“المقدس” عند رودولف أوتو ومرسيا إلياد


“الإلهي لدى الإنسان هو الكلّ الآخر؛ لأنّه في اختلافٍ كليّ مع ما يعرفه الإنسان، وما يمكنه معرفته: إنّه دون اسم، ودون نعت. إنّه الكائن الماكث فوق أشكال الوجود كافةً، و خارج المحددات كافة”.

فيما يلي سنتحدث عن رؤية اثنين من مؤسسي علم الأديان للمقدس، هما رودولف أوتو ومرسيا إلياد.

كان رودولف  أوتو بحاجة إلى تفسير دافع الشعور الديني داخل الإنسان، ليكتمل لديه تطابق الإله المفارق للإنسان مع الشعور به، فلجأ إلى مصطلح (نومينو) الذى يدل على (قوة إلهية)، وهنا عثر على ما يريد، فأسماه (المقدس)، الذى هو إله وشعور إلهي داخل الإنسان فى الوقت نفسه.

وهكذا قصد “أتو” إبراز جوهر كلّ دين كونه في علاقةٍ مع المقدس، يؤكّد بدوره ذلك المعطى اللاعقلي والفريد، إذ هو صنف من التأويل والتطور لا يوجد إلا ضمن الفضاء الديني، يجعل هذا المقدسُ الإنسانَ فى حالةٍ خاصة من اليقينية لا مثيل لها. هذا النومينو، الذى لا يتيسّر تحديده عقليًا، نستطيع حصر أثره فى الذات الإنسانية، بحسب ثلاتة عوامل أساسية توجد فى كل تجربة دينية، ويحددها أوتو بالغيبي الجليل، والساحر، والمهيب:

الجليل: هو الغيبي العميق في الذات الإنسانية، المثقل بالفزع والخوف الباطني المهلوس، والمرعب، والذي يجعل هذه الذات تُمحى أمامه، وهو ما سيكون أساس التجربة الصوفية.

الساحر: وهو الغيبي، الذى يأسر الإنسان بالحب والرحمة والعطف، فهو العطوف الودود مانح الحب، وهو القيمة الذاتية للمقدس.

إعلان

المهيب: هو المرجع الموضوعي الأخلاقي المعني بتحديد الخطايا والفضائل، أو الخير والشر. فهو مكوّن إيجابي موضوعي، يشكّل الحكمة والتوازن في النفس البشرية.

هذا هو تشريح المقدس عند رودولف أوتو، الذي جعله مثل قوّتين متطرّفتين من (الخوف والحب) يمثلهما (الساحر والجليل)، ويعمل المهيب على التوازن بينهما وبين ما هو موضوعي في حكمة وحساب.

اعتبر أوتو (المقدّس) بنية أساسية تكمن في النفس البشرية، وأنّه يُعبر عنه برموز، وليس بمقدور اللغة الإنسانية مدّنا سوى بتصورٍ غير وافٍ بالغرض لمقدسٍ يبقى دائمًا أمرًا خفيًا.

وتوصل إلى أنّ التصوّف يجمع بين أغلب الأديان، وهو قوة مباشرة تتعامل مع المقدس وجهًا لوجه. ويرى أنّ التصوف لا ينبع من الخوف؛ بل من الحب. وكما وجد المقدس في “النومينو”، فقد كان هذا المقدس، وفقًا لشمكار، هو “البراهمان”، وكلاهما أساس التصوّف المبني على الحب والعاطفة.

إنّ التجربة الصوفية أكثر من شعور، فهي يمكن أن تخبرنا عن طبيعة المقدس الذي تتوجّه إليه، والذي يتسم بالمعرفة والتعالي.

ورأى مرسيا إلياد أنّ الدين يقسم العالم إلى (مقدّس) و(مدنّس)؛ المقدّس يرتبط بالإلهى المطلق الأسطوري، والمدنّس بالنسبي التاريخي الخارج عن مجال الآلهة.

“إنّ إظهار المقدس يصبح موضوعًا ما، شيئًا آخر، دون أن ينقطع عن كونه هو ذاته؛ لأنه يكمل مساهمته في وسط الكوني المجاور، فحجرٌ مقدّس يبقى حجرًا، وبحسب ظاهره (بدقّة أكبر من وجهة نظر دنيوية)، ولا يميزه شيء عن الحجارة الأخرى. وبالنسبة إلى أولئك الذين يتكشّف لهم حجرٌ أنه مقدّس، تتحول حقيقته مباشرة على العكس لحقيقةٍ مما فوق الطبيعة، وبعبارات أخرى، بالنسبة إلى من لديه تجربة دينية، تبدو الطبيعة برمّتها قابلة للتكشّف بصفتها قداسة كونية، فالكون، في كلّيته، يمكن أن يصبح تجليًا مقدسًا”.

