نوستالجيا العرب… حين يغيب العقل وتسود العاطفة…

هل المصريون والعرب شعوب ماضوية؟

“اعلم أن الدنيا ثلاثة أيام، فأمس عظة وشاهد عدل، فجعك بنفسه، وأبقى لك وعليك حكمته، واليوم غنيمة، وصديق أتاك ولم تأته، طالت عليك غيبته، وستسرع عنك رحلته، وغد لا تدري من أهله، وسيأتيك إن وجدك”
– أكثم بن صيفي… أحد أكثر العرب بلاغة وحكمة إن لم يكن أكثرهم.

نوستالجيا هي كلمة يونانية مكونة من شقين، نوست بمعنى العودة أو الرجوع، وجيا ومعناها الألم أو الحنين. والمعنى الاصطلاحي للكلمة كاملة هو الحنين إلى الماضى…

إذا نزلت أيّ شارع في أي مدينة في أي دولة من دول الناطقين بالعربية وجربت سؤال أي شخص عن الأزمنة الثلاثة التي يعيشها الإنسان وتعيشها الأمم، سيجيبك من فوره بأنها الماضي والحاضر والمستقبل، وربما يكون على قدر ما من التعليم والحصافة فيحدثك عن الماضي القريب والماضي البعيد وكذلك المستقبل القريب والمستقبل البعيد. ولكن مَن مِن هؤلاء سيكون على استعداد للتعامل مع الماضي وشخوصه وأحداثه تعاملًا مجردًا محايدًا بعيدًا عن العاطفة وخاليًا من الحنين؟

أظن الأمر لا يحتاج إلى توضيح، والسؤال لا تعوزه إجابة.

تعيش العرب العاربة والعرب المستعربة حالة (نوستالجيا) عامة على المستوى الجمعي وكذلك حالة نوستالجيا ذاتية شديدة التركيز على المستوى الفردي الشخصي، فلا تكاد تسأل أحدهم أو تفتح معه بابًا للنقاش حول ما نحن فيه من تردٍ حضاري وانحطاط أخلاقي وتراجع معرفي واستبداد سياسي وفقر مالي وتنازع طائفي واحتراب أهلي وكل ما يعنّ لك ويخطر ببالك من مظاهر غياب العرب العميق عن كل ما له صلة بالعالم المحيط، إذا سألته عن ذلك فلا تتوقع غير إجابة واحدة وهي أننا تخلينا عن ماضينا المشرق الزاهر وعن أصولنا وتبعنا الغرب فكان ما كان وصار ما صار، وأن الحل الوحيد فى رأيه هو العودة إلى الماضي الجميل بكل ما فيه من طوباوية فردوسية زاهية.

يمثل الماضي للمواطن العربي مجموع الأزمنة الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) فهو يحن إلى الماضي ويعيش حاليًا في الماضي ويتمنى في المستقبل العودة لذلك الماضي، في تقوقع وتشرنق مرضي داخل شرنقة الماضي الحالم الجميل -الذي لم يكن كذلك أبدًا للعلم-  واغتراب ومفارقة للحاضر وذهول عن المستقبل بحجة أنه غيب لا يعلمه غير الله سبحانه.

هذا التعلق المرضي بالماضي يؤدي بطبيعة الحال إلى الانكفاء على الذات ونبذ العالم والانكماش في التعاطي والتعامل معه وكذلك يؤدي لكره كل مختلف لا ينتمي لذات المنظومة وذات الثقافة ونفس الماضي الذي انتمى إليه، هذا طبعًا مع تمكن فكرة التعالي والتفوق على كل مختلف ومخالف استنادًا للماضي، إلى جانب عدم الاعتراف بالمأزق الحضاري الذي تعيشه العرب قاطبة وإرجاعه كما سبق إلى ابتعادنا عن الماضي الجميل.

كل ذلك يؤدي بالتراكم والتآلف إلى تضخيم وهمي للذات وتكوين فقاعة كاذبة من الخيالات والقناعات الوهمية عن التفوق والسيادة والريادة والخيرية على سائر الأمم والشعوب والثقافات، مما يؤدي إلى انصراف حقيقي عن معالجة كل المشاكل التي يعانيها ويكابدها الوطن والمواطنون وتركهم أو قل تأجيلهم للحلول إلى حين وإلى وقت غير معلوم حينما… نعود للماضي التليد.

