كائنات وقتية
كيف ترى نفسك كـ "مواطن عربي" بعد أربع أو خمس سنوات؟
المشرفة على تقييمي اللغوي كمتحدث متعدد اللغات، في امتحان اللغة الأخير، سألتني كيف ترى نفسك بعد أربع أو خمس سنوات من الآن؟
لم أستطع أن أتمالك نفسي من الضحك. بصراحة، لمحتُ بعينيها أنها تعتبرني وقحًا فظًا، دون أن تُفصح عن ذلك طبعًا، فقد استغربتْ استغراقي بالضحك في امتحانٍ المفترض منه أن يضغط على الأعصاب، ويُفقدني مهارتي اللغوية المفترضة.
استطعتُ بعد ذلك أن أستجمع نفسي وأطلق اعتذارًا سريعًا وتبريرًا مفصلًا لقلة أدبي وتصرفي الفظّ.
قلتُ لها: “صدقيني يا سيدتي لو سألتِني هذا السؤال بلغتي الأم لما استطعتُ أن أجد لك جوابًا، فنحنُ يا سيدتي المحترمة كائنات وقتية، لا نعرف لنا مستقبلًا أو أحلامًا أو تطلعات”.
نحن يا سيدتي، ككائنات عربية المولد والموطن، يصعب علينا التكهن بالغد، فمصائرنا وأرزاقنا وخطواتنا المستقبلية ليست في متناول حتى آمالنا، بل هي معلقة دومًا بغيرنا وتخص دومًا أناسًا وأشياء غيرنا.
لا، لا أقصد أمرًا دينيًا، بل هو دنيوي بحت، فالدولة بأذرعها يا سيدتي هي المسؤول الأول عنا وحتى الأخير.
أعلم، كمواطن عربي، أنني أخرج من المنزل قاصدًا عملي، هذا بالمتناول، أما أن أصل أو لا.. فهذا تحدده الدولة وليس أنا.
ربما ينهار جسرٌ ما أشادته جهة سيادية ما، أو ربما يخرج قطار ما عن مساره، أو ربما تصطدم بي سيارة أحد الشباب المتعبين نفسيًا من مشاغل أولياء أمورهم المشغولين بأمور المواطنين!
ربما يغتابني أحد يكرهني وتعتبرني الحكومة خطرًا على السلم الاجتماعي فتقرر احتجازي إلى إشعار آخر. ربما تريد الحكومة أن توحد الصف وتشد من أزر المواطنين فتخترع تفجيرًا إرهابيًا تنسبه لمجهول يصطادني من بين الجموع.
عندما كنتُ طالبًا جامعيًا، انتسبت في أولى سنوات دراستي للكلية مع أكثر من ألفين وستمائة طالب آخر، وعندما تخرجتُ بعد عمر طويل، استلمت شهادة تخرجي مع نيف وسبعين طالبًا آخر فقط، لا أدري أين علق الباقي أو فُقدوا. لم نكن نعلم متى سنتخرّج، أو ماذا سنفعل حينها، كانت المتعة تفرض علينا أسلوبها فلا نشغل بالنا بالمستقبل.
نعم هي متعة حرمكم منها نظامكم الرياضي القانوني الصارم، فلا أدري كيف تستمتعون وأنتم تتلقون نبأ تعيينكم في وظيفة لطالما حلمتم بها وأردتموها واستعددتم لها.
أما بالنسبة لاختصاصنا العلمي، فهو أيضًا مفاجأة. ربما لا تعرفين أن جميعنا نتمنى أن ندرس الطب البشري وأن المفاضلة هي من توزعنا على الكليات المنتشرة على أرض الوطن المعطاء.
كلنا في بلادنا مهمّون وقياديون، وحتى إن فشلنا دراسيًا، فستتاح لنا فرصة الدراسة في كلية الشريعة لنقود المصلين، وسيتم منحنا شرف الخطابة في مساجد إحدى القرى التي سيتولى أهلها تزويجنا وتأمين دخل لنا، فهذا الوطن لا ينسى أبناءه يا سيدتي ولا يتركهم للصدفة.
تسألينني أين أرى نفسي بعد عدة سنين؟
أمر محيّر ومربك جدًا ولم أحلم يومًا برفاهية كهذه. قد تعتبرينني أتهرّب من السؤال، وأصدقك القول إنني لا أفعل، بل أتهرّب من التفكير به، فأنا مواطن عربي يا سيدتي، والتفكير المستقبلي بشكل مستقل لطالما كان نشاطًا محظورًا عليّ.
فاعذري تلعثمي وتهتهتي وأسعفيني بسؤال آخر أتقن التعامل معه بأريحية.”