمرد جيل السنيمائيين الشباب ممن تأثروا بكتابات “أندريه بازان” في المجلة السنيمائية الشهيرة “كراسات السنيما”، مثال: تروفو وشابرول وجودار وفاردا..تلك الحركة التي اصطُلح على تسميتها ب “الموجة الجديدة la nouvelle vague“،
والتي ظهرت في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين ..كانت هي القصة غير المباشرة والتي أراد المخرج تأطيرها في فيلمه. إنّ شغف الفرنسيين بالسينما وتلك الفترة التي شهدت مجد السينما الفرنسية وتأثيرها السحري حتى علي بيرتولوتشي نفسه والذي كان شديد التأثر بتقنيات الموجة الجديدة في بداياته كمخرج، بدا ذلك جلياً في أفلامه الأولى مثال فيلم ” قبل الثورة ” 1964.
السينماتيك وأفلام الموجة الجديدة وسحر السينما عموماً هو ما جذب الشاب الأمريكي “ماثيو”، والذي أتى إلى باريس في بعثة دراسية، وتصادف وجوده مع تلك الأحداث الجارية والاحتجاجات التى من خلالها عُرف ” ثيو ” و” إيزابيل” ليشكّلوا معاً مثلثاً من مهووسي السينما التي تشغل كل تفكيرهم، وتعزلهم بعيداً عن الأحداث في شقتهم الباريسية / المتاهة، يلعبون ألعابهم الشبقة ويتجادلون في توافه الأمور، كل ذلك في إطار شغفهم بالسينما.
وهنا يلعب بيرتولوتشي لعبة نوستالوجية باستخدامه لمشاهد من أفلام قديمة لـ “جريتا جاربو” ونجوم سينما الأبيض والأسود أو حتى الأفلام الأحدث نسبياً لـ جودار وتروفو بما في ذلك ملصقات الأفلام التي تزين الجدران ليؤكد لنا مراراً أن شغف الباريسيين بالسينما يختلف.
وهنا يبرز اختلاف الثقافتين، ماثيو سليل استوديوهات هوليود بإنتاجها الضخم من جهة وثيو الباريسي المؤمن بالجمال وبأفكار “ماو” الثورية من جهة أخرى، يتجادلون فيما بينهما (من أعظم..كيتون أم شابلن؟ ..من أكثر ثورية كلابتون أم هيندريكس؟)
وهنا لا ينسى بيرتولوتشي أن يستخدم الموسيقى كخلفية لهذه السجالات، أو يحيلنا لمشاهد من أفلام حقبة السينما الصامتة أو حتى يستخدم الديكور ليكمل الصورة الجمالية للمشاهد.
إعلان
عِش دون وقت ميت..واستمتع بلا قيود.
-أحد شعارات ثورة 1968
إحدى سمات سينما بيرتولوتشي هي استخدامه المفرط أحياناً للجنس كنوع من التحليل النفسي لشخصياته ، فيمكن أن يمثّل الجنس عقدة حياتية لبطل أحد أفلامه – كفيلم “الملتزم” 1970- أو مجرد وجود ثانوي يضفي على السيناريو بعداً آخر.
إنّ الجنس في فيلم «الحالمون» حاضر كنوع من التمرد على وضع اجتماعي يرفضه التوأم ثيو وإيزابيل فهما يؤمنان بقدرة الجنس على التغيير، فمنذ ظهور مصطلح “الثورة الجنسية” على يد المحلّل النفسي النمساوي “فيلهلم رايش” في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، والذي اعتبر الكبت الجنسي كعامل رئيس في تحليله للمجتمعات وصولاً للانتفاضة الطلابية، ظل التمرد الجنسي هاجساً في عقول الشباب، لذا ظهرت بقوة شعارات من نوعية “تمتّع بلا حواجز” أو ” اقرأ لـ رايش ثم تصرّف بناءً على ذلك” في شوارع باريس أثناء الانتفاضة، وهنا أصبح ثيو وإيزابيل جزءاً من الأحداث قبل أن ينضم لهما ماثيو ليكونوا ثالوثاً إيروسياً ويصبحوا منفصلين تماماً عن العالم الخارجي، يستحمون عرايا ثلاثتهم معاً، يمارس ماثيو الحب مع إيزابيل أمام ثيو الذي يكسر البيض ويعد طعامه في سلاسة بينما تهدر سرينة سيارة الشرطة وهي تلهث خلف المحتجين المرددين هتافاتهم الحماسية. لقد كانوا غارقين في عزلتهم وبعيداً عما يدور في شوارع باريس في ظل غياب الأب / السلطة سواء من ناحية التأثير أو من ناحية عدم الوجود الفعلي.
