رحلة لأولى القوانين في تاريخنا البشري
لقد بدأت جماعات من جنس متفوق كانت تعيش في الغابات على الصيد وجمع الثمار وتسكن الكهوف بهجر حياة التحصيل الغذائي، لتقوم بالاستقرار ومعرفة الزراعة وحياة المدن الصغيرة في الشرق الأدنى القديم.
منذ هبوط أسلاف البشر من فوق الأشجار إلى الأرض، الحدث الذي يصفه جون مكنيل بـ«الحدث الحاسم في تاريخ البشر»(1)، وظهور ما عرف بالإنسان المنتصب منذ 1.6 مليون سنة وتطورنا عبر ملايين السنين إلى ظهور جنسنا نحن الإنسان العاقل homo sapiens، ونحن سائرون في تطور مستمر في مجالات عدة، دينيًّا وروحانيًّا وتقنيًّا وحتى أخلاقيًّا.
لجأت بعض الجماعات التي كانت تعيش على الصيد إلى الزراعة واستخدام الحبوب، بشكل نتج من تراكم خبرات طويلة اكتُسبت من الأجداد صائدوا الحيوانات الذين قد تعودوا منذ زمن بعيد علي استخدام ألياف الكثير من النباتات التي كانت تمدهم بالألبسة والشباك وأوتار الأقواس وما شابه.
ظهور المجتمع
الاستقرار ومعرفة الزراعة، الحدث الذي ربما حصل لأول مرة في الشرق الأوسط على ضفاف نهر النيل ونهري دجلة والفرات، أدى إلى ظهور أشكال جديدة من المجتمعات ألا وهي المجتمعات الزراعية القروية شبه المتحضرة، بينما من بقي منا على نهج أجداده يصطاد في الغابات ويقتات على الأشجار فقد تحول لخطر كبير ضد استقرار حياة القرية والمدنية فيما بعد.
لقد ظهرت التشريعات والقوانين الأولى بسبب حاجة حكام المجتمعات الأولى لحماية مجتمعاتهم، وتحديد علاقة الفرد بالمجتمع، ولفرض المزيد من السيطرة على العامة، ويبدو أن الحكام الأوائل أنفسهم كانوا عساكر ومحاربين ضد همج وبدو السهول، وولّاهم شعب القرية ليدافعوا عنهم، وليديروا المجتمع الزراعي البدائي، وليحافظوا على الفائض من الغذاء والغلال.
وفي هذا المقال نريد الخوض داخل أعماق تلك المجتمعات والأخلاق والشرائع لنرى أولى وأهم التشريعات والقوانين البشرية التي وضعت من بدايات كتابة التاريخ، كشريعة حمورابي وقوانين ماعت العظيمة وصولًا لشريعة التوراة اليهودية المتناقضة والصارمة.
مؤسسة التابو والتحكم في المجتمع الأول
كان لدى الهنود الحمر والقبائل البدائية في أستراليا ما يعرف بطوطم القبيلة الذي كان يرمز لها ولقوانينها الخاصة، وكانت العشائر الطوطمية تشعر بالترابط سويًّا تحت مجموعة من الأخلاق والتابوهات التي تندرج تحت الطوطم(2)، ويبدو أن الأخلاق التي نشأت بشكل مستقل إلى حد ما عن الدين قد ارتبطت به بشكل ما لاحقًا(3)، كما ذكرنا مفهوم الطوطم والأخلاق سابقًا في مقال (…)
يقول فراس السواح في كتابه دين الانسان:
“إلا أننا نستطيع العثور لدى المجتمعات التقليدية على ما يشبه الأخلاق الدينية، وذلك في مؤسسة الـ(تابو) التي يمكن أن تشكل نقطة اتصال فيما بين الأخلاق الاجتماعية والأخلاق الدينية”.
يطرح السواح هنا أدلته التي تدل علي حجة موقفه وثبات وجهة نظره، إذ يُرجع الأصل في التابوهات المقدسة في أديان وثقافات الحضارات الكبرى للثقافات البدائية القديمة، بعض الأمور التي كانت مباحة في المجتمعات البدائية أصبحت محرمة أو العكس في الحضارات الكبرى.
ففي التوراة يأمر الرب نبي بني إسرائيل موسى بصنع المذابح من التراب والأحجار غير المنحوتة، “هكذا تقول لبني إسرائيل.. مذبحًا من تراب تصنع لي.. وإن صنعت لي مذبحًا من حجارة فلا تبنه منها منحوتة”، ويحرم الرب استعمال الإزميل الحديدي في تسوية الحجارة(4). فلماذا هذه الشرائع الغريبة التي يبدو أنه ليس لها سبب ما مفهوم؟
في بعض التابوهات الدينية الأخرى المشابهة لهذه المحرمات في عدة ثقافات أخرى، وكأنهم ثقافة واحدة.
