مداواة الآلام: لمحة تاريخية عن الألم منذ زمن السحر وصولًا للعلم التجريبي
نبذة مختصرة: مقاساة الآلام تجربة يمر بها البشر أجمعون، وعلى مدار التاريخ طوّرت نظريات وتقنيات لفهم الألم وعلاجه. في هذا المقال سنلقي نظرة سريعة على الألم ومعتقداته وطرق علاجه، منذ زمن الاعتقادات المتعلقة بالسحر والشياطين والدين وصولًا لأحدث النماذج العلمية التجريبية، من الأزمنة السحيقة والحضارات البدائية وحتى القرن العشرين.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، وعلى ضوء مفاهيم تشريحية وفسيولوجية وكيموحيوية جديدة، طُورت نظريات حديثة لفهم الألم، وصُنعت مسكنات الآلام وإجراء جراحات لتخفيف الألم والتحكم به. وعلى الرغم من ذلك، فالمعتقدات والأساليب القديمة لم تُستبدل تمامًا؛ بل ظلت حاضرة إلى حد ما في أذهان المرضى المعاصرين.
الأفيون: العامل الرهيب للألم والمتعة التي لا تُصّدق!
إدراك الألم جزء لا يتجزأ من الحيا، يمكن الإحساس به فقط عندما يكون المرء واعيًا، بالتفاعل مع قدرته على التذكر وتكامل المعلومات واتخاذ القرارات. توجد أدلة أن الكائنات الأخرى تشعر بالألم أيضًا، خاصةً الفقاريات الأخرى، مثل الثدييات والطيور وبعض الزواحف. الفرضية تستند على التشريح المقارن للجهاز العصبي (على سبيل المثال، تم التعرف على بعض أجزاء الدماغ المرتبطة بإدراك الألم، مثل الجهاز الشبكي النخاعي والجهاز الحوفي في مجموعة متنوعة من الفقاريات) وعلى الدراسات السلوكية المتاحة على الوعي، الذاكرة، وتكامل العمليات العقلية. وبناءً على هذه النتائج، يبدو أنه من غير المرجح أن تتمكن اللافقاريات من إدراك الألم.
إن الشعور بالألم، وإن كان غير مريح للفرد، ضروري لحماية الجسم من الأذى.
في غياب إدراك الألم، يمكن للتأثيرات الضارة أن تُحدث عواقب وخيمة محتملة على الجسم. على سبيل المثال، اللاحساسيّة الخلقية للألم هو مرض نادر سببه خلل في المسارات الحسية، يتسبب في حدوث إصابات عديدة بدون أن يُظهر المريض أي امتعاض؛ الإصابات، مثل: عض الشخص لسانه أو تعرضه لحروق أو كسور غير مُلاحظَة، شائعةٌ بين هذه المجموعة من المرضى. بالنسبة لهم، ليست هناك حاجة للمسكنات أثناء الجراحة، ووُثّقَت حالات تم فيها الولادة بدون ألم.
الألم إحساس مزعج يدفع المرء للبحث عن تفسير، يستخدم كل ما في وسعه لإيجاد سبب لهذا الانزعاج.
العصور الغابرة
واحدة من أقدم النظريات عن مصدر الألم هو أنه نتاج عناصر دخيلة تغزو الجسم البشري.
لم يكن من الصعب فهم الألم الناتج عن إصابات الحوادث؛ بل الألم النابع من الداخل هو ما صَعُب تفسيره، كان محيرًا وتَطَلّب شرحه افتراض إصابات غير مرئية. وارتبط سبب المرض المؤلم بتلبس الشياطين أو دخول السوائل السحرية أو الأرواح الشريرة في جسم الإنسان. لذلك، كان العلاج هو إخراج الكائن المتلبس، وكان يؤديه بشكل أساسي الشامانيون ورجال الطب والسحرة.
حاولوا درء أو إرضاء أو تخويف الشياطين الشريرة بمساعدة التمائم، والمنحوتات، والتعويذات، والطقوس السحرية. كان لفكرة تحديد مدخل الأرواح والشياطين في جسم الإنسان تأثيرٌ كبير على استراتيجيات العلاج؛ لأنه ينبغي للدخيل مغادرة الجسم بنفس الطريقة. في بعض الثقافات، تم إجراء عمليات جراحية للسماح للسوائل الضارة والأرواح والشياطين بالخروج. ربما هذا قد يفسر وجود عمليات ثقب الجمجمة في العديد من الثقافات المتباعدة جغرافيًّا. بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام العديد من الأعشاب والزيوت العطرية للتخفيف من الألم.
