مترجم| التجربة الدينية في ضوء ألعاب فتغنشتاين اللغوية
في هذا المقال، أحاول فهم وجهة نظر فتغنشتاين الدينيّة في سياق ألعابه اللغوية وارتباطاتها بأشكال الحياة، وبلا شك أن سوء الفهم حاضر فيما يتعلق بالمقاربة الصحيحة لألعاب اللغة واشتباكها بأشكال الحياة، والتي تم نقاشها من قبل العديد من الفلاسفة البارزين الذين أدين لخوضهم البحثي في مجال اللغة عند فتغنشتاين وتداعياتها وتجلياتها الخاصة في فلسفة الدين.
سأهتم في مقالي هذا بأمرين، الأمر الأول هو معرفة كيف يجب فهم العلاقة المترابطة بين الألعاب اللغوية والدين في مقامها الصحيح، والأمر الثاني هو إدراك معنى وأهمية أن يكون للحياة بعد ديني في ضوء تأملات فتغنشتاين العميقة في مغزى أشكال الخطابات المختلفة وكيف تعمل اللغة في الخطاب العادي وكذلك في كيفية عملها في الحقل الدينيّ. بأي طريقة يمكن لنا فهم أهمية الفكرة التي تقول بأن ما هو صوفي وأخلاقي وروحي وديني تجارب تنتهي عندها مهمة اللغة، فلا يمكن وصفها بالكلمات، فهي تجارب تظهر نفسها.
كيف نفهم ارتباط اللغة الدينية بحياة الإنسان وسلوكه؟ أي ضَرب من الارتباطات المنطقية يمكن جعلها اعتقادات دينية؟ إنني أحاول فهم اللغة البشرية كشكل من أشكال الحياة بوصفها نشاطًا مرتبطًا بحياتنا وثقافتنا، والذي بدوره سيساعدني في فهم الدين في ضوء فلسفة فتغنشتاين اللغوية.
أواجه نوعًا من الصعوبة في ربط “اللغات” بـ”الألعاب” بطريقة مبسطة توحي انطباعًا مفاده أن الطريقة التي يتعلم المرء فيها ما هو الكلام وما هي الألعاب طريقة متشابه، لذلك أريد توضيح القواعد المختلفة التي تحكم اللعبة اللغوية وتلك التي تحكم نوعًا معينًا من الخطاب المتجسد في أفعال. لا يمكننا الذهاب في التشابه إلى أبعد من ذلك، لأن كلًا من الألعاب وأفعال الكلام عبارة عن أنشطة محكومة بقواعد، مع أن المزاج العام يميل إلى كونها أنشطة معزولة عن ممارساتنا الحياتية.
ما ذكرناه يقودنا بطريقة غير مباشرة إلى القول بنسبية من نوع ما فيما يخص المسائل والقضايا الأخلاقية والدينية، ولكن من الأهمية أن نكون حذرين عندما نستخدم مفاهيم فتغنشتاين عن الألعاب اللغوية، ويعبر راش ريز عن هذا بقوله: “عندما يقول فتجنشتاين أنه عندما نوضح ماذا تعنيه “لغة” فإننا نوضح ما تعنيه “لعبة”، وهو لا يفكر في توضيح تعطيه لشخص بطريقة عادية، بل توضيح تقدمه بطريقة فلسفية”، ومن ثم فإن المسكلة هي معرفة أي نوع من التفسير يمكننا طرحه هنا.
يعطي فتغنشتاين تشابهًا وتشابكًا عندما يوضح ما هي اللعبة، وهو ليس أكثر من تشابه، وفي بعض الأحيان نكون غير قادرين على تمييز هذا التشابه والتعامل معه، فالارتباط موجود بين التحدث واللعب، ولكن أفكر في فكرة الارتباط في التوضيح الذي يظهر ما تعنيه اللغة واللعبة. يوضح راش ريز الاختلافات بين تعلم ما تعنيه “اللعبة” وتعلم وسائل “التحدث”، والنقطة التي يطرحها هنا هي الحاجة إلى تعلم ما هو أكثر من تكلم لغة، إنه تعلم السياق والنسق الذي يتم استخدام اللغة فيه، فاللغة أوسع وأخصب من اللفظ، حينما يتعلم الطفل اللغة يتعلمها كسياقات واستخدامات وعلاقات وليس كمفردات، عندما نتعلم العديد من الألعاب اللغوية فإننا نتعلم أسلوبًا وشكل حياة، ولفهم تعبيرات مثل “الشتم” أو “التحية” علينا أن نتعلمها في سياق، لنعبر عنها كنشاطات بطريقة مرتبطة بأشكال الحياة وغير معزولة عنها.
يمكن للمرء لعب الكريكيت إذا عرف قواعدها، وكذلك الأمر في لعبة تقديم الشكر أو التحية، فالمرء يستطيع لعبها إذا تعلم القواعد الناظمة لها، فيحسن كيف يستخدمها ومتى. ولكن في سياقات أخرى هناك فرق بين الألعاب وأفعال الكلام، فقد نتخيل مجتمعًا به مفردات محدودة تمثل التواصل من خلال فعل الكلام، وهو أسلوب تعلموه بطريقة مبنية ومتشابكة في نشاطهم الحياتي، ولكن لا يظهر هذا البعد الإنساني للغة، وهذا البعد هو جزء من البناء الإنساني. إن تعلم طريقة الخطاب هو أكثر من مجرد تعلم آلي للاستجابة للإشارات.