في روما القديمة كان محرمًا علي الكهنة الحلاقة بموس مصنوع من حديد، وفي غابة أرفال المقدسة بجوار روما كان لا يجوز أن يدخلها الحديد أو أية أداة مصنوعة منه، لدرجة أنه لو أضطرت الظروف استعمال أدوات حديدية للنقش أو الكتابة على الحجارة كان يلزم تقديم ضحية تطهيرية مثل العجل أو الخنزير، وإلى وقت كبير ظل سكان جزيرة جاوة (في أندونيسيا) لا يستخدمون المحاريث الحديدية لزراعة الأرض، وكان بعض الهنود الحمر يستخدمون السكاكين الحجرية بدلًا من الحديدية، في كوريا سنة 1800 مات ملك بسبب ورم في مُهَره (غضاريف الضلوع) كان من الممكن علاجه بواسطة مفصد حديدي لكن الكوريين كانوا يعتقدون بوجوب عدم لمس الحديد.
واحد من أهم أسباب ارتباط الأخلاق بالدين وبالمقدس الأعلى نشأ مع بداية تحول الحياة القروية الريفية إلى الشكل الأول للحياة المدنية.
هنا كان الحاكم بمثابة الكاهن الأعلى ورجل الدين ورب القوم والمتحدث باسم الرب والسلطة الدينية، وفي أرض العراق بسومر القديمة كان الحاكم يطلق عليه اللفظ *إن* والتي تعني أيضًا الكاهن الأعلى.
ومن هناك “العراق” خرج لنا حاكم عظيم كان من أوائل البشر الذين قاموا بربط الأخلاق والشرائع والعقوبات بالدين، حينما ألحت الحاجة في المدن الأولى على الناس أن ينظموا أنفسهم وتصرفاتهم بشكلٍ أكثر صرامة.
شريعة حمورابي
“لو سرق رجل ثورًا أو حمارًا أو خنزيرًا أو قاربًا وكان من أملاك إله أو من أملاك قصر يدفع ثلاثين مِثلًا، وإن كان من أملاك قروي يرد عشرة أمثاله، أما إذا لم يكن لدى اللص ما يدفعه يقتل”.
هذا هو نص القانون الصارم الذي سنّه الملك البابلي حمورابي للحفاظ علي إمبراطوريته ممتدة الأطراف، ولأكثر من ألف سنة تركت هذه القوانين بصمتها على المنطقة والعالم والأديان التي ستظهر فيما بعد في منطقة الشرق الأوسط بأسرها والشرق الأدنى القديم وبخاصة الديانة اليهودية، وغطت هذه القوانين كل شئ من حقوق الملكية والسلوك الإجرامي إلى العبودية والطلاق، ولكن الأهم أنها تعهدت بعقوبات رادعة ووحشية لكل من يخالفها.
هناك اعتقاد خاطئ بأنه لم تسبق قوانين حمورابي أية قوانين أخرى معروفة، والحق أنه سبقها قوانين ملك مدينة أور السومري “أورنمّو”، وتشير الآثار إلى أن قانون الملك السومري لبيت عشتار، ملك إيسين، قد سبقت قوانين حمورابي بقرنين من الزمان.
استطاع حمورابي أن يقيد شعبه ويجبره على احترام قوانينه المقدسة الصارمة التي لا تعرف الهوادة ولا الرحمة.
كانت الجرائم الكبرى غالبًا ما تقابل بعقوبات مروعة، فمثلًا إذا قبض على ابن وأمه يمارسان الجنس، كانا يحرقان حتى الموت، إذا تآمر زوجان من العشاق على قتل شركائهما، فالعقوبة هي الموت بالخازوق لكليهما. حتى الجرائم الصغيرة نسبيًا يمكن أن تتسبب لمرتكبها بمصير مريع وبشع وقاس. وحاولت قوانينه أن تحافظ علي العلاقات الأسرية، فمثلًا إذا ضرب ابن أباه يكون جزاؤه قطع يده.
أما بالنسبة للجرائم التي لا يمكن إثباتها أو دحضها بدليل (كجرائم السحر)، سمح القانون بـ”التحكيم الإلهي” وهي ممارسة غير عادية، يوضع المتهم في وضع يحتمل أن يكون قاتلًا كطريقة لإثبات براءته.
وحسب القانون إذا قفز المتهم إلى النهر وغرق فإن المدعي “سيأخذ ملكية منزله”، ولكن إذا نجّت الآلهة المتهم، فسيعدم المدعي وسيمتلك البريء منزله.
“قوانين الماعت” كيف صاغت مصر قانون العالم
في ظني أن الحضارة البشرية هي حضارة واحدة، وأنا هنا لا أريد التحيز لحضارة أجدادي الفراعنة وأقول بأن الحضارة المصرية هي أولى الحضارات البشرية كما يفعل البعض من العامة والعلماء، وكما يفعل البعض الآخر ممن يدعون بأن حضارة سومر في العراق تسبق حضارة مصر وأنها أقدم منها، فهم بالنسبة لرأيى الشخصي أشخاص لا يستحقون الذكر ولا الاحترام.
