المرأة والنهضة الأندلسية
بين كل فترة وأخرى تتعالى أصوات تطالب بحرية المرأة والدفاع عن حقوقها المهضومة في العالم العربي خاصة، رغم أنّ الإسلام كان أول من دعا إلى تحرير المرأة وإخراجها من براثن الجاهلية، فأعاد لها كرامتها وجعلها جزء من كيان المجتمع، مع مراعاة الفوارق النفسية والجسدية بين الرجل والمرأة بما يضمن كرامة وحقوق كل منهما.
اعتبرت المرأة من أهم دعامات البناء الحضاري للمجتمعات الإسلامية عبر التاريخ انطلاقًا من تربيتها جيل النهضة في بيتها أولا، مشاركتها في الحياة الثقافية والعلمية، وإسهاماتها المميزة في شتى الميادين.
إنَّ الناظر لكتب التاريخ ليجد من سير النساء المسلمات عطاءً قوياً، وإبداعًا فكريًا زاخرًا، ومكانةً مرموقةً لم تكن لتحلم بها المرأة في المجتمعات غير المسلمة في ذلك الزمن. فخلال فترة العصور الوسطى مثلا؛ تلك التي تسمى بالعصور المظلمة والتي امتدت من حوالي القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر ميلادي، في خضم العتمة والجهل والأمراض وكل ما يمت للتخلف بصلة، كانت رؤية الكنسية للمرأة محددة في أنها “أداة في يد الشيطان للتنكيل بالرجل” وكان الجدل قائمًا في الأديرة والكنائس حول بشرية المرأة وحول كونها من ذوات الأرواح أم لا، كان هناك في شبه الجزيرة الإيبيرية عالم آخر في أوج عصره الذهبي، حيث عرفت فترة المسلمين في الأندلس بإشعاعها ورقيها في شتى المجالات، و بلغت الحضارة فيها مبلغاً عظيما، لدرجة أن قرطبة وحدها على سبيل المثال لا الحصر قد فاقت كل حواضر أوروبا مدنية -أثناء القرن العاشر- وأتت محط إعجاب العالم ودهشته، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينة التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمام عمومي، فإن أدركت الحاجة حكام ليون أو النافار أو برشلونة إلى جراح، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتجهون بمطالبهم إلا إلى قرطبة. [1]
وما كان للحضارة أن تبلغ ذروتها لولا المشاركة الفعلية على المستوى التعليمي والتربوي والفكري لـ نساء الأندلس ، بل كانت لها بصمات خالدة في هذا التقدم، وكان لأمراء وخلفاء المسلمين دور بارز في تشجيع تعليم المرأة، مما خلق روح التنافس في طلب العلم عند نساء الأندلس و يشهد على هذا قول مارك غراهام في كتابه ” كيف صنع الإسلام العالم الحديث “ إذ يقول: ” أعطيت المرأة خيارات أكثر في اسبانيا الإسلامية من أي مكان آخر في أوروبا، وكالعادة كان المنزل مجال نشاطهن المألوف، و لم يكن تعليم النساء أمراً غير معروفٍ، حتى إنهن كن يلقين محاضرات عن القانون و علم الدين، وتباهت الأندلس بالكثير من مدارسها المختلطة، حيث تستطيع الزوجات الحضور مع أزواجهن أو البنات مع آبائهن، وحصلت على الشهادات كالرجال تماما، مما خولهن حق التدريس أو حتى افتتاح مدارسهن الخاصة، حتى أن أحد الأمراء تزوج جارية إفريقية لإعجابه بإنجازاتها الفكرية.وعملت الكثير من النساء كناسخات للكتب، حيث كن ينسخن القرآن بخط اليد لعامة الناس الذين يشترون الكتب، وافتخرت مطبعة قرطبة في إحدى المرات بمائتي امرأة من الناسخات، و كانت الكثير منهن يُعِلْنَ عائلاتهن من هذا الدخل، و إن مجرد فكرة عامة النساء يمكنهن القراءة كانت صاعقة للمسيحيين في الشمال.”[2]
فهذا عبد الواحد المراكشي يخبرنا نقلاً عن ابن أبي الفياض أن ربض قرطبة الشرقي كان يحوي ما يناهز مائة وسبعين امرأة كانت تكتب القرآن الكريم بخط كوفي رفيع. وكثيرة هي الأنباء التي تؤكد لنا أن اتقان المرأة الأندلسية للخط العربي العتيق أهّلها لنيل رتبة كاتبة وولوج عالم المراسلات الرسمية داخل القصر.
وتطلعنا كتب التراجم بمعلومات شيقة وطريفة عن النساء العاملات في الأندلس، كأن تشير إلى انصبابهن التام على الدراسة وانشغالهن الكلي بمجال العلم وبالتالي عزوفهن عن الزواج. وكثيرة هي الأسماء الواردة في هذا الصدد، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: عائشة بنت محمد بن محمد بن القاضم، وولادة بنت المستكفي، وحفصة بنت الحاج الركونية وغيرهن من الأسماء اللامعة في هذا المضمار.”[3]
هذه الحضارة التي بدأت بـ ” اقرأ “ ، حظيت فيها النساء بمكانة مختلفة عن بقية الأمم، وكيف لا وإحدى سور القرآن الكريم سميت بـ ” النساء” و قد أوصى النبي بهن خيراً ووصفهن بشقائق الرجال، و لعل ” أم عمر” طبيبة القصر الموحدي و” مريم بنت يعقوب” الشاعرة والكثير غيرهما كدليل على مكانة المرأة المسلمة السامية في ظلال التاريخ، و ما هذا سوى لمحة تمهد لسلسلة مقالات تأخذكم في رحلة مع نساء الأندلس التي تركن بصماتهن في التاريخ.
=================================
[1] المستشرق الاسباني براند تراند جون ( Gohn, Brande, Treand ) في دراسته عن اسبانيا والبرتغال، المنشورة في كتاب ” تراث الاسلام”
[2] مارك غراهام. كيف صنع الإسلام العالم الحديث.ص121-122.كلمة
[3] سناء الشعيري ،المرأة في الأندلس، بتصرف، ،منشورات مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات ،مطبعة الأمنية – الرباط 2009