الحضارات القديمة
التفسيرات السحرية-الدينية للألم تواجدت في الحضارات القديمة، مثل مصر الفرعونية. كانوا يعتقدون أن الألم الغير متعلق بالإصابات كان سببه التأثيرات الدينية لآلهتهم أو لأرواح الموتى، تلك الأرواح قد تدخل الجسد عبر الأنف أو الفم. وبصرف النظر عن الاحتفالات أوالطقوس الدينية أو السحرية، تم استخدام الاستراتيجيات العلاجية القائمة على التجربة. في بعض أوراق البردي، تم وصف القيء والعطس والتبول كطرق لخروج للأجسام المتطفلة والشياطين، وَوُصفت الضفادع المقلية في الزيت موضعيًّا فوق الإصابات على الجلد لتخفيف الألم، واعتُقِد أن عدة تعويذات للإله حورس وآلهة أخرى تساعد في تخفيف الصداع من جانب واحد.
يعرف أقدم دليل أنثروبولوجي عن استخدام أوراق نبات الكوكا من ثقافة ما قبل الإنكا في بيرو، ويرجع تاريخه إلى حوالي 1300 قبل الميلاد. تم اكتشاف تماثيل تُصوّر أناسًا يمضغون الكوكا، بتاريخ 3000 قبل الميلاد، على ساحل الإكوادور، ونسبت إلى ثقافة فالديفيا.
الكوكا كان يعتبر نباتًا مقدسًا، وله دور مهم في أساطير وديانات العديد من قبائل أمريكا الجنوبية، وكان يستخدم للاحتفالات الدينية وكذلك للأغراض الطبية. كشفت حفريات المقابر البيروفية القديمة عن الاستخدام الطبي لأوراق نبات الكوكا كمخدر موضعي في عمليات ثقب الجمجمة.
الأفيون
استخدام الأفيون، الذي تم الحصول عليه عن طريق شق كبسولة غير ناضجة من نبتة الخشخاش، يمكن أن يعزَّى إلى ما قبل العصور القديمة الكلاسيكية. استخدمت الثقافات في آسيا الصغرى وفي مصر الأفيون لأغراض دينية وكدواء، و سماه السومريون “نبات الفرح”، واستخدموه لتخفيف الألم.
في عصر الأسرة الثامنة عشر (1500-1300 قبل الميلاد) تم جلب الخشخاش للاستخدامات الطبية إلى فلسطين من مصر. تم استخدامه في أشكال عدة، كحبوب وكمراهم للاستخدام الخارجي، كما استخدم خليط من الأفيون والقار لتخفيف آلام الأسنان. في الهند القديمة، وكذلك في الصين، تم استخدام الأفيون أيضًا لعلاج آلام الأسنان وآلام المفاصل. ومع ذلك، لا يمكن أبدًا فصل الاستخدام الطبي للأفيون في هذه الثقافات عن استخدامه “الترويحي”.
ويبدو أن استخدام الأفيون للاحتفالات الدينية والسحرية كان مهمًّا أيضًا. هناك قصة أسطورية عن أصل الأفيون في تراث الشرق الأقصى تقول: “قطع بوذا جفنيه ليبعد النوم عنه، ونبت الأفيون منهما، واهبًا النوم للبشرية”. كما كانت هناك أيضًا وصفات لاستخدام الأفيون لعلاج الألم عند الأطفال.
تم استخدام الكهرباء لتخفيف الألم في التهاب المفاصل الروماتويدي في مصر القديمة، وكذلك من قبل اليونانيين والرومان، كان على المرضى أن يضعوا الطرف المصاب في وعاء مع أسماك كهربائية نيلية حية أو أسماك طوربيد. وكان سمك السلور الكهربائي (Malapterurus electricus) يستخدم في مصر لعلاج الصداع، وكذلك تصلب المفاصل. أوصى الطبيب الروماني Scribonius Largus، في كتابه “Compositionses medicae” (حوالي 50 قبل الميلاد)، باستخدام أسماك الطوربيد الحية لعلاج الألم.