سوف أذكر فقط نص قانون ماعت العظيم ولن أمجد فيه كثيرًا ولن أشير إلى المجد الذي قدمته أرض مصر إلى هذا الجنس وهذا الكوكب حتى فناءهما (فهذا شيء يعلمه كل ذي عقل).
كانت ماعت هي إلهة الحق والعدل والنظام في الكون، كانت تمَثَّل وهي تمسك بمفتاح الحياة
وكانت تمثِّل عند المصري القديم “العدل، الحق، النظام الكوني، والخلق الطيب النبيل”، وكانت قوانينها الـ42 (كعدد المحافظات المصرية آنذاك) تحث على الحب والغفران والصدق والتسامح، قوانينٌ ستشكل حياة شعب مصر النبيل والراقي، كما ستسري على الفرعون الذي يجب عليه الإلتزام بهذه القوانين مثله كمثل بقية الشعب، وسيعمل جاهدًا للمحافظة عليها.
هكذا صاغت مصر القديمة واحدًا من أروع وأعظم القوانين الأخلاقية في العالم القديم وفي التاريخ البشري كافة.
حول النبي موسى وشريعة العبرانيين
حينما قام الملك نبوخذ نصر بأسر اليهود وجرهم إلى بابل مع عدد آخر من شعوب المنطقة ممن لا وزن لهم ولا قيمة للقيام بمشاريعه الكبرى في أرض العراق، شكل اليهود كتابهم التوراة وشكلوا ديانتهم القومية، وبدأت كتابة القصص المقتبسة من الأساطير البابلية والسورية والسومرية وحتي المصرية القديمة، مثل قصة يوسف وفلك النبي نوح والطوفان، وتتشابه قصة موسى والنهر مع قصة سرجون الأكادي، وغيرهم، وكأي شعب آخر في العالم فقد أخذ اليهود من قصص الحضارات العظمى المحيطة بهم.
بحسب التلمود ولد النبي موسى بعد حمورابي بـ400 سنة(5)، وقد أُرسل موسى لينقذ شعبه من بطش فرعون مصر، وتحكي القصة الشهيرة المشكوك فيها بأنهم أخيرًا هجروا أرض مصر صوب أرض الميعاد عبر سيناء بمساعدة الرب، الذي مد لهم يد العون أيضًا لسرقة ذهب المصريات الذين لم يخوّنوهم.
انتهت شريعتي موسى وحمورابي بالإنذار والوعيد لكل من يعصي أحكامهما، ولقد أطلق الإسرائيليين علي شريعة العهد القديم شريعة العدل أو الأحكام “ميتشباتيم” وهي عين الكلمة البابلية Dinani أي “ديانة”، ودعى حورابي ديانته بالديانة العادلة وأطلق اليهود على شريعتهم أنها الشريعة العادلة.
لقد كتبت التوراة في بابل على يد كهنةٍ يهودٍ مغلوب جنسهم، كان اليهود حينها شعب لا حول له ولا قوة، بدو يعيشون بين مصر الحضارة وكنعان التي تذوب فيها القوميات وسيمفونية العراق وسوريا، فصنعوا لأنفسهم حضارة ودولة خيالية تتفوق على هذه الحضارات العظمى، وسرق اليهود من تراث هذه الحضارات ما شكلوا به دينهم وقصصهم وحروب ملوكهم داود وسليمان ضد شعوب هذا العالم الكبير، ومثلهم كمثل أي دين أو حضارة أخرى فقد أخدوا من محيطهم الثقافي، كما جاءت أديان أخرى لاحقة في المنطقة وأخذت من اليهود ما أخذت ثم أضافت عليه.(6)،(7).
المصادر: (1)الشبكة الإنسانية _جون مكنيل (2)الغصن الذهبي _جميس فريزر (3)،(4)دين الإنسان _فراس السواح (5)كتب التلمود كشروحات علي العهد القديم وهو كتاب يعتبر مهم أهمية التوراة عند بعض طوائف اليهود، كما أنه هناك بعض الطوائف التي لا تؤمن تؤمن به ولا توافق عليه. (6)كان هذا رأي كبار المثيولوجيين في الغرب ومن أهمهم (جيمس فريزر) الذي ذكر ذلك في أكثر من مناسبة وكانت له كتبه "الغصن الذهبي" وكتاب "الفلكلور في العهد القديم. (7)كما أن بعض الكتاب العرب أمثال السوري (فراس االسواح)تأثر بهذه الفكرة التي تنفي المكانة الكاذبة لليهود عبر التاريخ ويمكنك الإطلاع على ذلك خاصة في كتابه" الحدث التوراتي والشرق الأدني القديم"