الفيزياء في حاجة للفلسفة والعكس صحيح
لقد قامت الفلسفة دائمًا بدور أساسي في تطوير العلوم و خصوصا الفيزياء، ومن المرجّح أن تستمرّ في القيام بذلك.
لقد كان دائمًا للفلسفة، ولا زال، تأثيرٌ كبيرٌ على الفيزياء أكبرُ ممّا كان يُفترَض وجودُه عمومًا، على عكس الادّعاءات المتعلّقة بعدم صلة الفلسفة بالعلوم. لقد ترتّبت عن إيديولوجيّة حاليّة معيّنة معادية للفلسفة تأثيراتٌ مدمّرة على خصوبة العلم.
إنّ الخطوات الهائلة الأخيرة التي اتّخذتها الفيزياء التجريبيّة كلّها تُفنّد الاتّجاهاتِ المتضاربة دون قيود في الفيزياء النظريّة في الوقت الرّاهن. إذ تُشكِّك النتائجُ التجريبيّة نحو اكتشاف جُسيمات هيغز وموجات الجاذبيّة، والفشل في اكتشاف التّناظر الفائق الذي توقّعه الكثيرون، في جدوى الافتراضات الفلسفيّة الشّائعة بين علماء الفيزياء النّظريّة، وتدعونا إلى الانخراط في تفكيرٍ فلسفيٍّ أوضحَ في الطريقة العلميّة.
“ضدّ الفلسفة” هو عنوان فصل من كتاب لأحد كبار علماء الفيزياء في الجيل السّابق: ستيفن وينبرغ. يجادل وينبرغ بوضوح أنّ الفلسفة أكثر ضررًا من كونها مفيدة للفيزياء – إذ غالبًا ما تكون عبارةً عن قيدٍ يجب على الفيزيائيين التحرّرُ منه. وكتب ستيفن هوكينغ مقولته الشّهيرة بأنّ “الفلسفة قد ماتت” لأنّ الأسئلة الهامّة التي كان يناقشها الفلاسفةُ أصبحت الآن في أيدي علماء الفيزياء. صرّح نيل دو غراس تايسون علنًا: “… نحن ندرس الكون المتمدّد، … و ندرس الفيزياء الكميّة، كلّ منها لا يزال بعيدًا عن ما يمكنكم استنتاجه من كرسي مزوّد بذراعين إذ أصبح مجتمع الفلاسفة جوهريًّا قديمًا بأكمله.” لا أتّفق مع ذلك.
دور الفلسفة بين سقراط وأفلاطون
قامت الفلسفة دائمًا بدور أساسيٍّ في تطوير العلوم وخاصةً الفيزياء، ومن المرجَّح أن تستمرّ في القيام بذلك الدور. هذا نقاشٌ طويُل الأمد. فقد عُرِضَ فصلٌ أوّليٌّ ممتعٌ من النقاش في أثينا خلال الفترة الكلاسيكية. في ذلك الوقت، تعلّم شبابُ العصر الذهبيّ في المدينة في المدارس الشّهيرة. وتميّز اثنان: مدرسة سقراط، والأكاديميّة، التي أسّسها المدعو أفلاطون. لم يكن التنافُّس بين الاثنين يتعلّق فقط بالجودة: كان نهجُهم التّعليميّ مختلفًا. إذ قدّم سقراطُ تعليمًا عمليًّا رفيعَ المستوى، ذلك أنّه علّم شباب أثينا المهارات والمعرفة المطلوبة مباشرةً ليصبحوا سياسيين ومحامين وقضاة ومهندسين معماريين وما إلى ذلك. أمّا الأكاديمية فقد ركّزت على مناقشة التّساؤلات العامّة حول الأسس: ما العدالة؟ ماذا سيكون أفضلُ القوانين؟ ما الجمال؟ ممّا صُنِعت المادة؟ وقد ابتكر أفلاطون اسمًا جيّدًا لهذه الطريقة لطرح الإشكاليّات: “الفلسفة”
كانت انتقادات سقراط لنهج أفلاطون في التعليم والمعرفة مباشرة وملحوظةً مثل ادّعاء هؤلاء العلماء المعاصرين الذين يقولون أنّ الفلسفة لا تقوم بأيّ دورٍ في العلوم: “أولئك الذين يمارسون الفلسفة والذين يحدّدون البراهين والحجج … وهم معتادون على الاستفسار، ولكن لا يشاركون في أيٍّ من وظائفهم العمليّة، … حتّى لو كانوا قادرين على التعامُّل مع شيءٍ ما، فإنّهم يفعلون ذلك تلقائيًّا بشكلٍ أسوأ، بينما أولئك الذين ليس لديهم معرفةً بالحجج [الفلسفة]، إذا دُرِّبوا [في العلوم الملموسة] وامتلكوا آراء صائبة، متفوّقة تمامًا لجميع الأغراض العمليّة. وبالتالي بالنسبة للعلوم، فإنّ الفلسفة عديمةُ الفائدة تمامًا.”