لعلاج الصداع المزمن، كان يجب وضع السمك على البقعة المؤلمة حتى توقُّف الألم. كما استخدمت الأسماك الكهربائية لعلاج الحالات الأخرى، مثل الكآبة أو الصرع. واستُخدِمَت المعالجة الكهربية العصبية حتى القرن التاسع عشر، عندما تم تطوير تقنيات جديدة لإنتاج الكهرباء وتجميعها. شمل الاستخدام الطبي للكهرباء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر علاج حالات مثل: الألم العصبي، والاضطرابات النفسية، وقضمة الصقيع، والاستسقاء، وعسر الهضم، والدنف، والحمى، والعجز الجنسي والقائمة تطول. كانت نظرية التحكم البوابي في الألم Gate control theory أول نظرية حديثة تشرح مبدأ العمل العصبي للعلاج بالكهرباء في علاج الألم، وتشمل خيارات العلاج الحديثة TENS (تحفيز الأعصاب الكهربائية عبر الجلد)، SCS (تحفيز الحبل الشوكي)، وكذلك DBS (تحفيز الدماغ العميق).
العصور الكلاسيكية القديمة
لعب الأفيون دورًا في الأساطير والأدب في اليونان القديمة. قدمت هيلين طروادة، في أوديسية هوميروس، مشروبًا لابن يوليسيس ورفاقه: “ثم وضعت هيلين ابنة زيوس مخدرًا في الخمر الذي شربوه؛ لتهدئ من ألمهم وروعهم، ولكي ينسوا كل أحزانهم، كل من ارتشف رشفة من ذاك المزيج لن تسقط دمعة واحدة على خديه. كان لدى ابنة زيوس أدوية قوية ومفيدة جدًا.”
على الرغم من أن المكونات الدقيقة لهذا الشراب غير معروفة، إلا أنه يتم تفسيرها عمومًا على أنها وصف للأفيون. في الإلياذة ، قام الطبيب Patroclos، الذي كان ماهرًا في الطب، بتخفيف ألم الجريح Eurypylus “بنثر الأعشاب على جرحه”.
وفقا لنظرية أبقراط (460-360 قبل الميلاد)، كان الألم ناتجًا عن اختلال التوازن في الأخلاط الأربعة: الدم والبلغم والمرة الصفراء والسوداء. بعض فقرات كوربوس أبقراط، التي تمت كتابتها بين عام 430 و350 قبل الميلاد بواسطة عدة مؤلفين، جمعت أوصاف الألم حسب الأعراض التي يشكو منها المرضى. لم يُنظر إلى الألم على أنه عَرَض بحد ذاته؛ وإنما كجزء من الحالة العامة للمريض.
“Divinum opus sedare dolorem” (تخفيف الآلام عمل مقدس)
إلى جانب الأدوية المستخلصة من النباتات (مثل: البنج، والبيروج، واليبروح الطبي أو تفاح المجانين، والأفيون) تم استخدام وسائل أخرى لتخفيف الألم، كالاستحمام بالماء البارد أو الساخن، والفصد. وُصف للمرضى شرب عصير أشجار الحور ولحاء الصفصاف المحتوي على الساليسيلات salicylates لعلاج أمراض العيون وآلام المخاض والحد من الحمى.
ألكمايون الكروتوني، كان تلميذًا عند فيثاغورس (566-497 قبل الميلاد)، اعتقد أن الدماغ -وليس القلب- كان مركز الإحساس والعقل. وقدم هيروفيلوس(335-280 قبل الميلاد) وإيراسيستراتوس( 310-250 قبل الميلاد) من الإسكندرية بعض الأدلة التشريحية من تشريح الإنسان إثباتًا لذلك. قام هيروفيلوس بوصف أجزاء متعددة من الدماغ، كان قادرًا على التفرقة بين المخ والمخيخ، وشرح مسار الأعصاب التي منشؤها الدماغ والحبل الشوكي. أوضح ألكاميون وهيروفيلوس أن الدماغ هو جزء من الجهاز العصبي، وأن هناك نوعين من الأعصاب: أحدهما للحركة والآخر للحواس، واعتبرا الدماغ الجهاز المركزي للإحساس ومقر الفكر. على الرغم من أن هذه النظرية قد دعّمها فلاسفة آخرون، إلا أنها لم تحظ بقبول واسع في اليونان القديمة. النظرية الأكثر شعبية كانت رأي أرسطو (384-322 قبل الميلاد)، التي تنص على أن القلب هو “مجتمع المحسوس”، مركز الإدراك الحسي والروح وكل وظائف الحياة الأساسية. ووفقًا لنظريته، كانت وظيفة الدماغ هي تبريد الحرارة التي ينتجها القلب.