عالم النفس والفيلسوف السويسري الفرنسي جان بياجيه، يقسم مراحل النمو المعرفي لدى الأفراد إلى أربعة مراحل رئيسية:

1- المرحلة الأولى وهي مرحلة حسية حركية لا توجد بها بناءات ذهنية وتبدأ منذ الولادة وحتى عمر سنتين ( 0-2 )
2- المرحلة الثانية من ( سنتين — سبع سنوات ) وهي مرحلة ما قبل العمليات حيث يكتسب فيها الإنسان اللغة ويكون بناءات ذهنية أكثر تعقيدًا ولكنه يظل غير قادر على فض المركزية، أي الانفصال عن ذاته ورؤية الأشياء من منظور مختلف.
3- المرحلة الثالثة من ( 7– المراهقة ) يبدأ في التساؤل عن الحياة ويحل المشكلات ولكن بشكل عشوائي ولكنه مرتبط بالأحداث والأشياء، أي يعتمد على رد الفعل نتيجة الأحداث والمرئيات التي يتعامل معها.
4- المرحلة الرابعة حين يكون لديه القدرة على التفكير المنطقي المعقد والتفكير التجريدي غير المرتبط بالأحداث والأشياء والتفكير الافتراضي والحل المنطقي للمشكلات

وهناك من علماء النفس من ينصح بإضافة مرحلة خامسة أعلى وأرقى مما سبقها وهي مرحلة التفكير الجدلي Dialectical Thinking وهي مرحلة بعد-منطقية وفيها يكتسب الإنسان التفكير النقدي ويدرك مفارقات الحياة ويتناول الأسس التحتية التي يقوم عليها المنطق ويضعها موضع التساؤل والنقد، وهذه المرحلة غير عمومية وغير بيولوجية ولا يبلغها الإنسان إلا بالتعلم والتدرب والممارسة.

بعد قراءتك لما سبق، لو سألت نفسك في أي مرحلة يمكن أن يتواجد العرب كأفراد وجماعات؟
فى مرحلة ما قبل الطفولة، أم مرحلة الطفولة ذاتها، أم مرحلة المراهقة والعشوائية، أم مرحلة النضج والتفكير المنطقي؟

ربما لن تخرج إجابتك عن المرحلتين الثانية والثالثة إذا كنت ممن يتصفون بالحيادية ويتحلون بالمنطق في التفكير.
في أغسطس 1945 خرج وينستون تشرشل على البريطانيين عبر الإذاعة ليبثهم خبرًا طال انتظارهم وشوقهم إليه وهو استسلام وهزيمة ألمانيا النازية، فرح البريطانيون ورقصوا فى الشوارع وهتفوا باسم تشرشل بطلهم ومنقذهم، وبعد أربعة عشر يومًا اسقطوه فى الانتخابات البرلمانية وأتوا بحزب العمال بديلًا عنه.

فى 9 يونيو 1967 خرج الزعيم جمال عبد الناصر على التلفزيون ليخاطب المصريين والعرب معترفًا بالهزيمة ومقرًا بالمسؤولية، فخرجت الجماهير تطالبه بالبقاء من أجل إكمال المسيرة، ورفضًا لتنحيه وفرضًا لبقائه رئيسًا وزعيمًا وقائدًا.

ترى ما الذي جعل الإنجليز يسقطون تشرشل القائد المنتصر وجعل المصريين يصرون على بقاء عبد الناصر القائد المنهزم؟

بالتأكيد إجابة هذا السؤال مرتبطة بإجابة السؤال السابق عن تصنيفك للعرب وفي أي مرحلة من مراحل النمو المعرفي الإنساني يقبعون.
انتشرت في الآونة الأخيرة حملات عدة تهدف إلى إحياء وإعادة الروح للأصول التاريخية لشعوب المنطقة، فهذه دعاوى للعودة للأصول الفرعونية في مصر والقرطاجية والبربرية في شمال وغرب أفريقيا، وتلك دعاوى للعودة للأصول الفينيقية بلبنان والشام، وهناك دعاوى للعودة للأصول الآشورية البابلية في العراق، هذا خلافًا للدعاوى القديمة الحديثة والمستمرة للعودة للماضي العروبي التليد أو الماضي الإسلامي المشرق.

فى رأيي الشخصي المتواضع، أرى أن كل ذلك تهافت لا طائل منه وإن كان بعضه محمودًا ولكنه ذو نتيجة واحدة، ومردود واحد وهو أننا سنظل نعيش في الماضي وحلم العودة إلى الماضي، تاركين الحاضر وذاهلين عن المستقبل وغائبين عن الوعي فى حالة أشبه ما تكون بحالة المتعاطي للمخدر بكثافة فصلته عن الواقع وغرّبته عن الحاضر المحيط

أرى أن الدعوات للعودة للأصول كلها، المحمود منها والمذموم، مثل حال امرأة فقدت شبابها وراح عنها جمالها وفارقها بهاؤها، تلك المرأة التي كانت يومًا ما جميلة يؤذيها وقوفها أمام مرآتها لترى ما حل بها من أثر السنين وفعل الزمن، فأنكرت ما رأته وغضبت من واقعها، فقامت بلصق صورها إبّان شبابها لترى فيه ماضيها الجميل وشبابها الراحل.

ذلك الماضي الذي يحجب عنها الحاضر ويغيب عنها الواقع ويغرقها في أحلام وذكريات لن تفيق منها إلا وهي مفارقة للحياة وراحلة عن الوجود.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد محمود

تدقيق لغوي: ندى حمدي

الصورة: أحمد الشناوي

اترك تعليقا