كما حدث، كتب طالبٌ يافعٌ ذكيٌّ من مدرسة أفلاطون عملاً قصيرًا ردًّا على انتقادات سقراط: البروتربتيكس، وهو نص أصبح مشهورًا في العصور القديمة. غادر الزميل الشاب الذكيّ الذي قام بتأليف الكُتيّب في وقتٍ لاحقٍ أثينا، إلاّ أنّه عاد في نهاية المطاف لافتتاح مدرسته الخاصّة، وكانت لديه مسيرة مهنيّة جيدة. كان اسمه أرسطو.
لقد أثبتت ألفي سنة من تطور العلوم والفلسفة صحّة ذلك، وإن كان هناك شيء، فقد عزّزت دفاعات أرسطو عن الفلسفة ضدّ اتّهامات سقراط بأنّها عقيمة. ولا تزال حججه ذات صلة ويمكننا أن نستلهم منها للردّ على الادّعاءات الحاليّة بأنّ الفلسفة عديمة الفائدة بالنسبة للفيزياء.
تتمثّل أوّل حجج أرسطو في حقيقة أنّ النّظرية العامّة تدعم ويحدث أن تكون مفيدة لتطوير الممارسة. في الوقت الرّاهن، بعد ألفي سنة تطوّرت خلالها الفلسفة والعلوم بشكل كبير، أصبح الدليل التّاريخيّ بشأن تأثير الفلسفة على العلم هائلًا. فيما يلي بعض الأمثلة حول هذا التأثير، من علم الفلك والفيزياء. علم الفلك القديم – أي كلّ ما نعرفه عن كون الأرض كرويّة وحجمها وحجم الشّمس والقمر والمسافات نحو الشّمس والقمر وحركة الكواكب في السّماء والأساس الذي يظهر منه علم الفلك والفيزياء الحديثة، هو سليلٌ مباشرٌ للفلسفة.
طُرِحت الأسئلة التي حفّزت هذه التطوُّرات في الأكاديميّة ومدرسة ليسيوم، بدافعٍ من الاهتمامات النظريّة، بدلًا من العمليّة. وبعد قرون، اتّخذ كلٌّ من غاليليو ونيوتن خطوات كبيرة إلى الأمام، لكنّهما اعتمدا بشدّة على ما حدث من قبل. ووسّعوا المعرفة السابقة، وقاموا بإعادة تفسيرها، وإعادة صياغتها، والبناء عليها. كان عملُ غاليليو لا يمكن تصوّرُه دون الفيزياء الأرسطية. كان نيوتن صريحًا بشأن امتنانه للفلسفة القديمة، وخاصّة ديموقريطوس، للأفكار التي نشأت في الأصل عن الدّوافع الفلسفيّة، مثل مفاهيم الفضاء الخالي، والمذهب الذرّي وحركة الاستقامة الطبيعيّة. تستند مناقشة حاسمة له حول طبيعة الفضاء والوقت على مناقشاته مع (وضدّ) ديكارت. تأثّرت كلّ التطوّرات الكبيرة في الفيزياء بقوةٍ بالفلسفة في القرن العشرين. إذ ينبع ميكانيكا الكمّ من حدس هايزنبرغ، المرتكز على الجوّ الفلسفيّ الوضعيّ القويّ الذي وجد فيه نفسَه: يحصلُ المرءُ على المعرفة عن طريق الاقتصار على ما يمكن ملاحظته.
إنّ مُلخَّص دراسة هاينزبرغ لعام 1925 حول نظرية الكمّ صريحةٌ بهذا الشّأن: “الهدف من هذا العمل هو وضع الأساس لنظرية ميكانيكا الكمّ على أساسٍ حصريٍّ على العلاقات بين الكميّات التي يمكن ملاحظتُها من الناحية المبدئية. غذّى الموقف الفلسفيّ الواضح نفسه اكتشاف أينشتاين للنسبيّة الخاصّة: من خلال اقتصاره على ما يمكن ملاحظته، فإنّنا ندرك أن مفهوم التّزامن مُضلِّل. أدرك أينشتاين صراحةً امتنانه للكتابات الفلسفية لماخ وبوانكاريه. كانت التأثيرات الفلسفيّة على التصوّر الخاصّ بالنسبيّة العامّة أكثر قوّة. ولمرّة أخرى، كان صريحًا في إدراكه للحجج الفلسفيّة في لايبنز وبيركلي وماخ. وأكّد آينشتاين أنّه كان لشوبنهاور تأثيرٌ واسعُ النّطاق عليه حتّى.