أعاد جالين (130-201بعد الميلاد)، وهو طبيب في روما، تأكيد أهمية الجهاز العصبي المركزي. بالنسبة له، كان الدماغ مركز الحساسية ومركز الجهاز العصبي المتصل بالأعصاب الطرفية. ارتبط الإحساس بالألم باللمس والمثيرات الخارجية الشديدة التي تؤدي إلى إحساس مؤلم. ومع ذلك، كان يعتقد أن الألم أيضًا نتيجة للأحاسيس داخل الجسم. أكد جالين على القيمة التشخيصية للألم للتعرف على المرض الكامن وراءه، واعترف بالألم كإشارة تحذير من تغييرات داخلية أو خارجية مهمة لجسم الإنسان. ومثل هيروفيلوس، لم تحظ وجهة نظر جالين بقبول واسع، وسادت فلسفة أرسطو لقرون عديدة. وكدواء لعلاج الآلام، أوصى جالين بأعشاب مختلفة، مثل: الماندريك أو مخاليط تحتوي على الأفيون، بالإضافة إلى ترياق غير محدد (الشكل 1).
الملك ميثراداتس، الذي حكم في الفترة بين 133-63 قبل الميلاد، قام بتطوير ترياق شاف لجميع الأمراض، وسمي باسمه، عن طريق خلط بعض المواد السحرية كلحم الأفعى إلى مكونات الوصفة الأساسية. الوصفة تضمنت أكثر من 70 مركبًا مختلفًا كالأفيون، والقرفة والزعفران، والراوند الفلفل، والزنجبيل الذين يتم خلطهم بالخمر والعسل. كانت وصفة عالمية، وظل استخدامها شائعًا حتى أواخر القرن الثامن عشر.
الآراء القديمة والمسيحية المبكرة حول الألم اعتمدت، في كثير من الأحيان، الأفكار من ثقافات بلاد ما بين النهرين والثقافات اليهودية. كان هناك تحول في التفكير عن منشأ الألم، كان الألم من الأرواح الشريرة في هذه الثقافات، غالبًا ما تم تعريفه كعقوبة تابعة لارتكاب الخطايا أو كمحاكمة إلهية. “مَا بَالُكِ تَصْرُخِينَ بِسَبَبِ كَسْرِكِ؟ جُرْحُكِ عَدِيمُ الْبَرْءِ، لأَنَّ إِثْمَكِ قَدْ كَثُرَ، وَخَطَايَاكِ تَعَاظَمَتْ، قَدْ صَنَعْتُ هذِهِ بِكِ.” (سفر إرميا 30: 15) ونتيجة لذلك، حل الكهنة محل رجال الطب والشامانيين.
مكتوب في العهد القديم، وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَدًا.» [سفر التكوين ٣:١٦] أصبحت الفكرة المسيحية لتجاوز المعاناة منتشرة في أوروبا خلال العصور الوسطى، الشفاء والتخفيف من المعاناة كان في يد الله وقديسيه. “… وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ”. [رؤيا 21: 4] وتم تفسير الصلب المؤلم للمسيح كطريقة للخلاص والفداء، وحتى قبل صلب المسيح، “وَأَعْطَوْهُ خَمْرًا مَمْزُوجَةً بِمُرّ لِيَشْرَبَ، فَلَمْ يَقْبَلْ.” [مرقس 15:23]، ربما كان مشروبًا مخدرًا يهدف إلى جعل الموت غير مؤلم.
الإيمان بتأثير الدعاء يمكن أن يساعد فعلًا في تخفيف الألم.