في المثال المشهور الذي أورده فتغنشتاين في كتاب التحقيقات، يملك عاملو البناء في هذا المثال منظومة مفرداتية وشكلًا من أشكال الكلام محدودًا للغاية، أحد العاملين يصرخ بأمر ما، فيستجيب له العامل الآخر، وربما لا يملكون لغة أخرى باستثناء هذه، وفي هذا الشأن يقول ريز:”ولكني أشعر بأن هناك شيء ناقص هنا”، المشكلة هي أنه لا يمكننا تخيل أنهم يتحدثون اللغة لإعطاء الأوامر فقط في هذا السياق، وإلا لن يتكلموا أبدًا، ولا أعتقد أنه يمكننا التحدث عن لغة هنا، وسيكون على العاملين على سبيل المثال إعطاء الأوامر إلى أطفالهم في مناسبات مختلفة وكيف سيرد عليهم الأطفال أو يمكنه الاسترخاء ومناقشة أمور البناء معهم بطريقة هادئة، وبالتالي هذا يتطلب استخدامات أخرى لتلك التعبيرات التي لا تتعلق بقواعد ومنظومة البناء. تعلم القواعد هي معرفة القوانين المشتركة لكل هذه القواعد، وإلا كيف يفهم الأطفال اللغة غير المرتبطة بتقنيات البناء، إن فهم “بلاطة!” ليس مجرد رد فعل تلقائي، ولكن يجب أن يكون هناك قواعد وعلاقات لاستخدام هذه التعبيرات. إذا كانت اللغة نوعًا من الاستجابة لهذا الفعل الخاص بالكلام، فإن اللغة هي نوع من أنواع اللعبة، وما لم تكن هناك مرونة وفضفضة في استخدام التعابير في مناسبات مختلفة، فإننا لن نفهم هذه التعابير والإحساس الذي ينقله في تلك المناسبات. التعبيرات ليست جزء من روتين معين، بل يمكن استحضارها في عدة مواقف وسياقاتها وهي التي تتحكم بطريقة استخدامها.
والنقطة التي يطرحها ريز بكل وضوح هي أن المرء لا يتعلم ببساطة كيفية ترتيب الجمل ونطقها بشكل مجرد، ولكن عندما يتكلم المرء فهو يتعلم أن يقول شيئًا، وهو اكتسب الحسّ بمدى اختلاف السياقات وما التعابير التي تناسبها، وهذا هو السبب الذي يجعله يستطيع الإجابة أو سؤالك والاستطراد في المحادثات أو التوقف وإلى آخره من النشاطات، ففي سؤاله لك في المحادثة وانتظاره للإجابة نوع من امتلاك للحسّ العام وإمكانية التنبؤ بكيفية فهم الشخص المقابل ومعالجته للسؤال لأنهم يخضعون لنفس المناخ العام، وفتغنشتاين يقول:”في محادثة: شخص يرمي الكرة، والآخر لا يعرف، هل يعيدها له أم يتركها أو يلتقطها ويضعها في جيبه”، فالذي يجعل الحديث مثيرًا وحيويًا هو ارتباطه بخلفية معينة متجذرة في الحياة وفي أشكالها المختلفة، وإذا كان البناة ليسوا دمى متحركة ولكنهم بشر حقيقيون لديهم آمال وطموحات، فإن نشاط البناء لديهم يجب أن يكون له علاقة بحياتهم والتي تشمل على أنشطة واستخدامات أخرى للكلمات.
عندما يتعلق الأمر بالبناء فأنهم يستخدمون الكلمات المتعلقة بآليات وتقنيات البناء المنقطعة عن أنشطتهم الحياتية الأخرى، ولكن هذه صورة ليست مكتملة، فالبناة لديهم عادات وأغاني ورقصات وأساطير وقصص يؤمنون بها لا يمكن وصفها بلغة البناء. يمكننا القول أن البناة لديهم حياة وأن خطابهم في مناحي الحياة سيكون مختلف عن خطابهم البنائي.
ومن المثير للاهتمام أن الفهم السطحي لألعاب اللغة أدى ببعض الفلاسفة إلى إظهار أشكال الحياة على أنها معزولة ومنفردة عن اللغة، ويلاحظ فيرغس كير: “أن من الغريب أن مالكولم يتبنى إلى حد كبير الحديث عن الدين كشكل من أشكال الحياة، وهي لغة مغروسة في أفعال، وهو ما يسميه فتغنشتاين لعبة اللغة. العلم هو الآخر، لا يقف أي منهما في حاجة إلى مبرر، ولا يوجد مبرر لهما أكثر من ذلك”، لكن إذا كان شخص يؤمن بالدين المسيحي، لا يمكنه الدخول في نقاش عقلاني حول دينه أو دين آخر، وهذا شكل من أشكال الإيمان، ويضيف روجر تريغ:”علينا فقط أن نسأل إذا كان دين ما، المسيحية أو طائفة مسيحية معينة كالكاثوليكية تعد شكلاً من أشكال الحياة”، ولا يوجد طريقة واضحة للإجابة عن هذا السؤال، وبالتالي هذا يقودنا إلى فكرة لعبة لغة دينية مستقلة لها قواعدها الخاصة التي لا يعرفها إلا من يلعبون اللعبة الدينية ويخوضون تجربتهم الخاصة.