ربّما لم تكن أفكارُ شوبنهاور بشأن الوقت والتمثيل صعبةً للغاية لإدراك أفكار أينشتاين المُفضية إلى النسبيّة العامّة. هل يمكن أن يكون من قبيل الصدفة حقًا، في أيّام شبابه، أن يكون الفيزيائيُّ الأعظم في القرن العشرين قد نصب جُلَّ هذا التركيز الواضح على الفلسفة، كقراءة كتاب لكانط “ثلاثة من النُقّاد” عندما كان عمره 15؟
لماذا هذا التأثير؟ لأنّ الفلسفة تُوفِّر الأساليب التي تُفضي إلى وجهات نظر جديدة وإلى التفكير النقدي. لدى الفلاسفة الأدوات والمهارات التي تحتاجها الفيزياء، ولكن لا ينتمون إلى تدريب الفيزيائيين: التحليل المفاهيميّ، الانتباه إلى الالتباس، دقّة التعبير، القدرة على اكتشاف الثغرات في الحجج القياسيّة، ابتكار وجهات نظر جديدة جذريًا؛ لتحديد نقاط الضعف المفاهيميّة، والبحث عن تفسيرات مفاهيميّة بديلة.
لا أحد يعرض هذا أفضل من آينشتاين نفسه: “إنّ الإحاطة علمًا بالخلفيّة التاريخيّة والفلسفيّة تمنحُ هذا النوع من الاستقلال عن الأحكام المُسبَّقة من جيله التي يعاني منها معظم العلماء. إنّ هذا الاستقلال الناشئ عن البصيرة الفلسفيّة – في رأيي – هو علامةٌ للتمييز بين مجرد حرفيّ أو مختصّ وبحث حقيقيّ عن الحقيقة. “يُقال أحيانًا أنّ العلماء لا يفعلون شيئًا ما لم يحصلوا أوّلاً على إذن من الفلسفة. إذا قرأنا ما قاله أعظم العلماء حول فائدة الفلسفة، علماء الفيزياء مثل هايزنبرغ، شرودنجر، بور وآينشتاين، نجد آراء معاكسة لآراء هوكينج ووينبرج. هذه حجة ثانية ترجع إلى أرسطو: أولئك الذين ينكرون فائدة الفلسفة، يمارسون الفلسفة. النقطة أقلّ سطحيّة ممّا قد تبدو عليه في البداية. لقد حصل كلٌّ من وينبرغ وهوكينغ على نتائج علميّة هامّة. في القيام بذلك، كانوا يمارسون العلم. في الواقع، لم يكونوا يمارسون الفيزياء من خلال كتابة أشياء مثل “الفلسفة عديمة الفائدة للفيزياء”، أو “الفلسفة ميتة”، بل كانوا يفكرون بشأنِ أفضلِ طريقةٍ لتطوير العلوم.
المسألة هي منهجية العلوم: من الشّواغل المركزيّة في فلسفة العلوم أن نسأل كيف يتمّ العلم وكيف يمكن دراسته ليكون أكثر فعاليّة. يُفكِّر العلماء الجيّدون في المنهجيّة الخاصّة بهم، ومن المناسب أن يفعل وينبرغ وهوكينغ ذلك أيضًا. ولكن كيف يُعبِّرون عن فكرة معيّنة حول منهجيّة العلم؟ هل هذه هي الحقيقة الأبديّة حول كيفيّة دراسة العلم دائمًا؟ وهل ينبغي أن تعمل؟ هل هو أفضلُ فَهْمٍ للعلوم لدينا في الوقت الحاضر؟ إنّه ليس كذلك. في الواقع، ليس من الصعب تتبُّع أصول أفكارهم. إذ تنشأ عن خلفيّة الفلسفة الوضعيّة المنطقيّة، تصحيح بوبر وكون. تعتمد الأيديولوجيّة المنهجيّة السائدة الحاليّة في الفيزياء النظريّة على مفاهيمهم حول قابليّة الدحض والثورة العلميّة، والتي تحظى بشعبيّة بين علماء الفيزياء النظريّة؛ وغالبًا ما يُشار إليهم، ويُوظَّفوا لتوجيه البحث وتقييم العمل العلمي.
علاوةٌ على ذلك، في إعلان عدم نفعيّة الفلسفة، فإنّ فاينبرج وهوكينغ وغيرهم من العلماء “المناهضين للفلسفة” يُشيدون في الحقيقة بفلاسفة العلوم التي قرأوها، أو الذين استوعبوا أفكارهم من بيئتهم. وهي بصمةٌ لا لبسَ فيها. عندما يُنظَر إليها على أنّها مجموعةٌ من البيانات الزائفة، وهي كلمات تشبه العبارات ولكن ليس لها معنى مناسب، من النوع المتكرّر. على سبيل المثال، الطريقة التي يسخر فيها نيل ديغراس تايسون من الفلسفة فإنّ هذه الانتقادات يمكن تتبُّعها بسهولة إلى موقف تجريبييّ فيينا المناهض للميتافيزيقيا.