من العصور الوسطى إلى عصر النهضة
في زمن العصور الوسطى، كان يُفهم الألم على أنه شكل من أشكال معاناة النفس العاقلة (anima sensibilis). الألم قد يؤثر على الجسد dolor أو الروح tristitia، على النقيض من هذا المفهوم الطبي، يضع الإيمان المسيحي الألم في سياق وثيق مع الشعور بالذنب والخطيئة؛ كان يعتبر تحمل الألم والحداد ممارسة لطلب راحة الله الشافية (كما أظهر المسيح ومريم وأيوب والشهداء). وفقًا لباسيليوس (330-379 بعد الميلاد تقريبًا) في أول سِفر للراهب المسيحي (Asceticon magnum)، نقل الله فن مداواة الآلام للإنسان. وذكر باسيليوس أن الإنسان محكوم عليه بالآلام بسبب خطاياه، ولذلك يُصاب بالأمراض، ولذلك على الأقل قد نقدم بعض الراحة للمعاناة المحتومة.
الإيمان بالعدالة الإلهية وعالم الغيب لم يقِ الناس من الآلام، ولم يجعلهم متبلدين في مواجهته. قام الرهبان الغربيون بترجمة وتطوير المفاهيم القديمة حول منشأ الألم ومعالجته (طب الدير). تظهر الصيغ التي تحتوي على الأفيون أو الترياق في وقت مبكر، كما في دليل (لورش) للأدوية من القرن الثامن، أو في “Circa Instans” الذي كتبه مؤلف مجهول من ساليرنو في بداية القرن الثاني عشر.
في نفس الوقت الذي تم فيه إنشاء أول كلية طبية في ساليرنو بإيطاليا، قام نيكولاس من ساليرنو بتلخيص المعرفة القديمة والعصور الوسطى، وكذلك تركيبات الأدوية العربية لأول مرة في كتابه المؤثر “Antidotarium Nicolai” (عام 1150 تقريبًا). ترتبط أكثر من نصف الصيغ الدوائية الموصوفة فيه بموضوع الألم، مع مؤشرات لعلاج الصداع، الأسنان، آلام المعدة، آلام الصدر والكلى. احتوت هذه المستحضرات على خليط من عوامل مخدرة مختلفة وعقاقير مستعملة، مثل الماندريك أو الأفيون. التنوع الكبير للأدوية مثير للإعجاب. تم تطبيق معظم الصيغ خارجيًا كمراهم، العلاجات المسكنة غالبًا ما تحتوي على نفس المكونات، مثل: المخدرات، والعقاقير المستخدمة في علاج اضطرابات النوم، أو للتدخلات الجراحية التي تنطوي على النشر أو الحرق أو القطع. كان التطبيق الداخلي للمخدرات معروفًا منذ العصور القديمة، وقد أشاد به إيزيدور إشبيلية (560-636) وغيره.
ترجمات غربية/لاتينية منذ القرن الثالث عشر أو الرابع عشر لطبيب العيون العربي علي بن الكحّال (توفي عام 1010)، أوصى فيها باستخدام المخدرات للعمليات المؤلمة. حول هذا الوقت ذكر ألبرتوس ماغنوس (1193 – 1280) خليط من ماندريك والنبيذ باعتباره مخدرًا قبل البتر، وأوصى هيرونيموس بوك (1498- 1554) بلحاء الماندريك المجفف لتخفيف الآلام: من اللحاء المجففة من ماندريك، يجب إعداد النبيذ كمشروب لجعل الناس مجانين / تعطى قبل الكي أو القطع، بهذا يجب أن يناموا ولا يشعروا بالألم. (بالألمانية في المصدر الأصلي)
بعض العلاجات المعروفة منذ العصور الوسطى أصبحت شائعة للغاية، وبقيت في دستور الأدوية حتى القرن التاسع عشر والقرن العشرين. منذ بداية القرن الثالث عشر، كان الترياق متاحًا مرة أخرى كعلاج ضد مختلف الظروف، وليس فقط لعلاج الألم. كما تم استخدامه لعلاج وباء الطاعون، واعتبر سلعة ثمينة. في ديكاميرون جيوفاني بوكاتشيو (1351 تقريبًا)، قام الجراح Mazzeo della Montagna من ساليرنو بإعداد مشروب لمريض قبل بتر ساقه، “كان من المقرر إجراء العملية في المساء، وفي نفس اليوم، أدركت أن المريض لن يكون قادرًا على تحمل الألم ما لم يتم تخديره مسبقًا، أصدر الطبيب وصفة خاصة تنص على تقطير سائل معين وإعطائه للمريض بهدف أن ينام، طالما أن الألم والعملية من المرجح أن تستمر”.