هذا يستبعد أي نقاش له معنى بين المؤمنين الذين لهم تجربتهم ولغتهم الدينية الخاصة وبين غير المؤمنين، ولكن هناك كلمات تستخدم من قبل الطرفين وتملك معنى مشترك بينهم. يقول فتغنشتاين:”بمعنى واحد، أنا أفهم كل ما يقوله- الكلمات الإنجليزية “إله”، “مستقل”..إلخ. أنا أفهم. أقول فقط “أنا لا أؤمن بهذا”،وهذا سيكون معنى حقيقيًا”، فقد أكون لا أملك الحس والشعور والشغف للإيمان بهذه التجربة. كثيرًا ما كان فتغنشتاين يتحدث عن المسائل الدينية بطريقة متصلة مع الكلام العادي، فتلك المسائل ليست منعزلة عن الحياة العادية، بل هي توسع مفاهيمي للمعاني المألوفة، وتلك المعاني المألوفة يُضاف إليها معنى ومغزى ديني مع توسع واستمرارية في الخطابين، بالإضافة إلى أن هنالك كلمات تستخدم في الكلام العادي وفي التجربة الدينية، ولكن الأثر يكون مختلف بين الحقلين.
أريد ذكر هذه القصة الملفتة في حياة فتغنشتاين والتي من المهم ذكرها لدلالاتها:”في عام 1933، قرر دروري أن لا يخضع للتأهيل ليصبح قسيسًا، وبدلاً من ذلك قام فتغنشتاين بدعمه ماليًا ومعنويًا ليخضع للتدريب الطبي. وفي أحد الأيام في العام نفسه أخبر دروري فتغنشتاين أنه طُلب منه أن يعمّد ابن أخيه قائلاً: يجب على الوالدين أن يعدوا باسم الطفل للتخلص من الشيطان وجميع الأعمال الخاطئة، وللتخلص من الغرور والشر في هذا العالم، وكل الحالات الخاطئة للجسد” ويضيف:”كيف سأقول كلمات لا اؤمن بها، هذا غير معقول، هذا شيء لم أفعله بنفسي”، ليرد عليه فتغنشتاين ويقول:”أن يتخلى عن مضامير هذا العالم الشرير ومغامراته. فكر فقط بما يتضمنه ذلك. من منا يفكر في مثل هذا الشيء؟”.
ربما يمكن للمرء أن يحدد البعد الإنساني في فلسفة فتغنشتاين التي ترتبط إلى حد كبير بفلسفة الحياة على عكس الفلسفة التي تعتمد التجريد والإطلاق، فلسفته للشارع والرجل العادي، الذي يلجأ للطريقة الأسطورية والرمزية للتعبير عن الغرابة والعمق في نفسه وفي العالم من حوله. تنفر فلسفته من الصلابة والجمود، أي شيء لا حياة له، ويواصل كفاحه ضد التيار الشائع للفلسفة لحماية هذا البعد العميق للحياة، ويستمر في ذلك الكفاح للفلسفات التي لا حياة لها، ولا تكشف عن البعد العميق للإنسان ولا تهتم به. لطالما أثار نفوره المحاضرون والصحفيون وأساتذة الجامعات الموتى، بمعنى أنهم ضد شغف الحياة للرجل العادي. يرى فتغنشتاين الفرق بين العلم والدين، بين اللاشغف والشغف، بين الحكمة الجافة وما أطلق عليه كيركيجارد “الإيمان العاطفي”.
يرى نيتشه انقسامًا بين (Apollonian) و(Dionysian) والتي جعلته يكتشف ويستطلع تنوع وثراء الحياة، ضد النظرة العقلية المجردة، ولكن بالنسبة لفتغنشتاين كان البحث عن البعد الأعمق، بحث عن البعد البارز والمتعالي للحياة الذي يمكن أن ينسق بين الحكمة والعاطفة والفلسفة مع ارتباطات دينية، لأنه يفهم الفلسفة كونها حكمة بالرموز.
إن الحكمة المجردة تحجب عنّا الحياة وأسرارها، هي مثل “الرماد الرمادي الذي يغطي الجمر القاتم”، فهي حكمة تتظاهر بالذكاء، ومن ناحية أخرى، فإن الفلسفة يمكنها أن تقدم شيئًا فيما يخص البحث والسعي للسؤال العميق الذي يجعل الرجل البسيط يسأل عنه بتواضع، وهو السؤال عن “الله”. يستطيع فتغنشتاين بحساسيته العالية التحدث مع المؤمن بأي معنى ومتى يمكن للإنسان الشعور بالله وبوجود هذا العالم، وبأي معنى يشعر بوجود هذا العالم، طالما أن الفلسفة عند فتغنشتاين هي نوع من “الحكمة العاطفية”. بحثه عن الوضوح والمعنى يرتبط بحياته وتجاربه الشخصية، التي لا تستوعب أو تحتمل أي شيء لا يقال بوضوح، وبحسه الشاعري، اعترف أيضًا بالغيب والبعد الصوفي في حياة الإنسان، والذي لا يمكن للفلسفة الحديث عنه أو رفضه كونه هراء. ما لا يمكن أن يقال يُظهر نفسه بوضوح، تلك السمتان في شخصيته تعطيان نظرة فريدة من نوعها للعالم لدى فتغنشتاين، وهو ليس فقط مجرد فيلسوف عبقري ناقد، بل لديه ذلك الجانب الفنّي والعاطفي الواضح.
