الدين والصراع الطبقي
رؤية إنجلز للظاهرة الدينية
رؤية إنجلز للظاهرة الدينية
في حال من التفسُّخ والانهيار الشامل على المستوى الاقتصادي والسياسي والفكري، تطلَّع المضطهدون إلى فرار من العالم الخارجي نحو العالم الداخلي مم أجل الحصول -في مستوى الوعي- على عزاء يمكنه أن يبعدهم عن يأس كلي، وكان لا بد لهذا العزاء أن يتجلَّى في صيغة دينية شأن سائر الأفكار التي كتب لها أن تستولي على وعي الجماهير في تلك المرحلة؛ فظهرت المسيحية، وهذا تبعًا لأن القوى الاجتماعية التي اعتنقت المسيحية ودفعتها إلى المسرح الاجتماعي هي الجماهير الشعبية للإمبراطورية الرومانية، فقد ضربت المسيحية على وتر حساس في عدد لا يحصى من تلك القلوب، وتحديدًا على الأنين من شقاء الحياة، ومن البؤس المادي والمعنوي الشامل.
كانت المسيحية الأولى عملًا جماهيريًا معبرًا عن حركة ثورية جاءت تمردًا على الفروق الطبقية التي تحكم المجتمع. [1]
برونوباور والمسيحية الأولى
رأي إنجلز بأن ظهور المسيحية شكل نقطة هامة في التاريخ كتجلٍ غير واعٍ للصراع الطبقي، وعلى الرغم من أن المسيحية البدائية لم تكن واعية بذاتها ولكن قد مثَّلت مرحلة كاملة وجديدة في التطور الديني كونه رؤية طبقية مدعومة بحيث تصبح أحد العناصر الأكثر ثورية في تاريخ الفكر البشري.
كما أشار إلى أن دائرة الإيمان المسيحي قد اجتذبت جميع العناصر التي كان سير تفسَّخ العالم القديم قد طردها؛ فجاء المسيحيون الأوائل بصورة رئيسية من بين الكادحين والرازحين المنتمين إلى أدنى شرائح الشعب؛ كما ينبغي أن يكون العنصر الثوري.
فالمسيحية قد استولت على الجماهير كما تفعل الاشتراكية الحالية. [2]
ويذكر في السمات المشتركة بين الحركتين:
– أن كلتا الحركتين لم يصنعهما زعماء وأنبياء (مع أن هذه وتلك لا تخلوان من أنبياء).
– أنهما حركتا جماهير، وكل حركة جماهير تكون في البداية مشوشة وتفتقر إلى الوضوح والتلاحم.
– أنهما عبرتا عن رفضهما الاضطهاد والمعاناة، وقد لقي أعضاؤهما حتفهم أو نفيهم على أيدي السلطات الحاكمة.
– تكون العديد من العصب التي تتصارع فيما بينها، على الأقل بنفس الضراوة التي تصارع بها العدو المشترك الخارجي.
لكن يبقى الفارق الأساسي بينهما الآن أنه في حين علقت المسيحية خلاصها بالسماء، فإن الاشتراكية لا زالت تريد صنعه على الأرض.
إسهام في تاريخ المسيحية الأولى
يتتبع إنجلز تفسير رؤيا يوحنا في النقد الألماني لينتهي إلى أن الجماعات المسيحية الأولى كانت تحلم بهدم الإمبراطورية الرومانية وزوال سلطانها. يتضح ذلك فيما تعرضه الرؤيا عن الوحش ذي الرؤوس السبعة (التلال السبعة) الذي تجلس عليه المرأة/العاهرة الكبيرة. ذلك الوحش الذي يمضي إلى الهلاك ليس إلا (الهيمنة العالمية لروما) ممثلة بالتتابع في سبع أباطرة.
فإن تلك الجماعات الأولى المقاتلة كان لها إيمانًا يختلف اختلافًا تامًا عن إيمان الكنيسة، إيمان يعترفون فيه بقناعاتهم الثورية أمام القضاة الوثنيين وصراعهم الذي لا يكل ضد عدو الخارج والداخل.
كما يستشهد إنجلز برواية يعد صاحبها واحد من أفضل المصادر عن أوائل المسيحيين، فهو منصف لم تكن لديه دوافع بسبب إيمان وثني لمعاملة المسيحيين على نحو مغاير لمعاملة أي جماعة دينية أخرى. يقول لوقيانوس السميساطي في كتابه “موت بيريغرينوس” * :
أقنعهم ذلك المشرع الأول أنهم جميعًا يصبحون إخوة في اللحظة التي ينكرون فيها الاّلهة اليونانية، ويبدؤون عبادة السفسطائي المصلوب، ويعيشون بناءً على قوانينه.
اعتقد لوقيان أن سذاجة المسيحيين جعلت منهم فريسة سهلة لمحتال مثل بيريغرينوس، تلك الحاجة لمشاركة المال واحتقاره. التي تسبب بها إيمانهم بأقوال يسوع
فهم يحتقرون كل الملكيات دونما تمييز ويعتبرونها ملكيات شائعة.
إن إنجلز بتحليله الظاهرة الدينية من منظور الصراع الطبقي قد أبرز القوة الاحتجاجية للدين وشق الطريق بتناوله العلاقة بين الدين والمجتمع لنهج جديد و متميز عن الفلسفة التنويرية التي ترجع إلى القرن الثامن عشر.
فالمسيحية لم تبدو في نظره مثلما كانت تبدو في نظر فيورباخ، بوصفها “جوهرًا منفصلًا عن الزمن” بل هي تبدو بوصفها شكلًا ثقافيًا يتعرض لتحولات في العصور التاريخية المختلفة: فهي تبدو في البداية بوصفها ديانة للعبيد، ثم بوصفها أيديولوجيا الإمبراطورية الرومانية، ثم بوصفها أيديولوجيا ملائمة للهيراركية الإقطاعية وأخيرًا بوصفها أيديولوجيا تتميز بالتكيف مع المجتمع البورجوازي.
حاول إنجلز فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان، فالدين عنده ظاهرة موضوعية تنتمي إلى الوعي الاجتماعي، وله القدرة في ظل ظروف محددة أن يلعب دورًا إيجابيًا في اتجاه تحرير الإنسان من الاستغلال [3]
وفي وثيقة ( مشروع تبني العقيدة الشيوعية ) يجيب إنجلز عن سؤال:
كيف سيتصرف النظام الشيوعي إزاء الأديان القائمة؟
إن جميع الأديان المعروفة حتى الآن كانت تعبيرًا عن مراحل من التطور التاريخي لشعوب منفردة أو مجموعات من الشعوب، غير أن الشيوعية هي تلك المرحلة من التطور التاريخي التي تجعل كافة الأديان القائمة دونما أهمية وتلغيها.
نرشح لك: الدين كأفيون للشعوب/ الدين والاقتصاد من منظور كارل ماركس
المصادر : [1] مساهمة في تاريخ المسيحية الأولية (حول الدين) كارل ماركس وفريدريك إنجلز. ت: ياسين الحافظ، دار الطليعة. [2] برونو باور والمسيحية الأولي (حول الدين ) كارل ماركس وفريدريك إنجلز.ت: ياسين الحافظ، دار الطليعة * روبرت فان فورست: يسوع خارج العهد الجديد، مدخل إلى الأدلة القديمة. [3] الماركسية والدين: فيصل دراج، دار الفارابي