أمام كلّ هذه اللعنات المُوجَّهة ضدّ “الفلسفة”، يمكن للمرء أن يسمع تقريبًا شعار تجريبييّ فيينا “لا للميتافيزيقيا”. وهكذا، عندما صرَّح وينبرج وهوكينج بأنّ الفلسفة غير نفعيّة، فإنّهم يعلنون، في الواقع، تمسُّكهم بفلسفة علميّة معيّنة. من حيث المبدأ، لا حرج في ذلك، ولكنَّ المشكلة تكمن في كونها ليست فلسفة جيّدة جدًّا للعلوم. فمن ناحية، عَمَلَ نيوتن وماكسويل وبولتزمان وداروين ولافوازييه والعديد من العلماء الرئيسيين الآخرين ضمن منظورٍ منهجيٍّ مختلفٍ، وقاموا بعملٍ جيّدٍ أيضًا. من ناحية أخرى، تقدّمت فلسفة العلوم منذ كارناب وبوبر وكوهن ، حيث أُدرِك أنّ الطريقة التي يُعمَل بها العلم بفعاليةٍ هي أغنى وأكثرُ دقّةٍ من الطريقة التي صُوّرت بها في تحليل هؤلاء المفكّرين. يكمن خطأ وينبرغ وهوكينج في فهم معيّن مقيّد ومحدود تاريخيًا للعلم بسبب المنطق الأبديّ للعلوم نفسها. يتمثّل ضعف موقفهم في قلّة الوعي بالطوارئ التاريخيّة الهشّة.
هم يقدّمون العلم كفرع من المعرفة له منهجيّة واضحة وغير مثيرة للجدل، كما لو كان هذا هو نفسه من عهد بيكون إلى اكتشاف موجات الجاذبيّة، أو كما لو كان من الواضح تمامًا ما يجب أن نفعله وكيف يجب أن نفعل ذلك عندما نمارس العلم، إلاّ أنّ الواقعَ مختلفٌ. أعاد العلم تحديد فهمه لنفسه مرارًا وتكرارًا، إلى جانب أهدافه وأساليبه وأدواته. وقد لعبت هذه المرونة دورًا رئيسيًّا في نجاحه. دعونا نفكّر في بعض الأمثلة من الفيزياء وعلم الفلك. في ضوء نظريّات هيبارخوس وبطليموس التنبؤيّة النّاجحة بشكل خارق للعادة، كان هدف علم الفلك هو إيجاد التركيبة الصحيحة من الدوائر لوصف حركة الأجرام السماوية حول الأرض..
على عكس التوقُّعات، اتّضح أنّ الأرضَ نفسها واحدةٌ من الأجرام السماوية. بعد كوبرنيكوس ، بدا أن الهدفَ هو إيجاد التركيبة الصحيحة من الأجسام المتحرِّكة التي ستعيد إنتاج حركة الكواكب حول الشمس. على عكس التوقُّعات، اتّضح أنّ المدارات الإهليلجية المجرَّدة كانت أفضلَ من الأجسام..
بعد نيوتن ، بدا واضحًا أنّ هدف الفيزياء هو إيجاد القوى المؤثّرة على الأجسام. على عكس هذا، اتّضح أنّه يمكن وصف العالم بشكل أفضل من خلال الحقول الديناميكيّة بدلًا من الأجسام. بعد فاراداي وماكسويل ، كان من الواضح أنّ الفيزياء كان عليها أن تجد قوانين الحركة في الفضاء، مع مرور الوقت و خلافًا للافتراضات، اتّضح أنّ المكان والزمان هم أنفسهم ديناميكيان. بعد آينشتاين، أصبح من الواضح أنّ الفيزياء يجب أن تبحث فقط عن قوانين الطبيعة الحتميّة. لكن اتّضح أنّه يمكننا في أفضل الأحوال إعطاء قوانين احتمالية.. وما إلى ذلك.
فيما يلي بعضُ التعريفات الانزلاقيّة لما اعتقده العلماء عن ماهية العلم: استنباط القوانين العامّة من الظواهر المرصودة، ومعرفة أهمّ مكوّنات الطبيعة، والمحاسبة المتعلّقة بالنُّظم في الملاحظات التجريبيّة، وإيجاد مخطَّطات مفاهيميّة مؤقَّتة لفهم العالم، (آخرها هو ما يعجبني). العلم ليس خطّة له منهجيّة مكتوبة على الحجر أو بنية مفاهيميّة ثابتة. إنّه مسعًى دائمُ التطوُّر لفهم العالم بشكل أفضل. في سياق تطوّره، انتُهكت مرارًا وتكرارًا قواعدُه الخاصة وافتراضاته المنهجيّة المُعلَنة.
إنّ الوصفَ الشائع حاليًا لما يفعله العلماءُ هو جمع البيانات وإدراكها في شكل نظريات. مع مرور الوقت، يتمُّ الحصول على بيانات جديدة وتتطوّر النظريّات. في هذه الصورة، يُصوَّر العلماءُ ككائنات عقلانية تلعب هذه اللعبة باستخدام ذكائهم ولغة معيّنة وبنية ثقافيّة ومفاهيمية راسخة.