ما هي العلاقة بين الإنسان وفلسفته وبين أن تكون إنسانًا طيبًا وفيلسوفًا جيدًا؟ ما هي وجهة نظر فتغنشتاين الدينية وكيف تختلف عن وجهة نظره الفلسفية؟ هل هناك أي طريقة لربط النظرتين معًا؟ هل هناك طريقة لربط الحياة والفلسفة وحياة فتغنشتاين وفلسفته؟ إذا كان هناك انقسام بين الحياة والفلسفة، فيجب قبول المعتقدات الدينية كتعبيرات عن مواقفنا واتجاهاتنا، وهنا يتعين على خائض التجربة الدينية استبعاد أي كلام من أي شخص لم يخض هذه التجربة، لأنها ممارسات صوفية تعبرعن حاجات ومشاعر شخصية وداخلية.
مع توق فتغنشتاين للإبداع الفكري والسمو الروحي، كان ملتزمًا بأداء مهمة، فلقد عاش وكأن العمل الفلسفي واجب مفروض عليه، كان يشغل نفسه في توتر دائم، إنسان لا يسمح للمشاكل بالانزلاق من قبضته، بحثه عن البصيرة كان بلا هوادة، وأدرك فتغنشتاين أنه إذا سلم نفسه للصلاة فقط مع هذا الحماس المتقد فيه، فإنه سوف يفتر حماسه ويفسد، وتركيزه الفلسفي سيكون مشوش.
أن تكون عاطفيًا فعند فتغنشتاين يعني فقدان الحماس ويقظة القتال، التي كانت مطلوبة بالنسبة له لمطاردته مشاكل الفلسفة، فلقد حدد فتغنشتاين مشاكل فلسفية، ولكنها في سياق الحياة وليس في سياق العلم، لذلك نراه يقول في كتابه عن الثقافة والقيمة: “نشعر أنه حتى عندما يتم الإجابة على جميع الأسئلة العلمية الممكنة، تبقى مشكلة الحياة لا يمكن أن تُمَس”.
كان تفكير فتغنشتاين مستوحى من مشاكل الحياة التي كانت ذات طبيعة أخلاقية ودينية، وكان خوفه من أن يضبح ضعيفًا وأن تخور قواه مع ارتباطه كمؤمن بشكل من أشكال الحياة هو تعبير عن التزامه الجاد وولائه الكامل لسعيه الفلسفي. هل يمكن لفتغنشتاين أن يخدم المجال الفلسفي والديني بشكل متساوٍ؟ لقد كان شغفه الفلسفي يستهلكه ويتطلب الكثير منه، وعلى الرغم من عدم تديّن فتغنشتاين، إلا أنه كان بإمكانه النظر للأمور من منظور ديني.
وإذا أخذنا الدين كممارسة لا تنقطع عن غيرها من أنشطة الحياة لأنها متجذرة في الحياة ومشاكلها، فقد أصبح البحث عن دين بحثًا عن المعنى، فأنت تبحث عن معنى ما للحياة. كشخص خارج هذه التجربة بإمكانه أن يكوّن لديه فهم متعاطف مع وجهة نظر المؤمن دون أن يسترشد بنفسه تلك الصورة بعينها، ويستطيع أن يفهم ما هي السياقات التي يمكن أن تكشف عن شيء عميق.
يقارن فتغنشتاين ألعاب اللغة غالبًا بقرية من العصور الوسطى، وهذا يشير إلى الترابط والاشتباك بين ألعاب اللغة وهذا بالتأكيد يتعارض مع استقلالية الألعاب اللغوية. ويقول كير:”ولكن إذا كانت رؤية مالكولم صحيحة، فإن إرضاء شخص مجروح هو مثال جيد لما يعنيه فتجنشتاين بشكل حياة، وأنه من المستحيل تطبيق التعبير على ظاهرة دينية، والتي تشمل العديد من الأنشطة اللغوية. ينطوي تواصل معين على عادات من التحدث، وإن تطمين شخص ما لا يجب أن يكون منعزلاً عن الناحية النظرية أو التجريبية، حيث تقوم بتشجيعه، ووعده، واستدعاء الطبيب، وغيرها من الأنشطة المتربطة”. يعترف فتغنشتاين بالبعد الديني للحياة، ويدرك أن اللغة لا تكشف عن اتساق الاستخدام، فهناك أسباب للاعتقاد بأن الكلمات المستخدمة في الخطاب الديني يمكن أن تستخدم أيضًا في سياق مختلف باستخدام غير ديني.
أراد فتغنشتاين إظهار ما يمكن قوله من أجل احترام ما لا يمكن قوله. لقد أدرك الطبيعة الشاعرية للفكر وللأفكار الفلسفية، وهذا ما جعله متميزًا عن معاصريه في فيينا وكامبريدج.
كان هناك اختلاف بين فتغنشتاين والآخرين، فبالنسبة لفتغنشتاين يمكن أن يكون هناك العديد من الاستخدامات المختلفة لكلمة أو صورة، حيث أن هناك احتمالات، ويمكن لهذه الاحتمالات أن تتحقق. كان يعتقد أن القواعد السطحية للغات الطبيعية تخدعنا لأنها توهمنا بتوحيد الاستخدام للغة على الرغم من وجود التنوع والثراء، ويكشف فتغنشتاين عن تعدد لا نهاية له يتجلى في عديد من الاستخدامات، ولم يكن فتغنشتاين ينظر للأمور بطريقة عادية، كان مستوعبًا لكل الوسائل الممكنة للتعبير، وينظر للأمور من داخل وسطها.
