مراجعة كتاب معذبو الأرض لـفرانز فانون
كتاب “معذبو الأرض” للكاتب فرانز فانون الذي يعدُّ طبيبًا نفسيًا ومناضلًا ثوريًا، وكان من جزيرة المارتنيك التابعة لفرنسا، وقد حارب مع فرنسا ضد الإحتلال النازي الألماني ثم قاوم ضد فرنسا في الجزائر.
وتكمن روعة قراءة الكتاب في ناشط ثوري مثقَّف واع وطبيب نفسي مجتهد وبالتالي هو يملك قدرة تشريحية يستطيع تحليل الأحداث التي يمر بها.
العنوان الأول “في العنف”
يتناول فانون فيه النظام الاستعماري وعن العقبات التي تقف لمحو هذا النظام، ويشرح التقسيمات التي تحدث في الدول المستعمرة لصالح المستعمر الذي يستأثر لنفسه فيها بالخيرات ويتحدَّث عن مراحل الصحوة التي تحدث في ذهن الأمة المستعمرة ولاسيما المثقَّفين منهم، ويذكر بعض القيم التي يحاول أن يزرعها الاستعمار في ذهن المثقَّف وأوَّلها الفردية، ثم يشرح إشكالية الاستعمار في ذهن صاحبه. كما يذكر بعض الأساليب التي يحاول بها المستعمَرون نسيان الاستعمار والتأقلم على وجوده ومنها زيادة الخلافات الشخصية بين الناس وبعضهم البعض، ومنها انتشار الخرافات وتواجد الكائنات الخرافية في ذهن الناس مثل الغيلان والكلاب ذات الست أرجل، وأجمل وصف أطلقه فانون هنا على الشعوب المستعمرة ” أنها لاتقيم للشعور وزنا كبيرًا “. ويبيِّن فانون أنه عندما يبدأ الكفاح للتحرير ينسى الشعب هذه الخرافات
ويناقش بعد ذلك تأثير الأحزاب وتأثير الفلاحين وأهل القرى والبرجوازية الوطنية على الثورة، ويتحدَّث عن الطبقة الرأسمالية الموجودة في الدول المستعمرة وتأثيرها على زيادة العنف ضد الناس، ويمضي فانون في تشريح تصرُّفات المستعمر والشعوب المستعمرة ، ويقارن بعد ذلك بين الحالة الإقتصادية للدول الأوروبية والحالة الإقتصادية للدول التي تحررت حديثا، ويشير للأزمات الإقتصادية التي تحاول الدول المستعمرة توريط الدول المحررة حديثا فيها، حتى أنه يشير إلى أنَّ الدول المحررة تحت هذا الضغط الإقتصادي تلجأ بأخذ مناهجها الإقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية .
تحت عنوان “الانطلاق العفوي”
يتناول فانون موضوع الهوة في التفكير بين المنظَّمات السياسية والجماهير وسبب ضعف الأحزاب السياسية في الدول المستعمرة ونظرة هذه الأحزاب لأهل القرى وتأثير الرأسمالية على هذه الأحزاب.
ويبيِّن أيضًا كيف يستغِّل الاستعمار هذه الهوة، ويشرح بعد ذلك شرائح المجتمع المختلفة وتعاملها مع الثورة وكيفية تصرف القوى الاستعمارية مع هذه القوى .
تحت عنوان “مزالق الشعور القومي”
ويوضِّح فيه أنَّ المعركة ضد الاستعمار لا تجري منذ البداية على المستوى القومي، وهذا لايؤدي لشئ نافع، ولكي تكون المعركة مع الاستعمار مفيدة يشير لضرورة وجود وعي قومي. ويتهِّم كسل البرجوازية الوطنية بالتسبُّب في عدم وجود الوعي القومي، وبالرغم من أنهم هم من يستلمون البلاد بعد التحرُّر إلَّا أنَّنا نجدهم فقراء في الأفكار، فيشبِّه فانون نفسيتهم بعد الاستعمار بنفسية رجل الأعمال غير مطلوبة في هذه المرحلة أكثر من نفسية رجل الصناعة وهي النفسية المطلوبة بعد الاستعمار . ويسترسل بعد ذلك في صفحات شرح دور البرجوازية قبل التحرُّر وبعده.