العود الأبدي:

كان مرسيا إلياد يرى أنّ العود الأبدي هو الاعتقاد بأنّ الماضي يحتوي الأصول المقدّسة، ولابدّ من الرجوع إليها دائمًا؛ إمّا مباشرة، وإمّا بإقامة طقوس في الحاضر تذكّر بتلك الأصول، وتضمن استعادتها، ولو لوقت وجيز هو زمن الطقس. إنّ إنسان الحضارات التقليدية استطاع، بوساطة طرق اصطنعها، أن يتحمل (التاريخ)، وبينّا كيف كان يحمي نفسه من التاريخ، إمّا بإلغائه دوريًا عن طريق ولادة الكون، وتجديد ولادة الزمان، وإمّا بإضفائه على حوادث التاريخ معنى بعده التاريخي، وهو معنى لا يقف عند تقديم العزاء وحسب، وإنما يتعدى ذلك، أولًا وقبل كلّ شيء، إلى انطوائه على ترابط، أي: قابلية الاندراج في نظام بيّن، حيث لكلّ من الكون والإنسان سبب وجود.

اليوجا:

أحد مظاهر التصوف الهندي، يعتبر إلياد أنها تعني الخروج من الزمان والمكان، والوصول إلى الحرية، دون بعض الاشتراطات التعسفية لما حول الإنسان. وقد ناقش نوعًا منها هو: باتانجالي، وسوترات اليوجا، وتقنيات اليوجا، مثل التركيز على نقطة واحدة، والمواقف، والانضباط في الجهاز التنفسي، وعلاقة اليوجا بالبراهمية، والبوذية، والتنترا، والكيمياء الشرقية، والشبق الباطني، والشامانية، وربطها بكلّ هذه المفردات؛ فاليوجا عند إلياد أكثر من مجرد طقس ديني.

الأسطورة:

اقترب مرسيا إلياد من التعريف الدقيق للأسطورة، وتحديد مظاهرها، فعرفها بأنها (حكاية مقدسة) أو (تاريخ مقدس)، فقد قال: “تُعد الأسطورة بمثابة تاريخ مقدس. وهى، فى المحصلة، (تاريخ حقيقى)؛ لأنها باستمرار تستند إلى وقائع. فأسطورة خلق الكون، مثلاً، (حقيقية)، لأن وجود العالم ماثل للعيان، ويقدم عليها الدليل، وقُل الأمر ذاته عن أسطورة وأصل الموت، فهى بدورها (حقيقية)؛ لأن موت الانسان يقدّم عليها البرهان”.

ويرى إلياد أنّ: ” للأسطورة وظيفة أساسية ومهمة في الحضارات البدائية؛ إنّها تعبّر عن المعتقدات والشرائع وتبرّر شأنها، تصون المبادئ الأخلاقية وتفرض العمل بها، تكفل فعاليات الاحتفالات الطقسية، وتقدم القواعد العملية المتصلة بشؤون الحياة اليومية؛ إذ تشكّل الأسطورة عنصرًا أساسيًّا من عناصر الحياة الإنسانية. ومع بُعدها عن الرواية التافهة، التى لا طائل تحتها، فإنها على العكس، تمثل حقيقة نابضة بالحياة، إليها يرجع المرء دون انقطاع. إنها ليست، بأيّة حال، نظريةً مجرّدة، ولا عرضًا حافلًا بالصور؛ بل هى سجل حقيقي للديانة البدائية، ولحكمة الحياة العملية”.

الرموز الدينية:

وهى نماذج مركّزة، تعبّر عن إشارة من إشارات دين معين، وغالبًا ما يمكن أن يكون أىُّ شيء مقدّسًا عندما يرتبط بقوة مقدسة فوق طبيعية. وهناك الكثير من الآلهة التي وضعت الأصول لترميز مظاهر الطبيعة، وقد نتج عن هذا تكوين الإرادات الإلهية، المتمثّلة فى (سماء الآلهة، عاصفة الآلهة، قمر الآلهة) على سبيل المثال، ولذلك حصلت كلّ أنواع المزج بين الآلهة والطبيعة من أجل تكوين الرموز الدينية.

يكشف مرسيا إلياد عن النظام الرمزي الذي يسيطر على الطقوس والمعتقدات الدينية، ويتناول بالتحليل رمزية صوت التنشئة، التي تعبر عن نهاية مرحلة فى حياة الرجل، وولادته من جديد، ورمزيات الصعود، وأحلام اليقظة، والطيران السحري، ويحفَل كتاباه “الأساطير والأحلام والأسرار”، و”صور ورموز” بتحليل وكشف الغطاء الرمزي لكل الممارسات الدينية.

حاول إلياد أن يعيد الممارسات الدينية إلى خارطتها الرمزية المتكاملة من خلال (التأويل)؛ فالإنسان عندما يمنح أي شيء القداسة، يُجري (تأويلًا) له، ويحوله إلى رمز. هكذا تكون الرمزية المقدسة لديه نهاية مجرى التقديس، وبذلك، يكون مجرى التجربة الدينية كما يأتى:

مدنّس (عن طريق التأويل) —> مقدّس (عن طريق التأويل) —> رمز.

المصادر
كتاب الأسطورة والواقع، لمرسيا إلياد.
كتاب أسطورة العود الأبدي، لمرسيا إلياد.
كتاب التصوف: الشرق والغرب، لرودولف أوتو.
كتاب المقدس، لرودولف أوتو.
 كتاب علم الأديان، لخزعل الماجدي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: برناديت محسن

اترك تعليقا