التجربة الدينية تكشف عن شيء عميق، وأعني ذلك حرفيًا، وتشير هذه التجربة إلى الأحداث الفعلية التي تترك انطباعًا عميقًا فينا وتتفاعل بطريقة دينية مع المغزى العميق للحياة، ولأن الفلسفة مرتبطة بالحياة، فإن معنى الحياة متجذر في أشكال الحياة. يجب أن تكون هناك اتفاقات في أشكال الحياة، وليس شرطاً الاتفاق في الآراء، والتأكيد على الاتفاق لا يجب أن ينطوي على تأكيد خاطئ على أفضلية مسألة النسبية في مسائل الأخلاق. بطريقة فنان مبتكر، يتطرق فتغنشتاين إلى الأنماط والأشكال الموجودة أمامنا، حيث لا شيء خارج ما هو مألوف، هي رؤية تسلط الضوء على الحالات الظاهرة، ليتكون فهمنا من رؤية الروابط بينها، ويكشف الطابع الزماني والمكاني للفكر عن علاقاته العميقة التي تتجذر في شكل من أشكال الحياة.
أن تكون هناك اتفاقات في أشكال الحياة فهذا يعني قواعد وأساسيات مفروضة، واستخدامنا لبعض المفاهيم في حديثنا الروحي، لا يُنشئ المشاكل، كل ما يمكننا قوله هو أننا هكذا نتكلم. لفهم الإحساس في الحالات المحتملة في اللعبة الدينية هو فهم استخدام الكلمة في أي لعبة لغة تعمل، وبالتالي التمييز في الأنماط التي نستخدم كلماتنا فيها، فاللغة الدينية متجذرة في أشكال الحياة. تكشف اللغة الدينية عن البنية العميقة للغة، والتي هي أبعد من القواعد السطحية التي في متناول الجميع، إنها تبوح عن الجزء الشاعري والأسطوري فينا، إنه رد فعل عنفواني وغريزي على شيء كامن وعميق في داخلي، إنه كالقيام في رحلة خيالية لاستكشاف “الغرابة في داخلي”، ومن المتوقع أن يكون هناك وقتًا للاعتقاد بذلك، فبعض الأفكار تمارس سحرًا في أذهاننا وتحثّنا على قبولها، ومن المثير للاهتمام أن تفرض المعتقدات نفسها علينا، هذه هي الطريقة التي يجب أن تكون عليها.
على عكس الفرضية العلمية، ترتبط الصورة الدينية بطريقة تقدير الموقف، وإن قوة الصورة الدينية في حياة المؤمن واضحة ، فهي تعلمه استيعاب وتحمل كل تجارب الحياة، قبيحها وجميلها، الراقي منها والمبتذل. الصورة الدينية لها قوة على الناس، فعندما يقول أحد المؤمنين لشخص ما “سنلتقي بعد الموت”، فإنه يستخدم صورة تعبر عن آماله وتطلعاته الحقيقية، أستطيع فهمه جيدًا، وهذه الصورة في السماء تعطي الحياة معنى أعمق في في مواجهة الموت والفراق بالأمل والتوقع. العلاقة بين التجربة والخبرة الشخصية تعطي سمة إلهية للتجربة الدينية، وهي سمة غائبة في العلم أو الممارسات الدنيوية الأخرى. التجربة الدينية هي تعبير عن الشعور بالعجائب والآمال والتطلعات والمخاوف التي تتجلى بعمق تجربتنا، تجربتنا الإنسانية المرتبطة بالوعي بالخطيئة واليأس، وللشعور الديني قوته الآسرة، التي تجعل الإنسان يستقبلها بمحبة للخلاص من مشاكل تعصف بحياة الإنسان، مشاكل عن الخسارة والعدم، الخطيئة والعقاب.
شكل الحياة متجذر في تفاعلات الإنسان بارتباطاته العميقة، وإن حزن الإنسان ومشاعره وفرحه ودرايته بالجانب المظلم والغامض من للحياة، يشير إلى شيء أسطوري كامن فينا وكذلك في العالم. طقوسنا الدينية هي طقوس رمزية، ويذهب فتغنشتاين إلى التفسير الرمزي لهذه الطقوس، فهي ليست مجرد ممارسات نظرية، بل يقوم المرء باستنتاجات من هذه الحياة عن الموت والحياة المظلمة والتضحية لتتجلى على شكل أفعال رمزية، لتصبح ممارساتنا الدينية استجابة غريزية، ففي الفعل تجتمع الممارسة مع نظرتنا الدينية.
عندما يقوم الإنسان الأول ببناء كوخه بمهارة، فهو يتصرف بشكل مختلف عن نفوره من شيء يخيفه أو تقبيله لصورة شخص يحبه أو غيرها من الممارسات الرمزية، وهذه الممارسات تتجدد وتتبدل في كل عصر فهي ما زالت مع الإنسان الحديث، لأننا ما زلنا نبحث عن نفس الأجوبة ونعالج نفس القضايا، هو همٌّ مرتبط بوجود الإنسان. وهذا يفسر الاختلافات، فيعتقد فريزر أن كل الأعمال والأسئلة البشرية، تبحث عن الخلاص والأجوبة، وعلى العكس من هذا، فإنّ فتغنشتاين يركز على الاختلاف والتنوع في الاستخدامات، فعندما يطرح إنسانًا سؤالًا مثل “لماذا يوجد العالم”، فقد يكون سؤال مفاده التعجب، وقد يكون سؤال باحث عن إجابة، فأحيانًا لا يتم الكشف عن الآراء والنظريات إلا من خلال الممارسة.
بعض الطقوس الرمزية تكون تعبيرًا عن رغبة، فحرق صورة عدو على سبيل المثال هو عمل لتحقيق الرغبة، رغبة الكراهية، فلا ينتظر الإنسان موت عدوه لتحقيق أمنيته، ويعوض عن ذلك بفعل رمزي. ما يريد فتجنشتاين قوله هو أن المفهوم الديني لا يمكن أن يعطي قيمة مُحققة ومباشرة، وهي مفاهيم لا يمكن اختزالها.