تكمن المشكلة في هذه الصورة في أنّ الهياكل المفاهيمية تتطوّر كذلك. العلم ليس مجرّد مجموعة متزايدة من المعلومات التجريبيّة وسلسلة من النظريات المتغيّرة. إنّه أيضًا تطوُّر بنيتنا المفاهيمية. إنّه البحثُ المستمرُ عن أفضل بنية مفاهيمية لاستيعاب العالم، عند مستوى معيّن من المعرفة. يجب أن يتمّ تعديل البنية المفاهيميّة ضمن تفكيرنا، كما يجب على البحّار إعادة بناء قاربه أثناء الإبحار، تشبيه جميل لأتو نويرات الذي كثيرًا ما يقتبسه عنه كواين.
لقد تطوّر هذا التّشابُّك في التعلُّم والتغيير المفاهيمي وتطوُّر المنهجيّة والأهداف تاريخيًّا في حوار مستمر بين العلوم العمليّة والتأمُّل الفلسفي. إنّ آراء العلماء، سواء أحبوا ذلك أم لا، مُشرَّبةٌ بالفلسفة.
وهنا نعود إلى أرسطو: تُقدِّم الفلسفة إرشادات حول كيفيّة إجراء البحوث. ليس لأنّ الفلسفة يمكن أن تقدّم كلمة أخيرة حول المنهجيّة الصحيحة للعلوم (خلافًا للموقف الفلسفي لـوينبرغ و هوكينغ) ولكن لأنّ العلماء الذين ينكرون دور الفلسفة في تقدُّم العلوم هم أولئك الذين يعتقدون أنّهم قد وجدوا بالفعل المنهجيّة النهائيّة، فقد استنفدوا بالفعل جميع الأسئلة المنهجيّة وأجابوا عنها. وهكذا فَهُم أقلُّ انفتاحًا على المرونة النظريّة اللازمة للمضيّ قُدمًا. إنّهم الأشخاص العالقون في أيديولوجيّة زمانهم.
قد يكون أحدُ الأسباب وراءَ العُقم النسبيّ للفيزياء النظريّة على مدى العقود القليلة الماضية هو بالتّحديد تمسُّك العديد من علماء الفيزياء بالفلسفة الخاطئة للعلوم اليوم. ألقى بوبر وكوهن، اللذان يتمتّعان بشعبيّة بين علماء الفيزياء النظرية، الضوء على جوانب هامّة من الطريقة التي يُدرَّس بها العلم النافع، لكنّ صورتَهُما للعلوم غيرُ مكتملة و أشتبه أنّ رؤاهما المتبنّاة بطريقة إلزامية ودون تمحيص، قد انتهى بها الأمر إلى إجراء أبحاث مضلّلة.
إنّ تركيز كون على عدم الاستمرارية وعدم قابليتها للمقايسة قد ضلّل العديد من علماء الفيزياء النظريّة والتجريبيّة في عدم تقدير الجوانب التراكميّة الهائلة للمعرفة العلميّة. إنّ تركيز بوبر على قابلية الدّحض ، وهو في الأصل معيار التّحديد، قد أُسيء تفسيره بشكل قاطع كمعيار للتّقييم. وقد أدّى الجمعُ بين الاثنين إلى حدوث التباسٍ منهجيٍّ كارثيّ: ففكرة أنّ المعرفة السابقة ليست ذات صلة عند البحث عن نظريات جديدة، وأنّ جميعَ الأفكار غير المثبتة مثيرةٌ للاهتمام بالقدر نفسه وأنّ جميع الآثار غير المقيسة من المرجح أن تحدث، وأنّ عمل المنظر يتمثّل في خلق الاحتمالات التعسّفية من العدم وتطويرها، لأنّ أي شيء لم يُدحض ربّما يكون في الحقيقة صحيحًا.
هذه هي أيديولوجية “لم لا؟” الحالية: أيّ فكرة جديدة تستحقّ الدراسة، لمجرّد أنّها لم تُدحَض؛ أيّ فكرة محتملة بالقدر نفسه، لأنّه قد يكون هناك حالة من عدم الاستمرارية في التقدُّم إلى الأمام في درب المعرفة حسب فلسفة كون لم يكن من الممكن التنبؤ بها على أساس المعرفة السابقة؛ أيّ تجربة مثيرة للاهتمام بالقدر نفسه، شريطة أن تختبر شيئًا لم يُختبَر بعد.
أعتقد أنّ هذه الفلسفة المنهجيّة قد أدّت إلى الكثير من الأعمال النظرية عديمة الفائدة في الفيزياء والعديد من الاستثمارات التجريبية عديمة الفائدة. فالشطحات التعسّفية في فضاء غير المحدود من الاحتمالات لم تكن أبدًا وسيلة فعّالة لدراسة العلم. ويتفرّع السبب إلى شقّين: أوّلًا، هناك الكثيرُ من الاحتمالات، واحتمال العثور على فرصة جيّدة بالصُدفة البحتة ضئيل. والأهمّ من ذلك، أنّ الطبيعة تفاجئنا دائمًا، ونحن- المخلوقات المحدودة – أقلّ إبداعًا وخيالًا ممّا نعتقد. عندما نعتبر أنفسنا بفخر أنّنا “نتكهّن على نطاق واسع”، فإنّنا في الغالب نقوم بإعادة ترتيب الإيقاعات القديمة: التجديد الحقيقيّ الذي ينجح ليس شيئًا يمكننا العثور عليه فقط من خلال التخمين.