وكانت ممارسة أوروبية شعبية لخلط العديد من المواد المخدرة المختلفة، مثل: الأفيون، الماندريك، والهنبين، والخس مع إسفنجة وشمها أووضعها مباشرة على الجرح.. هذه الاسفنجة كانت تسمى “Spongia somniferum” = “الإسفنج المنوم”.
كانت الحجامة أو الفصد والمنفطات والتشريط جزء من العلاج الطبي أيضًا، وكان الهدف منها استخلاص المواد الضارة من الجسم. وفقا لجي دو شوليك، وهو جراح مشهور في العصور الوسطى، يمكن تخفيف الألم إما عن طريق إزالة سبب الألم عن طريق إخراجه من الجسم، أو -إذا لم يكن ذلك ممكنا- تسكين أجزاء الجسم المُتألمة. ويمكن القيام بذلك عن طريق التصدي للاضطرابات بعكسها؛ لذلك تم إعطاء العقاقير ذات الطبيعة المخالفة للاضطراب مثل الأفيون والبيروح الطبي وغيرها.
تم تنقيح “Antidotarium Nicolai” وكذلك كتابات جي دو شوليك من قبل الصيدلي هانز مينر (1389 تقريبًا) من زيوريخ في كتابه “المرادفات الطبية”، ويصف استخدام الأفيون على النحو التالي:
“الأفيون يدعم النوم ويخفف الصداع؛ لذلك ينشأ من الحرارة، إنه مخدر ويدمر الحس والفكر … أخشى منه…”.
بعد خمسين عامًا، ذكر ثيوفراستوس فيليبوس أوريول بومبستوس فون هوهينهيم، المسمى باراسيلسوس (1493-1541)، استخدام صبغة جديدة من الأفيون: اللوندوم (صبغة الأفيون).
يمكن اعتبار اختراع اللوندوم وإدخاله في علاج الألم بمثابة علامة فارقة في العلاج الدوائي، على الرغم من استخدام الصبغات المماثلة من قبل. رغم أنه غالبًا ما كان يستخدم بشكل غير لائق، إلا أن اللوندوم أصبح علاجًا شائعًا جدًا لظروف مختلفة، واستخدم حتى بداية القرن العشرين. كانت هناك العديد من الوصفات المختلفة للوندوم التي تحتوي على الأفيون، الكحول، التوابل المختلفة، البيروح الطبي، مستخلصات من السولانيكية المختلفة والأندريك (كان يعتقد أن نبتة البيروح الطبي فعالة جدًا إذا نمت تحت السلالم، وأنها تجعل مالك المنزل ثريًا ومحظوظًا).
وبصرف النظر عن معرفة الأفيون كدواء لتخفيف الألم، فإن بعض التأثيرات الخطرة المحتملة لهذه المادة كانت معروفة أيضًا قبل هانز مينر بفترة طويلة. حذر يوهانس سانت أماند ( 1312تقريبًا) فيلهلم من بريشيا (1326تقريبًا) أو كريستوفر جورجيس دي هونيستس (عام 1488) من سوء الاستخدام أو الجرعة الخطأ من هذه الأدوية. ذكر جاكوبس ثيودوروس (1520-1590) في كتابه “Neuw vollkommentlich Kreuterbuc” الآثار الخطيرة للأفيون على النحو التالي:
“لقول الحقيقة عن هذا الأفيون، هو ليس أي شيء آخر غير السم … إنه سيقمع حساسية جميع الأطراف … وسيقتل الإنسان أثناء النوم … لذلك لا ينبغي أبدًا استخدامه/ إلا في أعظم البؤس مثل الأرق / والألم الذي لا يطاق أو الذي لا يقهر … “. وأوصى باستخدام الأفيون بشكل معتدل.
المستحضرات التي تحتوي على مكونات من البيروح الطبي خرجت من الاستخدام حوالي 1600م بسبب مطاردة الساحرات witch-hunting على نطاق أوروبا، بعدما عزي التغير في الوعي الناتج عن تناول هذه الأدوية إلى تأثير الشيطان.
في الأجزاء القادمة سنستكمل الحديث عن النظريات الحديثة عن الألم وعلاجه، من القرن السابع عشر وحتى اليوم، فتابعونا !
العنوان الأصلي : Pain Treatment: A Historical Overview Article in Current Pharmaceutical Design · February 2004