وتحت عنوان آخر “في الثقافة القومية”
يناقش فرانز فانون موضوع الفنون والآداب وكيفية تأثيرها في الثورة وتأثير الثورة فيها، ويتحدَّث إلى جانب ذلك عن ضرورة الحفاظ على الثقافة القومية ضد المستعمر ويبيِّن أنَّ المستعمر يستهدف هذه الثقافة في المقام الأول، ويضرب أمثلة كثيرة مع شرح واف في دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ويحذِّر كذلك المثقفين من الإنجراف وراء ثقافة المستعمر وتبنيها، لأنَّ المستعمرِين يستهدفون المثقَّفين ويسهِّلون لهم طريق دراسة وإتقان مهارات ثقافاتهم. وينتقد فانون أمرا هاما وهو انشغال المثقفين بالثقافة عن خوض المعركة الفعلية على الأرض، ويأتي بعد ذلك بأمثلة من الفنون التشكيلية والشعر والفنون المختلفة ويبين الجدل بينها وبين الاستعمار، مع ذكر أمثلة من الدول الأفريقية. أما في آخر الفصل فيهاجم أحد أساليب الاستعمار في تبنيه قضية الثقافة الزنجية وجمعه لرجال من مختلف الدول الافريقية لعقد مؤتمرات وندوات، ويوجِّه رسالة شديدة اللهجه يقول فيها أنَّ “وحدة الثقافة الإفريقية إنَّما تمرُّ أوَّلّا وقبل كل شئ بدعم كفاح التحرير” ويذكر أيضًا
ما من خطاب ولانداء حول الثقافة ينبغي أن يصرفنا عن مهمتنا الأساسية التى هي تحرير أرض الوطن.
وتحت عنوان آخر ” الأسس المشتركة بين الثقافة الوطنية وكفاح التحرر”
يستحضر فانون النكسة التي تصيب الثقافة في الدول التي تم استعمارها ألَّا وهو تمجيد ثقافتها الماضية وفرض أسيجة وأوتاد حولها وبذلك تتحوَّل الثقافة لسلوكات غريزية. وبالإضافة إلى ما سبق فنحن نجد أنَّ المستعمر يساعدهم على ذلك لأنَّ هذا الوضع يؤدِّي لتدهور الثقافة، ويزعم بأنَّ هذا التأثير يزول حين يبدأ الكفاح ويبدأ أدب المقاومة الذي يعطي الحياة للثقافة القومية ، ويذكر بأنَّ الكفاح لا يطوِّر الأدب فحسب بل يطور الحرف وصناعة الخشب والفخار وضرب أمثلة واقعية في الدول الأفريقية على ذلك.
تحت عنوان ” الحرب الإستعمارية والإضطرابات النفسية“
وهو فصل رائع عظيم الفائدة، يذكِّرنا فيه فرانز فانون بنفسه كطبيب نفسي. ويقوم في هذا الفصل بشرح تأثير الحرب والمقاومة والإبادة على الحالة النفسية للمستعمر وللشعوب المستعمرة، وهو يؤكِّد لنا بأنه لا يقدِّم عملًا علميًا ولذلك يتجنب المصطلحات قدر الإمكان ولكنه يكتب بأنَّ الحالات التي عالجها معظمها يقع تحت باب “أمراض الذهاب الإستجابي” وهو مايعني ضرورة النظر في الموقف الذي سبب المرض.
ويأتي في هذا الفصل بأمثلة وافية لحالات قام بمعالجتها وقام بتحليل هذه الحالات ومنها شباب صغار قتلوا صديقهم الأوروبي الذي كانوا يلعبون معه بسبب رغبتهم في الانتقام من الاستعمار ورجل آخر مصاب بضعف جنسي بسبب اغتصاب الاحتلال لزوجته بعد هروبه منهم وإحساسه بالذنب الشديد ناحية زوجته، وشخص آخر لديه اندفاعات للقتل بعد أن نجى من إبادة جماعية لقريته، وشرطي فرنسي أصيب بهلوسات سمعية بسبب دوره في تعذيب الناس لانتزاع اعترافات.
ومن المفارقات أنه أثناء العلاج يلتقى بأحد الشخصيات الجزائرية التي عذَّبها في المستشفى واعترف للطبيب (فرانز فانون) أنه عذَّبه، وعندما غادر الشرطي ذهب فانون ليسأل عن ذلك الشخص فعرف أنه مصاب “باضطرابات سلوكية من نوع الخبل”.وقد وتبينوا اختفاء المريض بعدما بحثوا عنه حتى وجدوه في المرحاض يحاول الإنتحار فعرفوا من أنه تعرف على الشرطي وظن أنه جاء ليقبض عليه .
ويذكر فانون حالات أخرى ويحلِّلها ثم ينتقل للحديث عن ضحايا الممارسات التدميرية للأراضي الزراعية والمنازل ومايخلفه ذلك من أطفال لاجئين يعيشوا في بؤس شديد وسوء تغذية بسبب أنواع من الذهان يصيبهم كما يصيب النساء الحوامل، ويختم الفصل بتناول أساليب التعذيب المتبعة لنزع الإعترافات وتأثيرها والأمراض النفسية الناتجة عنها.
خاتمة الكتاب
وفي الخاتمة يهاجم فرانز فانون الاستعمار الأوروبي ويقول أنه حين أتيح لأوروبا السيطرة على العالم خربته ونشرت الرعب والهلع والإبادة والإضطهاد.
كما أنَّه يدعو شعوب العالم الثالث بعدم تقليد أوروبا وعدم محاولة استنساخ تجربتها ويكتب في النهاية “فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية يجب علينا أن نلبس جلدا جديدا ، وأن ننشئ فكرا جديدًا، أن نحاول خلق إنسان جديد”.