إنّ التحوُّلات المفاهيميّة الجذريّة والأفكار غير التّقليدية الأكثر التي نجحت بالفعل كانت دائمًا مدفوعة تاريخيًّا أو شبه إجبارية، إمّا من خلال الأهميّة السّاحقة للبيانات الجديدة، أو عن طريق تحليلٍ مدروسٍ للتّناقضات الداخلية ضمن النظريات الحالية الناجحة. العلم ينجح من خلال الاستمراريّة، وليس عدم الاستمرارية. من الأمثلة على الحالة الأولى – التحديث الذي فرضته البيانات – هي القطع الناقصة لكابلر ونظريّة الكمّ. كبلر لم “يخرج بفكرة” القطع الناقصة فقط: كانت الطبيعة لترشّ القطع الناقصة على وجهه قبل أن يتمكن من رؤيتها. لقد كان يستخدم القطع الناقصة كتقريب لحركة فلك التّدوير للمرّيخ، وقد دُهش عندما اكتشف أنّ التّقريب كان يعمل بشكل أفضل من نموذجه. بطريقة مماثلة، ناضل علماء الذرة في أوائل القرن العشرين طويلا وبقوّة ضدّ فكرة عدم الاستمرارية في القوانين الأساسية، وبذلوا كلّ ما في وسعهم لتجنّب قبول الرسالة الواضحة من علم التحليل الطيفي، أي أنّه كان هناك بالفعل عدم استمرارية في قلب الميكانيكا. في كلتا الحالتين، تمّ فرض الفكرة الجديدة الهامّة بواسطة البيانات.
أمثلة على الحالة الثانية – التّحديث الجذري في النّظريات القديمة – هي نظام مركزيّة الشّمس والنسبيّة العامّة. لم يعتمد كوبرنيكوس ولا آينشتاين بشكل كبير على البيانات الجديدة. لكن لم تنبثق أفكارهم من العدم أيضًا. لقد بدأ كلاهما من تحليل متعمّق للنظريات الراسخة النّاجحة: علم الفلك البطلمي، الجاذبيّة النيوتونية والنّسبيّة الخاصّة. إنّ التناقُّضات والصدف غير المفسَّرة التي وجدوها في هذه الأمور ستفسح الطريق أمام وضع مفاهيمَ جديدة.
ليس تصيُّد النظريات غير القابلة للدّحض واختبارها الذي يأتي بنتيجة، بل التوظيف المعقَّد للتوجيه، بناءً على تراكم هائل ومتزايد باستمرار للمعرفة التجريبيّة والنظريّة، الذي يوفّر تلميحات نحتاجها للمضيّ قدمًا. من خلال التركيز على الأفكار الناجحة تجريبيًّا ننتقل إلى الأمام. لم تكن “النسبيّة” لأينشتاين “فكرة جديدة”: لقد كان إدراك أينشتاين لصحّة النسبيّة الجليلية الواسعة. لم يكن هناك عدم استمرارية، في الواقع كانت الاستمرارية في أفضل حالاتها. لقد كانت “عقليّة المحافظة” آينشتاين “الثاقبة” في وجه أولئك الذين كانوا مستعدّين للغاية لنبذ نسبيّة السرعة، فقط بسبب معادلات ماكسويل.
أعتقد أنّ هذا الدرس أغفله العديد من علماء الفيزياء النظريّة المعاصرة، إذ الكثير من اتّجاهات البحث سريعة للغاية في تجاهُّل ما اكتشفناه بالفعل عن الطبيعة.
تميّزت ثلاث نتائج تجريبية رئيسيّة بالفيزياء الأساسيّة الحديثة: موجات الجاذبية، الهيجز، وغياب التّماثل الفائق في مصادم الجسيمات العملاق LHC. إنّ الثلاثة هم تأكيداتٌ للفيزياء القديمة وتفنيداتٌ من تكهُّنات واسعة النطاق. في جُلِّ الحالات الثلاث، تقول لنا الطبيعة: لا تتكهّنوا بحرية. لذلك دعونا ننظر عن كثب إلى هذه الأمثلة..
كان اكتشاف موجات الجاذبيّة، التي كوفئ بجائزة نوبل الأخيرة في الفيزياء الأساسيّة، بمثابة تأكيد جذريّ للنسبيّة العامّة منذ قرن من الزمن. أدّى الاكتشاف المتزامن تقريبًا للإشارات الجاذبيّة والكهرومغناطيسيّة الناتجة عن دمج نجمين نيوترونيين (GW170817) إلى تحسين معرفتنا بالمعدّل بين سرعات الانتشار الجاذبية والكهرومغناطيسية بمقدار ما يقرب من 14 قيمة أُسيّة في ضربة واحدة . كانت نتيجة هذه الزيادة الهائلة في معرفتنا التجريبيّة استبعاد العديد من النظريّات الكبيرة التي تمّ طرحها كبدائل للنسبيّة العامّة، وهي الأفكار التي درسها عددٌ كبيرٌ من مجتمع المنظّرين على مدار العقود الماضيّة، ممّا يؤكّد بدلًا من ذلك النسبيّة العامّة كأفضل نظريّة متاحة للجاذبيّة في الوقت الراهن.