كان لدى فتغنشتاين إطارًا فكريًا يمكنّه من فهم المعتقدات الدينية كنوع من الشعور بالأمان، وبدلاً من رفض مثل هذه المعتقدات على أنها غير منطقية، كان فتغنشتاين يفضل أن يتصور حالة ما عندما تثيره ظاهرة بشكل عميق، وكانت لديه المقومات ليكون مؤمنًا من نوع خاص، مع التزامه بأهمية الحياة التي تتطلب الحياة والمسؤولية، ومشاعره المتوترة وهاجس الذنوب والعيوب عنده، والقلق والاكتئاب وضيق الحياة، وضيق حياته بالأخص، يمكنه أن يتطلع إلى جعل فلسفته تنزع إلى السماء.
لم يكن فتغنشتاين متدينًا ولكنه لم يكن يمنع نفسه من النظر للأمور بنظرة دينية. فهمه للمعاناة ومشاكل الحياة جعلته يتعجب من وجود العالم. ولكن كيف يمكن التوفيق بين الحكمة والحياة؟ وكيف نحترم هذا الجزء غير المقول؟ كان فتغنشتاين واثقًا في تراكتوس من تطويق اللغة بالكامل ووضع حدود للتعبير عن الفكر، وأن اللغة ليست إلا رسمًا للعالم، وأي شيء خارج هذا هراء، ليتحول فيما بعد إلى أن اللغة واسعة وفضفاضة وأن للحياة والفكر أبعاد ومعاني كثيرة.
تقوم فلسفته المتأخرة على تعدد الخطابات وأشكالها وحقولها، فهناك الحديث عن الحب، العلم والموضوعية، وعن الدين والأسطورة والثقافة، وكل خطاب له لعبته الخاصة، وبما أن قواعد استخدام الكلمات تخلق طبيعة الواقع، فعلينا فهم اللعبة حتى نفهم الواقع. كان موقف التراكتوس واضحًا، ما هو صوفي لا يمكن قوله، ولكن هناك الجانب الآخر من العملة، وهو أن ما هو صوفي لا يمكن اختزاله في كلمات. إذا كان لدى شخص تصوّر عن الله، فإن هذه الصورة وما تمثله تترابط وتتكون داخل الشخص، ويتضمن هذا التصوّر إمكانية التعبير عنه في مواقف ظاهرة. علينا أن نعرف كيف تعمل الكلمة أو الجملة في لعبة اللغة قبل أن نفهم ما تقوله لنا، هل هو حلم، قصة، أمر، أم مشهد جنائزي، فيعتمد استخدام الكلمة على شكل الحياة. تغيب معالجة المسائل الدينية في أعماله الرئيسة، ويلتزم الصمت حيال هذه الأمور، ولكنه مذكراته الشخصية وبعض محاضراته حطمت هذا الصمت.
إنّ المقدس راسخ فينا، في المؤمن وغير المؤمن، ومن المثير للاهتمام أنّ التصوّرالديني يفرض نفسه علينا. لا يمكن للمؤمن أن يتناقض مع غير المؤمن، لأن الاعتقاد راسخ لدى الطرفين، ولكنه غير مؤسس بشكل كاف لدى أحد الأطراف. يبرز فيليبس الطبيعة المميزة للحديث الدينيّ وعن تصوّر الله، من خلال أن معيار ما يمكن أن يقال عن الله موجود في التقليد الديني، ويجادل فيليبس في الدور الداخلي للتصوّر الديني، حيث أن المعتقدات الدينيّة وتصوراتنا عن الله قضايا تحددها التقاليد الدينية، ويتعلمها الأطفال من خلال القصص والسرديات. يقرر اللاهوت ما يمكن أن يقال عن الله، فهو يحدد قواعد المناقشة الدينية.
التجربة الدينية الشخصية تجعل الأمور مختلفة، لأنها تعتمد على تجربة ومعرفة الشخص بالله، ومحبة الله تعلم احترام تلك الصورة العميقة والمتجذرة عن الله في فكر المرء. بمجرد أن يدخل الإنسان في تجربة دينية فإنه يُنشئ ما يمكن أن يُقال، وفي دين معين هذا الشيء يتم تعليمه. بالنسبة للمؤمن فإن جوهر الدين هو الإيمان به. يدرك المتمرد الدين، إنه يعرف القصة في الداخل، ولكنها لا تجذبه. عندما نحب الله فإننا نحب شيئًا غير ملموس، بل نحب تصوّر عن الله في داخلنا. في حين أن الأساطير هي مزاج أقل تعبيرًا في الممارسة الدينية، فهي تعبير عن الخوف، بينما الدين تعبير عن الثقة والإيمان. إذا تصرف شخص خوفًا من ما يخبئه له الحساب، فهذه خرافة، ولكن إذا كان هناك شعور بالتوق للخلاص وبالمعاناة في الدنيا، فهذا يضع صورة اليوم الآخر في سياق مقبول. على عكس الفرضية العلمية، يرتبط الاعتقاد الديني بتجربة الإنسان الشخصية. قوة التصوّر الديني حاضرة في حياة المؤمن.
