عبثية محفوظ في ميزان كامو
قراءة في رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ
“إذًا أنتِ تتصوّرين أنّكِ قادرة على أن تفهمي في أيامٍ ما عجزت عن فهمه في شهور”.
“ثرثرة فوق النيل” _نجيب محفوظ
في البدء كان العبث:
العبثيّة هي مدرسة فكريّة، تعكس حالة الصّراع بين ميول الإنسان في البحث عن هدفه من الحياة، وعدم قدرته على ذلك. فالإنسان إذا أراد أن يعرف بحقّ، توجّب عليه أن يفحص كمًّا هائلًا من المعلومات، في وقت قصير للغاية، وبدون وجود قدرة على تأكيد أيّ معلومة. ومن هنا اتّجه بعض المفكّرين للسّخرية من كلّ هذا. فالعبثيّة هي أرقى مستويات السّخرية باعتبارها غير منطقيّة أو منسجمة مع شيء.
بدأت العبثيّة في القرن التّاسع عشر مع “سورين”، لكنّها انفجرت مع النّصف الثّاني من القرن العشرين، فقد انعكست الحروب العالميّة الّتي عاشرها هذا الجيل على فكره وأدبه، وخرجت موجة كبيرة من المفكّرين العبثيّين، تزعَّمها “يكيت”، و”يونسكو”، و”كامو”.
طلّة سريعة على “ألبير كامو“:
“كامو” هو ذلك الّذي عاش ينادي بالعبثيّة، فمات بها. وهو أحد أعظم من كتبوا، واستحقّ عن جدارة جائزة نوبل؛ لآرائه الّتي قد تبدو للوهلة الأولى صاعقة، لكن مع التّفكير فيها، ستكتشف كم عاشر هذا الرّجل الحياة وكيف تركت بصمتها الشّديدة في روحه فقرّر أن يسخر منها ويعبث!
“ميرسولت” -أو الغريب- هو النّموذج العبثيّ الّذي صاغه “كامو” في روايته الشّهيرة “فميرسولت“، وهو يرى أنّ الإنسان يعتاد كلّ شيء، لذلك لا يحمل همّ أيّ شيء. يتجرّد من كلّ القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، رافعًا شعار “كامو”: “أنّ الفضيلة والرّذيلة، صدفة أو نزوة”؛ لذلك يعاشر بكلّ هدوء، ويقتل بمنتهى البساطة. تعبّر عنه وبكلّ وضوح جملة الرّواية الافتتاحيّة: “بالأمس ماتت أمي، أو ربما ماتت اليوم، لست أدري”. هو بالفعل لا يدري، لا يدري أيّ شيء، ولا يبالي بأيّ شيء، فقط يحيا، وإذا انفجر هدم المعبد على كلّ من فيه.
عظمة رواية الغريب نابعة من أنّها كانت في الرّيادة، أرّخ بها “كامو” لميلاد الأدب العبثيّ، وقدّم نموذجًا مشبّعًا بكلّ أفكاره. لكنّي أراها غير موضوعيّة، معجب بها لكن كرواية! فمن الصّعب جدًّا أن نجد نموذجًا مشابهًا “لميرسولت” في الواقع، فهو يتجرّد من إنسانيّته، ويلقي بكلّ شيء عرض الحائط. ومن هنا تفرّدت “ثرثرة فوق النيل”.
“أنيس ذكي” و”محفوظ” الدّاهية:
لا أستطيع أن أقتنع أنّ “محفوظ” هو ذلك الموظّف الغلبان، الّذي يدخّن أرجيلته في هدوء وسلام، ثمّ يعود إلى بيته طامعًا في كتابة قصة أو رواية، تدرّ عليه بعض الأموال. إنّني أؤمن إيمانًا تامًّا أنّ “محفوظ” كان داهية، وأنّ عقله كان معملًا للأفكار. فـرواية “ثرثرة فوق النيل” هي أن يخلق الأديب نصًّا فريدًا في كلّ شيء.
بدايةً، قرّر “نجيب” أن يتخلّى عن كلاسيكيّته في البناء، وقام بصياغة شخصيّاته من خلال حوار “رجب”، ثمّ قرّر أن يهلوس “لأنيس” فقدّم لنا سردًا فريدًا، مزجه بأجزاء من مسرحيّة كانت تنوي أن تكتبها بطلتُه “سمارة”، ومرّر من خلال كلّ هذا رمزيات تطعن في عقلك وثوابتك. فهنا يصل “نجيب” بتجربته إلى أوجها، ويفتح لنفسه -بهذا النّصّ- الطّريق للانطلاق في مرحلته الفلسفيّة.
“ثرثرة” شاملة عن “الغريب”. فهنا لم يكتفِ “نجيب” بتقديم نموذج واحد للعبثيّ، بل صاغ لنا “أحمد نصر” الّذي يرى أنّ العبثيّة تقتصر على الأدمغة، و”مصطفى راشد” الّذي ينجح نهارًا ويعبث ليلًا. ومرّت سريعًا في الرّواية “سنيّة كامل” الّتي تعبث لتعدّد الأزواج، و”علي السّيّد” الّذي يرى أنّ المركب يسير بدونه، فلماذا يرهق عقله؟
ولتترك يا صديقي كلّ هذه الشّخصيات في كفّة، ولنتجه فورًا إلى”أنيس ذكي”.
“أنيس ذكي”: موظف دفن ابنه وزوجته، فقرّر أن يحيا عابثًا حتّى يدفن. على عكس “ميرسولت” اتّجه “أنيس” إلى العبث، لكنّه لم يؤمن به من البداية. كما أنّ “أنيس” يمتلك القدرة على تعرية الحياة، فيهدم لك الدّين، ويفسد المنطق. أمّا “مارسويت” فيصمت تمامًا؛ لينفجر في ثورة. “أنيس” هو ذلك الذّي أدرك أنّ الحياة تتأرجح كالعوّامة، وأنّ العوّامة هي عاقبة الفهم. بينما “ميرسولت” لم يهتم بأن يفهم، بل حصل على عبثيّته وتبلّده من مرار الأيام وتكرارها.
ومن هنا، يتكشّف لنا أنّ “محفوظ” تمكّن من صناعة نموذج فريد مستمدّ من الواقع، ومشبّع بالأفكار. كما أنّ عظمة هذا النّموذج لم تمنعنا من التّمتّع برواية مكتملة الأركان، يتنوّع أبطالها، وتتعدّد رمزيّاتها، وتتدلّى كقطعة من الألماس لتزيّن أدب “محفوظ” العظيم.
نهايةً، أرى أنّ”محفوظ” قد استطاع أن يتغلّب على “كامو”. فقدّم لنا عملًا عظيمًا، ونموذجًا سنصطدم به ما حيينا. فهو يعبث ليهرب، لا يحيا ليعبث.