أكّد الاكتشاف الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة لجزيئات هيجز في سيرن (المنظمة الأوروبية للأبحاث النّوويّة) أنّ النموذج القياسي هو أفضل نظريّة حاليّة لفيزياء الطاقة العالية، مقابل عشرات البدائل اللاحقة التي حظيت بكثير من الاهتمام ولكنّ تركيز سيرن على اكتشاف هيغز عندما أصبح مصادم هادرون الضخم عمليًّا ساهم في إخفاء المفاجأة الحقيقية: عدم وجود جزيئات فائقة التّناظُّر حيث كان جيل من علماء الفيزياء النظرية يتوقعون العثور عليها. على الرغم من أنهار الحبر والرحلات الخياليّة، إلاّ أنّ نموذج التّماثل الفائق الأدنى يجد نفسه فجأة في صعوبة. لذا مرّةً أخرى، رفضت الطبيعة بشكل خطير التكهُّنات المطلقة لعدد كبير من مجتمع علماء الفيزياء النظريّة الذين انتهى بهم الأمر إلى تصديقها بشكل قاطع.
إنّ رفض الطبيعة المتكرّر للمنهجيّة الحاليّة في الفيزياء النظريّة يجب أن يشجِّع على تواضُّع معيّن، بدلًاًمن الغطرسة، في موقفنا الفلسفي..
يتمثّل جزءٌ من المشكلة بالتّحديد في أنّ الأفكار السائدة لبوبر وكون (ربّما لم يتمّ هضمها بالكامل) أضلّت الأبحاث النظريّة الحاليّة. لقد كان الفيزيائيون عارضين جدًا في نبذهم للنظريات الراسخة. وقد أضلّهم إصرار كون على عدم قابليّة المقايسة عبر الثورات العلميّة، فهم يفشلون في البناء على ما نعرفه من قبل ، وهي الطريقة التي تقدَّم بها العلم دائمًا إلى الأمام. مثالٌ جيّدٌ على ذلك هو تجاهُّل استقلاليّة الخلفيّة النسبيّة العامّة في العديد من المحاولات لإدماج الجاذبيّة في بقيّة الفيزياء الأساسيّة.
وبطريقة مماثلة، فإنّ التّركيز على قابلية الدّحض قد ران على أبصار الفيزيائيين في ما يتعلّق بالجانب الأساسي للمعرفة العلميّة، حقيقة إنّ المصداقيّة لها درجات وأنّ الموثوقية يمكن أن تكون عالية للغاية، حتّى عندما لا يكون اليقين مطلق. هذا له تأثير سلبيّ مُضاعَف: اعتبار رؤى النّظريات الناجحة على أنّه غيرُ ذي صلة بالتقدُّم في العلوم (لأنّه “يمكن دحضها غدًا”)، والفشل في رؤية أنّ بحثا معيّنًا قد يكون قليل المعقوليّة حتّى لو لم يُدحَض بعد.
تأسّست المؤسّسة العلميّة على درجات من المصداقيّة، والتي يتمّ تحديثها باستمرار على أساس البيانات الجديدة أو التطوّرات النظريّة الجديدة. الاهتمام الأخير بروايات النظريّة البايزية للتأكيد في العلوم أمر شائع في فلسفة العلوم، ولكن يتمّ تجاهلها إلى حدّ كبير في مجتمع الفيزياء النظريّة، ويترتّب عن ذلك آثار سلبيّة، حسب رأيي .
ما أعتزمه هنا ليس انتقادًا لبوبر وكون، اللذين تتّسم كتاباتُهما بالوضوح وبالبصيرة الواضحة. ما أشير إليه هو أن رواية ساذجة من وجهات نظرهم قد اتُّخذت عرضًا من قبل العديد من علماء الفيزياء باعتبارها الكلمة النهائيّة في منهجيّة العلم. بعيدًا عن أن يكونوا منيعين عن الفلسفة، يتأثّر الفيزيائيون الحاليّون بعمق بالفلسفة. لكنّ الافتقار إلى الوعي الفلسفي اللازم للاعتراف بهذا التأثير، ورفض الاستماع إلى الفلاسفة الذين يحاولون تعديله، يشكّل مصدر ضعف للفيزيائيين..
إليكم حجّة أخيرة من أرسطو:
العلم الأكثر احتياجًا للفلسفة هي العلوم التي تكون فيها التّساؤلات أعظم.