الكلمات المنطوقة ليست مهمة، كيف يكون قول شيء ما يكشف عن قوة التصوّر الديني؟ الممارسة الدينية هي تعبير عن حس التعجب والقلق من الآمال والمخاوف الدينية، والتي يواجهها الإنسان بكثافة في حياته. يفسر فتغنشتاين الإيمان الديني بتجربتنا الواعية والإشارات العميقة لجزئنا الإنساني الأكثر حساسية، فالدين هو تعبير عن شيء يحدث بالفعل في حياة الإنسان، مفاهيم مثل الخطيئة واليأس ترتبط بالحياة اليومية. يتلقى المرء الرسالة بشكل مؤمن، وهذا هو اليقين.
إنّ الخلاصات التي يقدمها الدين موجودة في حياة الإنسان، في اعترافه وتوبته. ترتبط الخبرة الدينية بالطريقة التي يتفاعل بها الإنسان مع القضايا، فيمكننا أن نرى كيف يقوم المقدس بتنظيم حياة الإنسان وكيف ينتج مفاهيمنا. الصور والكلمات التي تستخدم في الخطاب الديني لها استخدامات مختلفة وتأثيرات متنوعة على مختلف الناس. تم التخلص من ثقة التراكتوس المفرطة في كون أن اللغة رسم وحد للتعبير عن الفكر، لتصبح اللغة متنوعة الخطابات. وسؤاله الأساسي هو بأي معنى يكون للغة معنى؟ معناها في استخدامها في حقلها ولعبتها اللغوية، وأن أشكال الحياة ليست منعزلة عن ألعاب اللغة، لتمتد اللغة إلى جذور سلوكيات الإنسان في الحزن والتحية والفرح. عندما يقول فتغنشتاين عن الطفل بأنه يتعلم ألعابًا لغوية مختلفة عندما يتعلم الكلام، وهو يوضح كيف يمكن تعليم الطفل استخدام التعبيرات المختلفة ببعض المرونة.
معاني التعبيرات التي يستخدمها الناس لا يتم وضعها بالكامل في الاستخدام أو التفاعلات التي تسببها بقيامها بوظيفة معينة، بل لها إشارات موجودة في خارجها، يمكننا بمرونة اللعب بالكلمات. إدراك القضايا لا يعني فقط ماذا تعني، بل كيف يمكننا استخلاص عدة استنتاجات مما يقال في السياق الواحد، فما هي النتائج إذا قلت شيئًا، وما هي الأسئلة ذات الصلة بهذا القول. على المرء أن يتعلم استخدام الشكر والامتنان ليكون قادر على ذلك، فهناك فرق بين المعرفة والممارسة، فالطفل الذي يتعلم الاستخدام الصحيح لكلمة “ألم” على سبيل المثال، يتعلم أيضًا استخدام الكلمة في مناسبات عديدة أخرى، فهو يتعلم اللعب مع الكلمة عندما يدّعي أنه في حالة ألم.
من أجل تحديد الفرق بين المعرفة والممارسة في اللغة الدينية، يمكن للمرء أن يتعلم الاستخدام الصحيح لكلمة الله من اللاهوت كما يوضح فتغنشتاين كذلك العلاقة بين اللاهوت والقواعد، من خلال الاستماع إلى ما نقوله عن الله، وكيف أن تعبيرنا عن الله مرتبط مع ما نقوله ونفعله في عدة ارتباطات أخرى. الإيمان مثل الفكر، يمكن أن يظهر في ممارسات، وهذه الإيماءات والممارسات ليست تقليدية، وتختلف هذه الإيماءات التعبيرية عبر الثقافات، وإن هذه الإيماءات تكشف عن الاعتقاد أو التصوّر الديني. الإيمان مثل الأمل، جزء لا يتجزأ من الحياة البشرية، وهو متضمن للحالات وردود الأفعال التي تشكّل الحياة، هو رد فعل على الصور المختلفة للحكمة المرتبطة بالحياة. قد نقول على سبيل المثال أنه لأمر خطير أن يموت شخص قبل أن يعمل الصالحات، في هذه الحالة يستخدم المرء الكلمات بمعناها العميق.
لتوضيح مفهوم الله، علينا أن نستمع إلى ما يمكن قوله عن الموضوع، فليس لدينا الإمكانية للوصول إلى الإلهي بشكل مستقل عن حياتنا ولغتنا، ونحن نتحدث عن الله في أنشطة متعددة في حياتنا، كالشكر، والتوبة، والاعتراف وغيرها. الحياة تربينا للاعتقاد بالله، وخبراتنا هي التي تفعل ذلك (ليست الآراء بل معاناة الأرواح)، التجارب والأفكار والحياة، يمكن أن تفرض هذا المفهوم علينا. شيئ ما في الحياة ومأساويتها هو ما يدفع للشعائر الدينية، يقوم الناس بأفعال طقسية كرد فعل على حالة معينة.
يعالج الدين هذه الحالات الحميمية في داخلنا، وهي حالات عاطفية أكثر من كونها شيء آخر. علينا إعادة اكتشاف الغرابة في طبيعتنا البشرية، والتي تجعل قصص الثقافات الدينية واضحة، تلك القصص التي تكتسبها البشرية من فكر الإنسان وماضيه، من غرابة ما ينظر الإنسان في نفسه وفي الآخرين. هذا الشعور الدينيّ يتّسق معنا قبل أن نبحث عن أسباب منطقية وعقليّة له. إنّ اللاهوت يبدأ من البعد العميق للإنسان، مدعومًا بلغة الإنسان وثقافته وتصوراته.