لا إله ولا سيد
أحد الشعارات الثورية التي نُقشت على جدران باريس في تلك الفترة، والتي تعكس تمرد جيل الشباب المحمَّل بأفكاره الثورية مابين ماركسية أو ماوية أو حتى بعض الأفكار المنتمية لـ “مدرسة فرانكفورت”، وهنا نذكر الشعار الشهير والذي أطلق عليه اختصاراً 3m : ” ماركس..ماو ..ماركوزة ” في إشارة لفلسفة كارل ماركس وكتابات “ماو تسي تونج” والفيلسوف “هيربرت ماركوزة”، لم يكن التوأم ببعيد عن تلك الأفكار وظهر ذلك واضحاً في طريقة تعاملهم مع والدهم وإنكار ثيو تحديداً على والده أنه لم يظهر تعاطفاً مع قضية فيتنام، ولم يكتب التماساً كما فعل شعراء آخرون، ليردّ الوالد:
الشعراء يكتبون القصائد وليس الالتماسات.
في الحقيقة يبدو أن ثيو أكثر تمرداً من أخته فهو يرفض أي نوع من السلطة أو الوصاية فأساس تمرده من فعل التمرد ذاته، ودلالته على استقلاليته كفرد رافضاً أي سلطة عليا سواء إله/دولة/أب، ويختلف ذلك عن نوعية التمرد الأخلاقي نوعاً ما بالنسبة لإيزابيل فهي لا تنكر وجود الأب بالكلية لذا تخشى معرفة الوالدين بطبيعة علاقتها بأخيها، الأب موجود ولكن تأثيره ضعيف أو غير موجود، فحين يعود الوالدان من رحلتهما ويكتشفان حقيقة الأمور، يكتفي الوالد بترك شيك بنكي يغطي نفقات التوأم ولا يحرّك ساكناً لمشهد العراة الثلاثة، بل يذهب مع زوجته فقط، وحين تصحو إيزابيل وتدرك أن ما اخشاه قد حدث تقرر لحظتها الانتحار، وهنا يكسر سكون الحدث مجرد حجر صغير مُلقى من الشارع يكسر زجاج النافذة ليخرجهم من متاهتهم ويحضر لهم الشارع بكل مظاهراته حتى مضجعهم، ليقرروا بعد ذلك الانضمام للانتفاضة مرددين الهتافات ضد القمع وضد كل أشكال السلطة الأبوية، ليأتي مشهد النهاية حين يختلف ماثيو معهما، فهو ضد استخدام العنف ضد الشرطة ليتفرقا نتيجة لذلك كل في طريقه. وينضم ثيو وإيزابيل لصفوف المحتجين ويشتركان في قذف زجاجات المولوتوف وحجارة الرصف على الشرطة، بينما يمضي ماثيو وحيداً مع أفكاره السلمية. وهنا يصنع بيرتولوتشي نهايته الساحرة لفيلم The Dreamers على أنغام أغنية “إديث بياف” الشهيرة “لا لا أندم على شيء”.
يذكر ماو تسي تونغ: «الثورة ليست حفل عشاء…..الثورة تمرد وعمل من أعمال العنف بواسطتها تتغلب طبقة على أخرى». فللحياة دوماً خياراتها، وقد فضّل ماثيو السلمية، ونبذ العنف، ورأى أن يكمل باقي حياته شغوفاً بالسينما ويصبح مخرجاً عظيماً يصنع أفلاماً تحاكي ثورة لم يكتوي بنارها أو يشهد انكساراتها. أما ثيو وإيزابيل وكل الشباب الذين خرجوا طلباً للمستحيل وإيماناً بالحرية..لم تكسرهم الهزيمة وظلوا يناضلون، تقودهم روح التمرد حتى ولو لم يُكتب لهم النجاح مؤمنين بمقولة ماو تسي.
نرشح لك: Three Billboards Outside Ebbing Missouri: ثلاثُ لوحاتٍ للألم
إعلان