في الوقت الراهن، تمرُّ الفيزياء الأساسيّة بمرحلة من التغيير المفاهيميّ العميق، بسبب نجاح النسبيّة العامّة وميكانيكا الكمّ و”الأزمة” المفتوحة (حسب رأي كون، أُفضِّلُ قولَ”فرصة”) الناتجة عن النقص الحالي في نظرية كميّة مقبولة للجاذبيّة. هذا هو السبب في أنّ بعض العلماء، بمن فيهم أنا- الذي أعملُ في مجال الجاذبيّة الكميّة- أكثرُ إدراكًا في الواقع لأهميّة الفلسفة في الفيزياء. فيما يلي قائمة بالموضوعات التي تمّت مناقشتُها حاليًا في الفيزياء النّظرية: ما الفضاء؟ ما الزّمن؟ ما “الحاضر”؟ هل العالم حتميّ؟ هل نحتاج إلى أخذ المراقب بعين الاعتبار لوصف الطّبيعة؟ هل يتمّ صياغة الفيزياء بشكلٍ أفضلَ من حيث “الواقع” أم من حيث “ما نلاحظه”، أو هل هناك خيار ثالث؟ ما هي وظيفة الموجة الكميّة؟ ماذا يعني بالضّبط “النّشوء”؟ هل نظريّة مجمل الكون منطقيّة؟ هل من المنطقيّ أن نعتقد أنّ القوانين الفيزيائيّة نفسها قد تتطوّر؟ من الواضح لي أنّ إسهاماتِ التفكير الفلسفيّ في الماضي والحاضر لا يمكن التغاضّي عنها في معالجة هذه المواضيع.
بالاطّلاع على الجاذبيّة الكميّة، منطقتي التقنيّة الخاصّة، يتمّ إعادة تفسير الفضاء والزّمن النيوتونيان على أنّه مظهر من مظاهر شيء حُبيبي، احتمالي ومتقلّب بالمعنى الكمّي. يتمّ دمج الفضاء والوقت والجسيمات والحقول في كيان واحد: حقل كميّ لا يعيش في الفضاء أو الزّمن. تَكتسِبُ متغيّراتُ هذا الحقل الدقّةَ فقط من خلال التّفاعلات بين الأنظمة الفرعية. المعادلات الأساسية للنظرية ليس لها مساحة أو متغيّرات زمنيّة واضحة. الهندسة تظهر فقط في التقديرات التقريبيّة. الكائنات موجودة ضمن التقديرات التقريبيّة. تضمحل الواقعيّة بسبب جرعة قويّة من العلائقيّة. أعتقد أنّنا الفيزيائيون بحاجة إلى نقاش مع الفلاسفة، لأنّني أعتقد أنّنا بحاجة إلى مساعدةٍ لجعل كلّ هذا منطقيًّا.
لكي نكون منصفين، فإنّ بعض مظاهر المواقف المعادية للفلسفة في الأوساط العلميّة هي أيضًا ردّة فعل على المواقف المعادية للعلم في بعض مجالات الفلسفة و العلوم الإنسانية الأخرى. في جوّ ما بعد فلسفة هايدغر التي تهيمن على بعض أقسام الفلسفة، فإنّ الجهل بالعلوم هو شيء يجب إظهاره بكلّ فخر. فمثلما يستمع أفضل العلوم بحرص إلى الفلسفة، فإنّ أفضل فلسفة تصغي إلى العلم بحرص. كان الأمر كذلك بالتأكيد في الماضي: من أرسطو وأفلاطون إلى ديكارت، و هيوم، و كانط، و هوسرل و لويس ، كانت أفضل فلسفة تتناغم دائمًا مع العلوم. لم يخطر ببال أيّ فيلسوف عظيم من الماضي للحظة ألاّ يأخذ على محمل الجدّ معرفةَ العلم التي يقدّمها عالم زمانه..
العلم جزء أساسي لا يتجزّأ من ثقافتنا. وهو أبعد من أن يكون قادرًا على الإجابة عن جميع الأسئلة التي نطرحها، لكنّها أداة قويّة للغاية. إنّ معرفتنا العامّة هي نتيجة المساهمات من مجالات مختلفة إلى حدّ كبير، من العلوم إلى الفلسفة، وصولًا إلى الأدب والفنون، وقدرتنا على دمج بعضها البعض.
هؤلاء الفلاسفة الذين يستبعدون العلم، وهناك الكثير منهم، يُلحِقون أضرارًا جسيمة بالذّكاء والحضارة. عندما يزعمون أنّ حقول المعرفة بأكملها غير محصورة في نطاق العلوم، وأنّهم هم الأشخاص الذين يعرفون بشكل أفضل، فإنّهم يذكّرونني برجلين عجوزين على مقعد حديقة: “أأأ” ، يقول أحدهما و صوته يهتزّ: “كلّ أولئك العلماء الّذين يدّعون أنّهم يستطيعون دراسة الوعي، أو بداية الكون. “” أوه “، يقول الآخر:” كم هو عبثي! بالطبع لا يمكنهم فهم هذه الأشياء. نحن من نفهم ذلك.”