يقيم فتغنشتاين نوع من التشابه بين لغة الألم ولغة الدين، فلغة الألم تطورت من السلوك الغريزي غير اللغوي، وكذلك فإن اللغة الدينية هي امتداد لبعض ردود الفعل البدائية لدى الإنسان الأول، مثل التعبير العادي عن التعجب، القلق أو الخوف. ومثلما يفتح سلوك الألم الغريزي مساحة حيث يمكن أن تحدث تمفصلات أكبر، يقوم رد الفعل الديني البدائي بتفجير مساحات مفاهيمية، تجعل من الممكن التعبير عن الأفكار حول المعنى ونهاية الحياة، فتخلق تجارب جديدة، وطرق جديدة مرتبطة بالعالم.
إن اهتمام فتغنشتاين بجميع أنواع التعبير الديني، البدائية أو الحديثة، الخرافية أو الدينية، السحري أو الميتافيزيقي، هو محاولة لاستخلاص احتمالات المواقف التي تكون فيها بعض الطقوس والممارسات متّسقة غريزيًا لهذا الوضع الخيالي أو الفعلي. العديد من الأساطير الممكنة التي يمكن تخطيطها وتأسسها في الواقع، لا توجد من طقوس بين القبائل وكيفية دفاعهم عن هذه الممارسات، ولكن مع الاحتمالات المنطقية والمفاهيمية، مع ما يمكنه أن يكون من طقوس أو حكايات شعبية. يمكننا أن نفكر بأنفسنا بالإمكانيات المختلفة ونجدها في الواقع حول الفكر الإنساني. الطقوسية على عكس العشوائية هي سمة من سمات الرأفة والشفقة.
لتفسير ظاهرة التضحية البشرية يحتاج المرء لفهم هذا النوع من الكائنات البشرية. وبالتالي، يجب أن يتحول التحقيق إلى “فكر الإنسان وماضيه … غرابة ما أراه في نفسي وفي الآخرين ، ما رأيته وسمعته.” ليس لجعل الرعب الكامل لهذه الطقوس غير مهم : هذا الرجل يصبح شريرًا، إنها حقيقة مزعجة في حد ذاتها، لكنه موقف محتمل منطقي بالنسبة لنا، حيث يمكن أن يتحول الأصدقاء والأشخاص العاديين إلى قتلة محتملين: “إذا رأيت مثل هذه الممارسة، أو سمعت بها ، فإن الأمر يشبه رؤية رجل يتحدث بشكل صارم إلى آخر بسبب شيء تافه تمامًا، ويلاحظ بنبرة صوته وفي وجهه أن هذا الرجل يمكن أن يكون مرعبًا في بعض الأحيان، وقد يكون الانطباع الذي أحصل عليه من هذا الأمر شديدًا جدًا وخطيرًا للغاية. هنالك، تحت جنباتنا العاقلة مخلوقات غريبة وشغوفة ذات نزعات عنيفة تكشف قرابتنا لهؤلاء المتوحشين.
إنّ النموذجين المنطقي والصوفي متساميان، حيث أنّ كلاهما غير قابل للقول ولكن هي قضايا تظهر نفسها. في الاستجابة الدينية نستحضر مخزوننا عن الأساطير في معتقداتنا السابقة، فعندما نتحدث عن القدر أو نخشى غضب الآلهة، نستعين بأساطير أجدادنا. يتطابق هذا تماماً مع نظرة فتغنشتاين الشاملة للغة والتي كان يشبهها بالمدينة:”… يمكن النظر إلى لغتنا كمدينة قديمة: متاهة من الشوارع الصغيرة والساحات، والمنازل القديمة والجديدة، والمنازل التي يُضاف إليها شيء مع كل فترة مختلفة، ومحاطة بالعديد من الأحياء الجديدة مع الشوارع العادية المستقيمة والمنازل”(الثقافة والقيمة، فتغنشتاين).
تورد الأديان والثقافات الإمكانيات الخفية للإنسان بأشكاله المتنوعة، ولكل ثقافة إمكانياتها الخاصة للتعبير. الدين بالنسبة لفتغنشتاين لا ينحدر بسبب أن أتباعه يدركون أنه لا يمكن البرهنة عليه فكريًا، بل لأن القيم التي يعبّر عنها الدين غائبة إلى حد كبير في عصر الانحطاط. ويعمل دين ثقافة ما على وضع مقياس ومحدد للقيم فيه، تمامًا كما يتم وضع القياسات في الهندسة المعمارية، وكما كتب فتجنشتاين:”العمارة تمجد وتخلد شيئًا ما”، وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك بنية معينة لا يوجد فيها شيء للتمجيد.
اللغة الدينية منطقية تتسق في المعنى للتصورات المفاهيمية للألعاب اللغوية المختلفة، ففي تفاعلاتنا الدينية، نستدعي أساطيرنا، وخلفيتنا الثقافية، واستخداماتنا الثرية والمتعددة للغة والمفاهيم للاستجابة لتجربة إنسانية عميقة. إذا تغيرت طبيعتنا البشرية، بحيث أنها لم تعد تأبه لهذا البعد العميق للحياة، فهذا يعني أنه لم يعد للبعد الديني حضور، حيث أن المرء بات يعتبر الشعور بالذنب والخطيئة وغيرها أمرًا غير منطقي. وهذا من شأنه أن يقلل من الخطاب الديني لتلك الألعاب اللغوية التي تنقطع عن الحياة ونشاطاتها. فتغنشتاين يرى العكس، حيث يمكنه أن نرى العلاقة الأعمق بين اللغة والحياة والتي تعطي معنى لأي نوع من الخطاب، بما في ذلك الخطاب الديني.